سؤال الأخلاق في السياسة، سؤال يشمئز منه البعض ويسخر منه البعض الآخر. ذلك لأن الفعل السياسي في نظرهم فعل حر لايجب أن ينحني لأية إملاءات ولا أن يتكبل بأية قيود. فيكفي أن يلم السياسي بجملة من القوانين ويتقن بذكاء بعض مهارات الحديث والقيادة ليكون سياسيا ماهرا يدبر أمور الناس ويسوسهم. ولكن لماذا لم يشعر كبار فلاسفة الأنوار والعقلانية بذات الإشمئزاز والتأفف الذي يشعربه بعض من يكنون أنفسهم عندنا "بالحداثيين" عندما طرحوا سؤال الأخلاق وبصوت عال في محراب السياسة؟ كيف استطاع بعض هؤلاء "الحداثيين" عندنا أن يتخرجوا من مدرسة "الحداثة"دون أن يذاكروا جيدا دروس كبارأساتذتهم في الأنوار والعقلانية؟ لماذا يتحرجون في استعمال كلمة "أخلاق" في حديثهم مخافة أن يتهموا بالرجعية والماضوية في حين أن كتابات فلاسفة الأنوار "والحداثة" حبلى بهذه الكلمة وبكل اشتقاقتها ومرادفاتها؟ أدعوا هؤلاء التلاميذ أن يحزموا حقائبهم ليعودوا مرة أخرى لمدرسة "الحداثة" ولو لبعض دقائق هناك ينتظرهم مهندس عصر الأنوار الفيلسوف الألماني إمانويل كانت وليجلسوا بتواضع ودون شغب ليلقي عليهم درسا بعنوان: من السياسي المتظاهر بالأخلاق إلى المتخلق السياسي، على الطريق نحو سلم دائم Vom politischen Moralisten zum moralischen Politiker. Auf dem Weg zum ewigen Frieden. قبل أن نستمع إلى جواب كانت حول سؤال الأخلاق في السياسة في هذا البحث الذي كتبه سنة1795يستحسن أن نضع بين يدي هذا الجواب هذه المقدمات التالية: يرى كانت أن كل فعل إنساني يستحق أن يوصف بالأخلاقي أو اللاخلاقي إذا توفرت فيه المحددات الأربعة للعقل الخالص. أ أن يكون قابلا للتعميم على كل الناس. ب أن يطمح إلى هدف يمكن أن يقبله كل أحد. ج أن ينطلق من مسؤولية منضبطة وليس من رغبات شخصية إنتهازية. د أن يرى الناس الآخرون أهدافا للتنمية والتنوير وليس جسورا للاستغلال والانتهازية. ليس المجال هنا أن نناقش هل هذه المحددات هي فعلا من نتاج العقل الخالص أم أنها تفوح بعبق نفحات أخلاقية دينية. لم يجد كانت في هذا البحث الأخلاقي حول السياسة وهو الذي لايؤمن إلا بمخرجات العقل الخالص إلا لفظة "أخلاق" لإيصال مراده وهذا يؤشر إلا احتمالين أحدهما: أن كانت لم يعثر في قاموسهالحداثيعلى لفظة أخرى تفي بالغرض إلا هذه اللفظة وثانيهما: أنه تعمد استعمال هذه اللفظة لقوة البيان فيها ولأن ذكرها لا يحتاج إلى مزيد شرح. الذي يقرأ هذا البحث يحس وكأن كانت الرجل العقلاني تحول إلى راهب في كنيسة جمع فيها لفيفا من السياسيين ليلقي عليهم مواعظ في الأخلاق. وهي بأدنى شك مواعظ دينية سكنت سرداب روحه وكانت تخرج عنوة بين الفينة والأخرى دون أن تستأذن قواعد عقله الخاص في ذلك. ولكي يبقى كانت وفيا لفلسفتهالعقلانية كان يقف تارة عند منعرجات بحثه ويستدرك قائلا: إنني أقصد بالأخلاق في السياسة القانون والتفاني في تنزيله. كان لزاما علينا كي لانقع في ترجمة تحصيلية لعنوان هذا البحث من اللغة الألمانية أن نستعمل وصف "المتظاهر بالأخلاق"للدلالة على نوع من السياسيينلاتسكن الأخلاق أرواحهم ولاتؤطر أفعالهم فهم يستعيرونها كما يستعيرون باقي الأدوات عندما يقتضي الفعل السياسي ذلك. وإسناد وصف "المتخلق" للنوع الثاني يعني فيما يعنيه أن الأخلاق متلبسة بالفعل السياسي تفكيرا وممارسة. من أجل تحقيق سلم إجتماعي دائم يجب حسب كانت تصحيح العلاقة بين السياسة والأخلاق لذلك يتحتم التفريق الحاسم في السياسة بين نوعين من الفاعلين: السياسي المتظاهر بالأخلاق والمتخلق السياسي. السياسي المتظاهر بالأخلاق حسب كانتهو الذي يرى أن السياسة هي فقط فن قيادة الآخرين وله أن يستعمل كل الوسائل لتحقيق هذه الغاية لذلك لايجد في بعض الأحيان أية غضاضة أن يلبس جبة الأخلاق ليصل إلى مآربه. يقول كانتعلمتنا قياسات العقل الخالص والتي تحولت إلى تجارب مشهودة في التاريخ أن السياسة يجب أن تركع للأخلاق وتنطلق منها وكل فاعل سياسي يهدم هذا الترتيب الطبيعي فهو كمن يضع الحصان وراء العربة. ليس علينا أن ننتظرحتى يصبح السياسيون المتظاهرون بالأخلاق عصابة من اللصوص ليسهل علينا بعدها التعرف عليهم بل لهم أوصاف ينكشفون بها في كل زمان ومكان ثم بدأ كانت يعدد أوصافهم: أولى هذه الأوصاف أنهم ميكيافليون حتى النخاع فمن أجل تحقيق مكاسبهم ورغباتهم الشخصية مستعدون أن يتقمصوا كل الأدواروأن يتجاوزوا كل الحدود وشعارهم في ذلك الغاية تبرر الوسيلة. ثاني أوصافهم أنهم عند اصطدام مصلحتهم الشخصية بمصلحة أوطانهم وشعوبهم الذاتيةينتصرون لمصالحهم الذاتية وبدون أدنى تردد. ثالث أوصافهم أنهم يتعاملون مع بقية أفراد الشعب على أنهم مجموعة من المحكومين الخاضعين وليس على أنهم ناضجين أويحتاجون لمن يساعدهم ليبلغوا هذه الدرجة. ولكي يقربنا كانت أكثرمن شخصية السياسي المتظاهربالأخلاق نبهنا إلى ثلاث نداءات تؤطر فعله السياسي: إستغل فرصتك السانحة واترك تبريرك السياسي لها فهو أمر هين. بعد كل حماقة أو شر سياسي ترتكبه إرم باللائمة على أفراد الشعب. حاول أن توقع بين المتنافسين السياسيين ثم حاول بعد ذلك أن توقع بين هؤلاء والشعب ثم استفرد أنت بعد ذلك بالزعامة. في دولة المكر التي يسوسها السياسيون المتظاهرون بالأخلاق توجد دائما أبواب خلفية وراءها توقع العقود الخفية بعيدا عن ضوء الشفافية. بعد ذكرأوصاف متنوعة للسياسي المتظاهر بالأخلاق يخلص كانت إلى نتيجة عبرعنها بعبارات صريحة وقاسية حيث قال إن هذا النوع من الساسةعدو للحداثة والتنويربل يصيبها في مقتل، هم رجال غامضوا الهوية بالنسبة لشعوبهم،يتقنون الممارسة الفارغة ذات الأفق المسدود وبالتاليلن تتقدم السياسة الحقة إلى الأمام إلا إذا قدمت يد البيعة للأخلاق. في المقابل يعتبر كانت المتخلق السياسي هوالمنتوج الأصلي للحداثة ثم يبدأ في تعداد بعض أوصافه. إنه السياسي الذي يسعى جاهدا إلى تحقيق دولة القانون والحقوق الكونية من أجل بناء السلم الإجتماعي. إنه السياسي الذي يحتكم دائما في فعله السياسي للحقوق والقوانين باعتبارها أخلاقا وذلك باعتماد طريق الحكمة وليس الإنتهازية. من أجل تنزيل مستمر للمبادئ والحقوق الكونية يستغل المتخلق السياسي كل فرصة في جهد متواصل لإصلاح القوانين والتشريعات حتى تلائم هذه المبادئ والحقوق. فالمتخلق السياسي يضع في أول أولوياته تحقيق السلم باعتباره هدفا أساسيا يفرضه الإلتزام الأخلاقي. ليس هناك حسب كانت إلا قانونا أخلاقيا واحدا يضمن بقاء المتخلق السياسي وانكشاف السياسي المتظاهربالأخلاق إنه قانون الشفافية. فإشهار السياسات أمام الشعب دون إخفاء أو تلفيق هو الضمان الوحيد لسياسة ناجعة وسلم إجتماعي دائم. الشفافية كمبدأ أخلاقي تستبطن خلقا آخر هو احترام الشعبودعوته إلى المشاركة في الفعل السياسي بالإنتقاد والإقتراح. يقول كانتحتى ولوتمكن السياسي المتظاهر بالأخلاق من السلطة فهو إلى زوال ولو بعد حين لأنه ينتج فعلا سياسيا شريرا يحمل في طياته عوامل الإندثار سرعان مايلفظه التاريخ تاركا المكان للفعل السياسي المتلبس بالأخلاق. اللافت للإنتباه في هذا البحث الذي كتبه إيمانويل كانت في أوج الثورة الفرنسية والتي أسست لأفكار الحداثة والتنويرإصراره التام أن يفوح بحثه بعبق لفظة " أخلاق" أو "متخلق" وذلك ليقينه التام أن الأخلاق هي وحدها التي تنساب إلى المنطقة الجوانية للإنسان فتؤثر فيها فينتج تبعا لذلك الفعل السياسي الصالح وهذا مالايضمنه القانون في بعض الأحيان.فكانت يعرف يقينا أن السياسي الغير المتلبس بالأخلاق سيجد أكثر من طريقة للتملص من القانون وهذا ما تؤكده تجارب الواقع السياسي في حياتنا اليومية أظن أن كل الفاعلين السياسيين في أوطاننا و بكل مشاربهم "حداثيين" و"إسلاميين"يحتاجون وبدرجات متفاوتة إلى جرعات من هذه الفلسفة الأخلاقية كل تبعا لمرجعيته. فعلى السياسيين الحداثيين الأحرار كانوا مثقفين أوساسة بمختلف مشاربهم ألا يشعروا بأدنى حساسية في استعمال لفظة أخلاق في قاموسهم السياسي وتمثل مقتضياتها في سلوكهم ويناضلوا من أجل تطهير الفعل السياسي من كل تملق وانتهازية. وعلى السياسيين الإسلاميين أن يَصُفُّوا صفوفهم ، فقد يكون من بينهم من تسلل تحت جبة الأخلاق ليمارس السياسة ولكن بمنطق السياسي المتظاهر بالأخلاق. كما عليهم أن يُذاكروا وباستمرار مع أتباعهم دروس الأخلاق فمن يدري ربما دخل أحدهم حلبة السياسة متخلقا ثم أضحى بعد حين سياسيا إنتهازيا متظاهرا بالأخلاق . كما أن على كل الأحزاب في أوطاننا أن تبدأ تنشئتها السياسية في محاضنها الحزبية بدروس الأخلاق قبل دروس السياسة عندئد ستجد لفعلها السياسي مذاقا وستجد في ذات الحين عند الآخرين قبولا وتجاوبا وهذا بالفعل ما قصده كانت بالسلم الاجتماعي. *باحث في علوم التربية مقيم بألمانيا