رحيل أسطورة الكرة المغربية أحمد فرس عن عمر 78 عاما    الكاف يختار غزلان الشباك ضمن التشكيلة المثالية لدور مجموعات "كان السيدات"    النيابة العامة: المعتصم فوق خزان للمياه شنق نفسه وليس هناك أي شكاية حول وفاة والده    العثور على جثة شخص قرب شاطئ السواني بإقليم الحسيمة    هيئات حقوقية وحزبية پإوروبا تتضامن مع المهاجرين المغاربة بمورسيا    أتلتيكو مدريد الإسباني يعزز صفوفه باللاعب كاردوسو القادم من ريال بيتيس    الدار البيضاء: توقيف مواطن فرنسي موضوع أمر دولي بإلقاء القبض    أمين لام يتألق في "هاك وارا" من توقيع منعم سليماني -فيديو-    الحسن الثاني ومانديلا.. ذاكرة دعم مغربي مبكر لحركة تحرير جنوب إفريقيا قبل أن يعترف بها العالم    58 ألفا و573 شهيدا حصيلة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ بدء الحرب    هيئة مغربية تدين العدوان الإسرائيلي الغاشم على سوريا وتدعو لوقف إفلات تل أبيب من العقاب    لجنة تسيير قطاع الصحافة تسلم حصيلتها للحكومة وتوصي بإصلاح جذري ينطلق من تأهيل المقاولة والإعلاميين    محكمة كيبيك تدين هشام جيراندو بتهمة التشهير وتعويضات تفوق 160 ألف دولار    مقتل مغربي طعنًا في اسبانيا    ارتفاع طفيف في أسعار الغازوال واستقرار في البنزين بمحطات الوقود بالمغرب    الدورة الثانية لمهرجان العيطة المرساوية تنطلق عبر ثلاث محطات فنية بجهة الدار البيضاء سطات    المساعدات الدولية للبلدان الفقيرة في مجال الصحة قد تسجل أدنى مستوياتها منذ 15 عاما    أكثر من 300 قتيل في جنوب سوريا    في المؤتمر الإقليمي الخامس بالناظور.. إدريس لشكر الكاتب الأول: حزبنا بيت الديمقراطية، والعدالة المجالية مدخلٌ للتنمية ومصالحة الوطن مع أطرافه    بورصة البيضاء تغلق على الانخفاض    النقابة المهنية لحماية ودعم الفنان تنتفض ضد إقصاء الفنانين وتجاهل حقوقهم في مهرجانات الشواطىء    رحلة إلى قلب الفلامنكو في مسرح رياض السلطان بطنجة    خواطر وهمسات على أديم الفضاء الأزرق    حميد الدراق: الحكومة أخلفت وعودها في النمو والقدرة الشرائية وتورطت في مديونية مقلقة    الحشرة القرمزية تعود لتهدد حقول الصبار بالمغرب    هل تكتب أو تنشر أو ترسم للأطفال؟..الجائزة الدولية لأدب الطفل ترحّب بالمواهب المغربية والعربية.    إحداث نحو 49 ألف مقاولة بالمغرب مع نهاية ماي منها أزيد من 15 ألفا في البيضاء    وزارة الثقافة الفرنسية: المغرب خزان فني في ازدهار مستمر    التقدم والاشتراكية: احتجاج آيت بوكماز تأكيد على ضرورة النهوض بالعدالة المجالية والاجتماعية    الاتحاد الدولي لكرة القدم يكشف عن برنامج بيع تذاكر كأس العالم 2026    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء طنجة    إسرائيل تقصف رئاسة الأركان السورية    أحزاب إسبانية تقاضي زعيم "فوكس" بتهمة التحريض على الكراهية ضد المهاجرين المغاربة    اختتام برنامج "تجديد المعارف" لفائدة الأطر الحاصلين على رخصة "كاف برو"    مسلسل "سيفيرانس" يتصدر السباق إلى جوائز إيمي بنيله 27 ترشيحا    خامنئي: هدف الحرب إسقاط النظام    دراسة: تناول البيض بانتظام يقلل خطر الإصابة بمرض الزهايمر لدى كبار السن    توقعات أحوال الطقس لليوم الأربعاء    هيئة أطباء الأسنان الوطنية تدعو إلى تعزيز الثقة في ممارسة المهنة    لامين يامال يواجه عاصفة حقوقية في إسبانيا بعد حفل عيد ميلاده ال18        مشروع القرن ينطلق من المغرب: الأنبوب العملاق يربط الطاقة بالتنمية الإفريقية    قمة أورومتوسطية مرتقبة في المغرب.. نحو شراكة متوازنة بين ضفتي المتوسط    باريس سان جيرمان يضم الموهبة المغربية محمد الأمين الإدريسي    كيوسك الأربعاء | معالجة نصف مليون طلب تأشيرة إلكترونية خلال ثلاث سنوات    فضيحة دولية تهز الجزائر: البرلمان الأوروبي يحقق في "اختطاف" للمعارض أمير دي زاد    دراسة: المشي اليومي المنتظم يحد من خطر الإصابة بآلام الظهر المزمنة    قراءة في التحول الجذري لموقف حزب "رمح الأمة" الجنوب إفريقي من قضية الصحراء المغربية    تعاون جوي مغربي-فرنسي: اختتام تمرين مشترك يجسد التفاهم العملياتي بين القوات الجوية    الدفاع الجديدي يرفع شعار التشبيب والعطاء والإهتمام بلاعبي الأكاديمية في الموسم الجديد …        "دراسة": الإفراط في النظر لشاشة الهاتف المحمول يؤثر على مهارات التعلم لدى الأطفال    الإفراط في النظر لشاشات الهواتف يضعف مهارات التعلم لدى الأطفال    زمن النص القرآني والخطاب النبوي    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجندي في "ولْد القْصور" .. مشاهدات ونوسطالجيا عام 1947
نشر في هسبريس يوم 13 - 06 - 2016


7
ليست هناك غرابة في أن تظل سنة ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين عالقة بالذاكرة. ففي مطلعها بدأت تظهر بوادر التغيير في كل شيء: في المناخ العام، وفي الحديث حتى بين صغار السن. وأصبح مهموس القول عند الكبار مجهورا.
وانعكس كل ذلك على النشأة والسلوك اللذين غذّاهما الوعي المُتشكل، النّهم لاستيعاب العالم من حوله، والنّامي كما الشجرة المباركة، يُزينها الفهم كما تُزين أغصانُ الزيتون محيط مراكش. فقد بدأت الصحوة.
وعلى الجانب الآخر، زاد افتتان تُجّار الحرب بثرواتهم، وازداد تمسك أعوان السلطة بجبروتهم وعدوانهم على كل من أشارت إليه الأصابع بالوطنية، ولو خطأ أو زوراً. وأصبحت كلمة "وطنيّ" من كبائر الجُرم الذي يستحق أقسى العقوبات. وفي المقابل رسخ في ذهن المغاربة أن في كل تعاون مع السلطة والفرنسي، خيانة للوطن، فوُصم كل متعاون معهما بخزي لقب الخائن.
ورغم التهديدات ومخاطر التعرض للانتهاك، فقد أفلح الوطنيون في إقناع أسرهم بتفهم مهماتهم، لتصبح منازل مراكش مقرات للقاءات والاجتماعات السياسية بعد أن سقط حاجز الخوف: فلا السجون عادت تنال من عزمهم، ولا الترهيب أفلح في ثنيهم عمّا عقدوا عليه النية من مقاومة ونضال.
وبدأ تغلغل الوطنيين في الأوساط الشعبية لنشر الوعي بالقضية. وعندما ثبت للمحتل أن لا سبيل لإركاع المغاربة بالقسوة والعنف، غيّر تَكْتِيكَه، وبدأ يُصدر العفو والإفراج طالبا المهادنة والمساومة، ولكن هيهات أن يساوم من سكنته روح المقاومة.
في بيتنا كان المرض اللعين الذي ألزم قامة الوالد الرفيعة الفراش منذ أواخر سنة ستة وأربعين، قد زاد واشتد. إلاّ انه لم يمنعه من السؤال باستمرار عن دراستنا. وكنا نحن نتسابق لإبراز مزايا المدرسة الحسنية، خاصة أنا وأخي غير الشقيق أحمد. أما أخي الأكبر عبد الله، فقد أغنته حافظته للسّتين حزب عن كل اختبار.
وكنّا نحن لا نُفَوّت الفرصة لمصارحته ثم تذكيره برغبتنا في الانتقال إلى مدرسة الباشا وتعلم اللغة الفرنسية مثل الكثير من أقراننا، وأقاربنا، وجيراننا، ولكنه سرعان ما كان يصرفنا عن الخوض في هذا الموضوع، لندرك على الفور أنه مازال ثابتا على موقفه في نبذ كل ما يأتي من الأجنبي.
ولكنّا لم نكن لنفقد الأمل، خاصة وطبيب الوالد هو "الدكتور فرج" خريج كلية باريز، الذي كان ينصح مرضاه بتعليم أبنائهم اللغة الفرنسية، لأنها لغة العصر والعلوم حسب قوله. وقد كان كلامه مسموعا خصوصا وهو الطبيب الناجح الذي تربطه ببعض الوطنيين علاقة طيبة، بالرغم من كونه واحد من صفوة رفقاء الباشا وجُلساءه، ويحظى بنفس قيمة "الدكتور جاكود"، أشهر الأطباء الفرنسيين في مراكش وأحد الساهرين على صحة الباشا مع "الدكتور فيليب".
عندما استفحل مرض الوالد، استعان الدكتور فرج بخبرة الدكتور فيليب وصَحبه معه للمزيد من الفحوصات.
خيم القلق على المنزل في ذلك اليوم، وشمل الحزن الكبير والصغير في أسرة تخشى على مُعيلها الوحيد: أبي.
ورغم ما كان من اشتداد المرض عليه، فكنا نراه يُكابد مخففا عنا ومعزيا:
"الله يجازيكم.. لا تحزنوا عليّ إذا قدر الله الفراق وأنا في هذه السن ثلاثة وستين سنة فهي عدد السنين التي عاشها سيد الأولين والآخرين محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم"رحمه الله.
كان للشيخ امحمد النظيفي في العبادة عادة ظلّ يُحافظ عليها إلى أن أقعدته الشيخوخة بين جدران خلوته التي لا تزيد مساحتها على الثّلاثة أمتار كم قلت. فقد كان يؤُم بالناس الصلوات الخمسة كل يوم، ما عدا فريضة الجمعة، فلم يتغيب أبدا عن أدائها في مسجد المواسين الأكبر، الذي فتحت له عدة أبواب: أولها يُقابل درب الشرفاء، وآخر خاص بالجنائز في مدخل الدرب الذي سُمّي بدرب الجنائز، ثم باب ثالث في درب الحمام المجاور للصباغين، فباب رابع مُيسّر لصلوات تُجّار السُّويقة، وأخيرا باب الرفّاعين الذين يرفعون النعوش على رؤوسهم باحترافية تزيد الناس خشوعا، والموكب مهابة ووقارا.
قيل لي أنّ الشيخ لم يتغيب عن هذه الفريضة إلاّ بسبب وعكة صحية متزامنة مع ما ألم بالوالد من مرض في الشهور الأخيرة من ألف وتسعمائة وستة وأربعين، والأولى من سنة ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين ميلادية.
ولكنه ذات جمعة أصرّ على الخروج إلى هذه الفريضة، وألحّ على ابنيه السي حماد والسي الطيب، أن يقوما بمهمة رفيقه السي الحسن الحجام والذي اعتاد التنسيق لخرجات الفقيه الأسبوعية. ومن غير تردد، تجند الأبناء والمساعدون، المؤذن مبارك، والمأموم الشيخ الجيلالي.
وتمّ الاتصال بأعوان الباشا المتمرسين للإخبار وطلب السيارة لنقل الشيخ كما جرت العادة، وتخصيص امْخَازْنِيَا للتنظيم والمصاحبة، تفاديا لكل ما يمكن أن يسببه تزاحم الناس أثناء السّلام على الشيخ والتّبرك به داخل المسجد وعند خروجه منه والذي يستغرق أحيانا ما يقرب من الساعة، حتى لا يُحرم أيّ مصلٍ من مصافحته أو تقبيله، أو على الأقل لمس ثيابه، كما كان اعتقاد البسطاء في ذلك الزمن.
وقد بلغ حُبهم لهذا الشيخ الزاهد حدّ اعتقاد بعضهم أنه آخر الأولياء والصالحين، وإن كان الفقهاء من أهل السنة والدّارسين، وبالرغم من تقديرهم وحبهم للشيخ، كانوا يُنبّهون الناس إلى أن الغيب لا يعلمه إلاّ الله سبحانه وأنه لا يجوز تقديس بشر مهما عظم عمله أو ذكره.
كان المفروض أن يعود السائق كعادته عقب كل صلاة بالفقيه إلى زاويته، ولكنه هذه المرة حاد به في اتجاه سُويقة المواسين، ثم عرّج يسارا على درب سنان في اتجاه رياض السملالي ثم رياض السي عيسى العبدي. وعند بلوغ الموكب لرميلة القصور، أشار له ابن الشيخ الأكبر أن يتوقف أمام درب مولاي عبد الله بن حساين الذي كانت تسكنه عيّنة أخرى من وجهاء مراكش: كابن الباشا القائد عبد الله وقائد أمزميز السيد الصبّان، الذي سيعزل من منصبه فيما بعد بسبب رفضه التوقيع على نفي الملك الشرعي محمد ابن يوسف، إضافة إلى شخصيات كثيرة لا يتسع المجال لذكرها جميعا. ويُقابل هذا الدرب، رياض القائد الدّردوري، الذي تم اختطافه أثناء الفوضى التي عمت الجنوب بعد استقلال الوطن- وفي عمق الصّابةالتي كان يسكنها القائد يتواجد ضريح سيدي اليمني.
عندما ترجل المرافقون وأخرجوا الشيخ من السيارة الباشاوية، كنتُ أول من تنبه لذلك، حيث كنت أعْرَفَ أبناء الحي بالشيخ لكَثرة ترددي على خلوته صُحبة والدي. فأظهرت حماسةً في الحديث عنه لأصحابي وإظهار علاقة أسرتي بأسرته. وانتابني شعور غريب.
كان الموكب يتحرك في اتجاهنا ببطء شديد، ونحن بباب درب الجديد الذي يسكنه فقيه الحي السي البشير، ومجموعة من عْزَاوي (فتوات) الحومة، وفي مقدمتهم بّاحسون المكنى بعز الحومة، وعمر الملقب بكلى باصّا، ومحمد لعصيبي، ثم نجم صغار حي القصور في الجري والشغب احمد الجن ولد لقوامجي. وبطولة جميع هؤلاء لا تظهر إلاّ في موسم صاحب طابع أولياء مراكش: أبومحمد عبد الله الغزواني الذي اشتهر بمول لقصور.
عندما أشرف الموكب على قوس الحي العتيق، لم يبق عندي شك في أن مقصود الشيخ من هذه الزيارة المفاجئة هو منزلنا. فانطلقت كالسهم وكأنني أُسابق أحمد الجن الذي كنت دائما معه في تسابق شديد، ولم تتوقف ساقاي إلا وأنا في صحن الدار أصرخ : "سيدنا.. سيدنا جاي عندنا".
يتبع..
*سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة عبر حلقات يومية في شهر رمضان الكريم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.