"من أي جنسية أنتم لو سمحت؟.. من المغرب.. ياهلا بيكم تفضلوا"، كانت هذه صورة مصغرة عما يكنه السعوديون وأهل الخليج من احترام للمغاربة على وجه الخصوص، حين هممنا بدخول أحد المراكز التجارية، أو ما يعرف ب"المول" وسط العاصمة السعودية الرياض، حيث لا يسمح بدخول شباب عزاب لوحدهم، كون المكان مخصص للعوائل.. مرحبا بكم في عاصمة العالم الإسلامي، كما يفتخر بتسميتها السعوديون. من المطار تبدأ قصة زيارة الرياض المثيرة، التي جاءت بمناسبة تغطيتنا الإعلامية للقمتين الخليجية-المغربية والخليجية-الأمريكية بحر الأسبوع المنصرم داخل قصر الدرعية بالرياض، (تبدأ) من مطار محمد الخامس الدولي بالدار البيضاء، حيث كل النساء المتوجهات إلى العاصمة الإسلامية يرتدين لباسا عاديا، ومنهن من ترتدي عباءة سوداء، أو ما تسمى "العباية"، ذائعة الصيت في بلدان الخليج. بعد 7 ساعات ونصف، تحط الطائرة بمطار الملك خالد الدولي، فتشرع جميع النساء بمن فيهن غير المتحجبات، في ارتداء "العباية" والنقاب.. إنه الزي الموحد والوحيد في السعودية، وأي لباس آخر، وبلون غير الأسود، يعرض صاحبته للغرامة؛ أما الرجال فأحرار في لباسهم، ماعدا ما هو دون الركبة والكتفين. في مدخل المطار السعودي، كل شيء يحيل على أن المجتمع هنا محافظ بشكل عميق، فالآيات والأحاديث والأدعية منتشرة في كل مكان، وحتى إن تأخرت خدمة الجوازات لأن الموظف في هذه المصلحة يعبث في هاتفه، إلا أن ذكر الله يلازمه، فالأمر بات عادة أكثر مما هو عبادة.. ووسط هذا الجو الديني، تصدمك للوهلة الأولى لقطة مثيرة تبعث في النفس تساؤلات، إذ يسمح للسعوديين بالمرور أولا ودون أي تأخير للتأشير على وصولهم؛ فيما يبقى ذوو الجنسيات الأخرى متفرجين حتى ينتهي "أصحاب البلاد".. سألنا عن السبب، فلم نجد جوابا سوى أن الأمر جارٍ العمل به أيضا في دول غربيّة! كأي بلاد يرتبط شعبها بالعائلة الملكية الحاكمة، مثل المغرب، تنتصب في شوارع الرياض وعلى واجهات الشركات الكبرى لافتات كبيرة للعاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده وولي ولي العهد، متبوعة بعبارات الثناء والولاء، ومنها عبارة: "نبايعك على السمع والطاعة"؛ وهو الارتباط الذي يظهر في التسميات التي اختيرت للمحجات والشوارع التي طبعت بألقاب وأسماء ملوك وأمراء السعودية.. كما لم تخل هذه المسارات الطرقية من أسماء تعنى بالمغرب، ومنها شارع محمد الخامس والصحراء المغربية، إلى جانب أسماء صحابة وأماكن مقدسة. الصلاة مقدسة كباقي العواصم الخليجية، تنتشر "المولات" أو المراكز التجارية الضخمة في الرياض، فهي أبرز متنفس للسعوديين، إلى جانب عدد من المرافق الأخرى التي لا تقل أهمية، مثل المقاهي والمطاعم، لكنها متنفس بطعم آخر وأجواء سعودية جد خاصة. صادف دخولنا إلى أحد تلك المراكز فترة غروب الشمس، لتشرع كل المحلات في إغلاق أبوابها أمام الزائرين، بغرض التوجه إلى أداء صلاة المغرب، فالصلاة هنا مقدسة.. وحتى إن كنت تتهيأ لاختيار أو شراء سلعة وجب عليك ترك كل شيء التزاما بحرمة الصلاة.. وحدهن النساء بقين في الساحة واقفات ومتجولات أو جالسات في الكراسي وعلى الأرض؛ إذ لا تخطئ عينك منظرا يعمه السواد على امتداد المركز التجاري. الحريم ما يثير انتباه زائر متاجر الرياض أن بعضها تضع إعلانا صغيرا على الباب، كتب عليه: "للعوائل فقط"، بحيث لا يمكن لرجل عازب أو متزوج أن يدخل لوحده، دون "حريم".. سألنا أحد الباعة عن السبب فأجاب: "قد تكون سيدة تسير المتجر، ولا يجوز أن تدخل منفردا لتشتري.. هذه هي الشريعة ولله الحمد". وفي محاولة لفهم هذا الإجراء عمليا، دخل صديقنا إلى محل العوائل، تقدم خطوة واحدة، قبل أن تصرخ صاحبة المتجر المنقبة في وجهه: "ارجع.. اخرج.. المحل للعوائل!". عند باب "مول" آخر، استوقفنا حراس الأمن موجهين لنا هذا السؤال: "أين أنتم ذاهبون حياكم الله؟"..أجبنا: "إلى المول طبعا، نريد اقتناء حاجيات"، فقال أحدهما: "والله ممنوع طال عمرك.. في عوائل هنا"؛ وأمام استغرابنا سألنا مرة أخرى: "انتو منين؟"، وحين عرفنا مغاربة رحب بنا قائلا: "ياهلا والله بيكم تفضلو حياكم الله..". ولجنا المول.. وبعد دقائق لحقنا أمني آخر؛ طرح الأسئلة ذاتها فأجبناه مثل السابق، ليحيينا بحرارة أشد من الأولى. يبدو جليا غياب قانون يمنع من الدخول إلى تلك المرافق بالعاصمة السعودية، لكن العادة هنا تسمو فوق الجميع.. والغاية منها، وفق من سألناهم من السعوديين، هو الحفاظ على الجو العام المحافظ للدولة التي تعد مركز العالم الإسلامي.. في حين لمسنا جليا كيف أن السعوديين يكنون للمغاربة احتراما كبيرا.. وهو الاحترام الذي يظهر بشكل عميق على مستوى العلاقات التاريخية والسياسية الراسخة بين ملوك البلدين على مدى العقود الطويلة. الاختلاط ممنوع من المستحيل أن ترى أو تكلم فتاة أو سيدة سعودية خارج الإطار العائلي، فمنذ الصغر يعيش الذكور في معزل عن الإناث في المؤسسات التعليمية وفي الجامعات وحتى في أماكن العمل.. وكل هذه السياسات تجد لها مسوغا في الدين وفي الأعراف والتقاليد. في الرياض، ليست هناك مقاه مختلطة.. لن تجلس إلا في مقهى ذكوري محض، وفي بعض الأحيان يفصلك حائل خشبي أو إسمنتي عن النساء المنقبات. في حين قد تجد بشكل كبير عددا من المقاهي والمطاعم المخصصة فقط للعائلات..حيث تجد رجلا بمعية زوجته وأبنائهما، وحتى رجلا رفقة زوجاته الأربع، وهم يستمتعون بوجبة خفيفة أو فنجان شاي، وما شابه من المأكولات والمشروبات. ممنوع هنا أن تقود المرأة السيارة، ومن أرادت منهن الخروج لوحدها تحتاج إلى سائق خاص أو "محرم" من عائلتها، ورغم ذلك يسمح في الرياض أن تخرج بعض النساء لوحدهن في مجموعة تضم من 2 إلى ما فوق.. كما هو حاصل في شارع "التحلية" الشهير، العامر بالمقاهي، والذي يرتاده جمع غفير من الشباب، ذكورا وإناثا، إلى وقت متأخر من الليل. لا يخلو شارع التحلية من حالات التحرش بالفتيات المنقبات عن بعد، ودون الاقتراب منهن، إذ يبقى التخوف قائما في مثل هذا الحالات من ضباط هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تقوم بدور "ضبط الأخلاق" في الأماكن العمومية. خصوصيات مجتمع لا يمكن لزائر لأيام معدودات أن يحكم على واقع مجتمع ضارب في أعماق التاريخ، ويمتد إلى فترة ما كان يسمى قبل قرون ب"الجزيرة العربية"، فالسعوديون يرون أن كل تلك الأعراف التي تحكم حياتهم لها مسوغات تاريخية ودينية أيضا، لكن هذا لا يخفي النقاش الدائر حاليا داخل المجتمع السعودي، والذي يجد تفاعلا نسبيا من قبل أصحاب القرار، ويرى فيه البعض قابلية للانفتاح غير المسبوق.. ولا شك أن أبرز تمثلاته ظهرت جليا في ترشح النساء السعوديات في الانتخابات البلدية لأول مرة في التاريخ.