لماذا يخاف مغاربة المهجر من الاستثمار بالمغرب ويقتنون العقار فقط؟    أزمة أدوية حادة تثير قلق المستهلكين والجمعيات الحقوقية تدق ناقوس الخطر    بوصوف: صفوية الخميني وعسكرة الجزائر .. وجهان لمخطط واحد يعادي المغرب    أمن وجدة يحجز 10 آلاف و820 قرصا طبيا مخدرا    رمسيس بولعيون يكتب.. المحقق شورطان.. قصة مواجهة العري الإداري في العروي    300 ألف طلب في ساعة على سيارة "شاومي" الكهربائية رباعية الدفع    المغرب في صدارة موردي الكليمانتين والماندارين لأوروبا    محمد مدني: دستور 2011 نتاج وضعية سياسية توفيقية متناقضة    سوريا ولبنان تستعدان للتطبيع مع "إسرائيل"    الوداد في مونديال الأندية.. خيبة الأمل والفشل: كيف قضى أيت منا على طموحات الوداديين؟    بتوجيهات ملكية سامية.. الوزيرة بنعلي تقود أول ثورة إصلاحية مؤسساتية في القطاع العام وتظفر بشرف تنفيذ أول إصلاح سيادي    الدرهم المغربي يرتفع أمام الدولار ويتراجع مقابل الأورو خلال الأسبوع الأخير من يونيو    انطلاق نشر خرائط تنبؤية لحرائق الغابات.. هذه الأقاليم في "المستوى الأحمر"    أمير المؤمنين يهنئ ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية بمناسبة حلول العام الهجري الجديد 1447    مونديال الأندية.. الهلال يتأهل إلى دور ال16 والريال يتصدر بثلاثية نظيفة    النصر السعودي يجدد عقد النجم البرتغالي رونالدو    الوداد الرياضي ينهزم أمام العين الاماراتي    تقدم الصين في مجال حقوق الإنسان في صلب ندوة عقدت بمدريد    قرب تصنيف "البوليساريو" منظمة إرهابية من طرف واشنطن: تحول سياسي كبير يربك حسابات الجزائر        توقعات طقس الجمعة بالمغرب    بوغطاط المغربي | حصري.. قرار جديد للقضاء الألماني يُثَبِّت نهائيا قانونية تصنيف محمد حاجب كعنصر إرهابي ويرفض الطعن    رحيل مأساوي يهز الرياضة النسوية.. وفاة لاعبة نهضة بركان مروى الحمري في حادثة سير بالخميسات    المغرب يحقق "معجزة صناعية" مع الصين بالجرف الأصفر: مصنع مغربي-صيني يضع المملكة في قلب ثورة البطاريات العالمية    المغرب يعزز نموه الاقتصادي عبر 47 مشروعًا استثماريًا بقيمة 5.1 مليار دولار    الوداد يسقط في اختبار العالمية: حضور باهت أساء لصورة كرة القدم المغربية    النرويجي هالاند نجم مانشستر سيتي يبلغ مئويته الثالثة في زمن قياسي    الوراد يشخص إخفاق الوداد بالمونديال    الجزائر تفشل في السيطرة على الأرض فتحاول اختراق الثقافة الحسّانية المغربية    غوتيريش: ميثاق الأمم المتحدة ليس "قائمة طعام" بحسب الطلب    إعدام قاتل متسلسل في اليابان تصيّد ضحاياه عبر "تويتر"    الذهب يتراجع مع صعود الدولار وترقب بيانات التضخم الأمريكية    كيوسك الجمعة | الاتحاد الأوروبي يتمسك بدعم شراكته الإستراتيجية مع المغرب    موجة حر بالمغرب ابتداء من الجمعة    "سيكوديل" يناقش التنمية البشرية    أكاديمية المملكة و"غاليمار" يسدلان ستار احتفالية كبرى بآداب إفريقيا    حفل كاظم الساهر في "موازين" .. فوضى تنظيمية تسيء للفن والجماهير    كاظم الساهر في موازين: ليلة اهتز فيها التنظيم قبل الموسيقى -صور خاصة-    النقل الطرقي يدخل مرحلة الرقمنة الشاملة ابتداء من يوليوز    إصلاح شامل لقطاع السكن والتعمير في المغرب عبر وكالات جهوية متخصصة    قوانين جديدة للمركبات والدراجات في المغرب    مجلس الأمن يدين مجزرة الكنيسة بدمشق    دعم إقليمي متزايد لمغربية الصحراء من قلب أمريكا اللاتينية    حفل أسطوري لويل سميث في موازين 2025    وزارة الثقافة توزع أزيد من 9 ملايين درهم على 177 مهرجانا وتظاهرة خلال سنة 2025    تعيين بنجلون مديرا للمركز السينمائي    ضجة الاستدلال على الاستبدال    بعد غياب 6 سنوات..المعرض الوطني للكتاب المستعمل يعود في نسخته الثالثة عشر بالدارالبيضاء        عبد الكبير الخطيبي: منسي المثقفين    طفل في كل فصل دراسي مولود بالتلقيح الصناعي ببريطانيا    احذر الجفاف في الصيف .. هذه علاماته وطرق الوقاية منه    دراسة تحذر: انتكاسات كبيرة في برامج التلقيح تعرض الأطفال لخطر الأمراض القاتلة    عودة الدواجن البرازيلية إلى الأسواق المغربية بعد زوال المخاطر الصحية    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مؤسسة ياولدي
نشر في هسبريس يوم 24 - 11 - 2016


ميلاد حزين
بقرية نائية شبه معزولة وسط أدغال بالقرب من تازوطا ؛ التابعة لعمالة صفرو . لم يكن هناك ما يربطها بالعالم الخارجي سوى طريق جبلي صخري منعرج أشبه بأفعوان يطوق جبلا غابويا هناك ؛ تسلكه قوافل البيكوبات وشاحنات مهترئة محملة بالسوقة والشياه في طرقها من وإلى صفرو ..
كانت نظراتها تائهة في غور سحيق ؛ تترقرق مياهه في ضوء أشعة شمس ذلك الصباح البارد ، بين فينة وأخرى كانت تقذف بسؤال إلى السائق : - " هلا اقتربنا من صفرو ..؟ "
= " أمامنا هذا السفح .. لنلج الطريق الرئيس .." .. لم تتمالك حادّة أن شعرت بدوار حاد ومغص يعصتر أحشاءها ، فناولها كيسا من البلاستيك كعادته مع كل الركاب الذين ينوون اجتياز هذه الأصقاع بصحبته داخل مزمجرته "لابان" كما يدعوها الأهالي .
- " لا .. أنا .. أنا ..حا .. "
قاطعها وعينه على جدول جار يخترق طريق الشاحنة :
= " .. أعلم .. أنك حامل .. هوّني على نفسك .. سندخل المدينة بعد قليل .." كان يتحدث إليها ممسكا بمقود كبير بكلتي يديه وهو يهتز في مقعده ، والشاحنة تترنح ، وهي تشق طريقها وسط مياه جارفة ؛ محملة بالحصى وجذوع أشجار نخرة .
بعد أن لاحت لها من بعيد معالم أبنية المدينة ، تماسكت وأخذت تمرر كفها على جبينها الندي ، في حين اكتسحت عينيها حمرة بادية ، فعاودها الغثيان مصحوبا بصداع أفقدها وعيها بالمرة ... لم تسترجعه إلا بعد أن فتحت عينيها لتجد نفسها في سرير جوار مولودها ، يملأ الغرفة صراخا وأنينا . تأملته في صدرها وهي تحاول إرضاعه والدمع يغالب جفونها . استندت على شقها الأيسر حاضنة لابنها ، وما هي إلا لحظات حتى راحت في نوم عميق !
أينك ياولدي ؟!
حلت وجبة الفطور ، فسارعت إحدى الممرضات إلى إيقاظها وسط لغط وصراخ الرضع ؛ تزدحم بهم قاعة هناك صحبة والداتهم . استيقظت مذعورة وهي تحملق في مكان وليدها الشاغر !
= " ولدي .. ولدي .. ولدي " . ممرضة تقترب منها : " ... ربما نقلوه للفحص .. الآن حل وقت مغادرتك المستشفى .. أنا فقط مكلفة بأسرة الولادة .. يمكن لك أن تتصلي بجناح الفحص .. هذه ثيابك التي أتيت بها .."
كلما ولت وجهتها عند جناح هناك إلا وتبرأ من المسؤولية ، وأحالها على جناح آخر ... قضت صباحها تهرول بين الأجنحة وغرف المستشفى مولولة حينا وصارخة أخرى : " .. أينك ياولدي ؟! "
رثى لحالها أحد الحراس .. تقدم ورجاها بإيداع نسخة من بطاقتها الشخصية ووعدها بإخبار شيخ القرية في حالة العثور على وليدها ثم غادرت منكسرة الجوارح ، ولم تصدق بعد أنها وضعت وليدها وسرقوه منها .
الرضيع في أيد أمينة
في جنح الليل وفي ضوء خافت ، تسلل شخص مقنع إلى حيث حادة ترقد بجوار وليدها .. فدثره بملاءة وخرج من بوابة خلفية هناك أفضت به مباشرة إلى سيارة كانت في انتظاره . داخلها نزع قناعه فإذا هو امرأة في عقدها الرابع ، التفتت إلى المرأة السائقة : - " .. إنه نائم .. " . أومأت إلى امرأة محجبة كانت قاعدة خلفها : = " .. حليبه يوجد في علبة هناك .. دعيه ينام .. أمامنا نصف ساعة ، لندعه في غرفته .. " وقبل أن تصك الباب بتوأدة ناولت المرأة رزمة مودعة إياها بهذه العبارة : " الله يكثر خيرك .. وسرنا يبقى مدفونا " . تحركت السيارة باتجاه فيلا ؛ متوارية وسط أشجار الصنوبر فبدت وكأنها قلعة حصينة . سارع الحارس إلى الضغط على زر لينفتح باب سرداب يؤدي إلى طابق سفلي ؛ اعتادت الحاجة بهية استخدامه كلما تأخرت ليلا ، لتتحاشى جلبة نباح كلابها الأربعة ... وبعد أن اطمأنت على الرضيع في غرفة خاصة ، ولجت غرفتها وتجردت من عقالها ، وجعلت تتأمل تقاسيم وجهها أمام مرآة من البلور الخالص ، كانت في سن الأربعينيات ممشوقة القوام ذات نظرات حادة ، خالطت شعرها الكستنائي خصلة فضية لامعة أكسب وجهها صرامة وهيبة لا تقاوم ، كم من عامل ارتعدت فرائصه وهي تقف إلى جواره لتستطلع نشاط المعمل الذي تديره منذ أن توفي زوجها لأزيد من عشر سنوات .
عادت إلى الغرفة المجاورة وجعلت تتفرس وجه المولود في ظل شعاع خافت ألقى به فانوس كان منصوبا هناك بأحد زوايا الغرفة ... أيقظت المربية لتسر في أذنها : ** " سأهتم بك بمقدار اهتمامك به ... ناديه رضوان ... رضوان " بعدئذ دلفت إلى غرفتها وارتمت في سريرها لتستسلم إلى نوم عميق ...
* * *
حادة تطلق علاقتها بالسكان
انتشر خبر اختطاف وليد حادة بين أهالي قريتها الذين ما زالوا يتداولون مقتل زوجها بالغابة ؛ مقتل ظل يلفه الغموض لشهور خلت ، وإن كانت بعض الأقوال ترجح اعتراض سبيله من قبل قطاع الطرق وهو يهم بنقل كيس من الحشيش إلى جهة مجهولة .
كانت حادة في جميع أماسي السوق الأسبوعية ، أول من تستقبل شاحنة السوقة ، علها تظفر بخبر سار عن وليدها ... مضت الأسابيع والشهور وهي على حالها ، حتى صار السوقة يتحاشوا رؤيتها ويشيحون بوجوههم عنها ، ومنهم من يحولق في أعماقه ومنهم من يصفق لسانه بكلمة اللطيف ... حتى اعتادوا على رؤيتها وهي تعبر إلى الغابة كئيبة بخطوات مثقلة هائمة لا تلوي على شيء ، بين فينة وأخرى تطلق صرخاتها لتردد صداها الشعاب والقمم المجاورة : = " .. أينك ياولدي ...؟ !" فتشرأب الأعناق من خلف الأبواب وتتنصت الآذان وتتمتم الألسنة " .. مسكينة إنها حادة الحمقاء ... !"
* * *
الرضيع رضوان
كرست الحاجة بهية شطرا من أوقاتها لإصباغ كامل حنوها ورقتها وحدبها للرضيع رضوان ؛ تحرص على حضور وجبات إرضاعه وهدهدته في أحضانها .. وأحيانا كثيرة تتأمله وهو يغنو ويترنح في مشّايته تتحرك به الهوينا بمدرج معشوشب يخترق حديقتها ذهابا وأيابا بواسطة جهاز التحكم اليدوي Stroller Command جلبتها من أمستردام . ولكم كانت سعادتها في ذروتها وهي تلاحظ رضوان يتتبعها بنظراته شبه النائمة كلما هدهدته ولمست بشرته الناعمة انتفضت جوارحه وصدرت منه نغنغات تهفو إليها الحاجة بهية بجميع جوارحها ، لتنسيها مشاقها في المعمل وتشعرها بنوع من الأمان الذي غادرها منذ رحيل زوجها الألماني Buce .
المرأة صاحبة القناع
قعدت سكينة لوحدها ترثي لأحوالها التي ساءت بعد فصلها عن العمل ، وهي لم تكن سوى منظفة بالمستشفى غير مدرجة في أي قانون خدماتي . كانت مطلقة تأوي إلى بيت مع الجيران ، كثيرا ما تتراءى لها فعلتها وهي تحاول جاهدة طردها بين ناظريها بإدمانها على شرب الدخان . ساورتها نفسها أن تستطلع أخبار الحاجة بهية التي تعاقدت معها على إقبار السر ... إنه لزمن طويل مر على الحادث ، فهل زالت بإقامتها الأولى أم رحلت ... ماذا عسى أن يكون حل بذلك الوليد ؟ ..وهل ... لم تطق الاسترسال في تأنيب الضمير لها فقررت الذهاب إلى فاس لتستعطفها عن شغل بالمعمل .
وفي وقت مبكر حلت بالموقع ، واتجهت توا إلى بواب الفيلا : + ".. سيدي .. هلا دعوت لي الحاجة .. أنا راغبة في ملاقاتها لأمر هام "
++ " .. ومن تكونين ...؟ " صرخ في وجهها وهو يتأمل سحنتها من أم رأسها إلى أخمص قدميها .
+ " .. أنا سكينة العاملة بالمستشفى سابقا .." ++ " .. سأبلغها بالأمر ‘إن كانت في غرفتها .. وإلا " .. قاطعته + " ..وإلا ... ماذا سيدي ..؟ " ++ " وإلا ستكون غادرتها إلى المعمل من الباب الخلفي .. انتظري .."
وما زالا كذلك ، إذا بسيارة فخمة تتوقف بالباب ، ترجل منها سائقها الذي بدا غلاما يافعا بشعر أشقر أخذت الرياح تداعب بعضا من خصلاته على ناصيته .. فتقدم من المرأة يسأل : *** " من تكن هذه ..." ++ ".. تقول إنها قادمة لتوها من صفرو .. اسمها سكينة " ولسماعها بهذا الاسم نزلت بسرعة متوجهة إلى ابنها رضوان : * " .. طيب .. طيب .. عد أدخل السيارة إلى الجراج سأنظر في الأمر " ... تقدمت منها الحاجة بهية ، وقد عرفتها من تقاسيم وجهها والندبة البادية على خدها الأيمن :
* " ..آشريفا ... لاباس .. ياك لاباس .."
+ " ..حدثتني نفسي أن أزورك .. بعد مدة غياب طويلة ..أتذكرين سيدتي .. تلك الليلة .. "
قاطعتها بصرامة بادية * " ..لا أذكر .. لا بأس .. أترغبين في شيء ..؟ "
+ " .. سيدتي لقد فصلوني منذ مدة عن العمل .. وأنا الآن ..أ "
* " .. أعلم .. إذن ترغبين في شغل ..؟ طيب ..عودي إلي بعد شهر .. فأنا منشغلة هذه الأيام ، تخابري مع البواب ..هيا ..سيكون خيرا .." ولّت سكينة أدبارها .. وعقدت عزمها على أن تعود لزيارتها ..
* * *
رضوان على موعد مع المستقبل
انفردت بطاولة في ركن من حديقتها ، تتأهب كعادتها لتناول وجبة فطورها ، فإذا برئيسة الخدم تحمل الصينية وهاتفها النقال الذي كان يرن : * " .. نعم .. آلو .. نعم أنا والدته .. يس .. فانكيو .. رجاء .. غود باي "
ما إن وضعت الموبايل حتى رمقت رضوان قادما من بعيد فاغرورقت عيناها بالدموع . ناداها : *** " ياأحلا أم في الدنيا .. صباحك سعيد .." دنا منها وقبل رأسها ويديها الإثنتين.. فلم تتمالك أن قالت والدمع يغالبها: *" ..لا أدري آفرح أم أترح للخبر الذي جاءني للتو من نيويورك .."
*** " ..أمي .. أمي .. ماذا دهاك .. قولي ما الذي .."
* " .. أفادوني بأن المعهد لعلوم الجينات قبِل بانضمامك للدراسة هناك .."
*** " .. وما يعكر مزاجك .. ويستدر دموعك بهذه الغزارة .. العالم قرية آخذة في الصغر .. سأحرص على مشاهدتك كل حين .. وأعدك بحصد الدرجات العليا ؛ كما عهِدتني منذ سنوات .."
* " .. أعلم .. أعلم .. لكن كنت أنيسي في غربتي .. آمل أن تظل .."
*** " .. سأظل بقربك .. أتعلمين ماما إن وسائل التواصل جد متطورة .. سنتحادث دوما .. فلا تتشاءمي "
قبلها وحمل الموبايل *** " ..هل الكل تمام .. والسلعة التي كانت مقررة أن تصل .. وصلت .. طيب الحاجة تثني على عملكم ، وقد أمرتني أن أصرف لكم علاوة في رواتبكم .. نعم ؟ .. 200 ده .. وأعانكم الله "
راداوي بأمريكا
بعد انصرام شهر على حلوله بأمريكا ، أحس رضوان بوجوده في بيئة أخرى وعالم آخر ؛ يحتدم فيه المال بالأعمال . مجتمع معرفي رقمي إلى أبعد الحدود ، لا وجود فيه للصدفة ، الكل خاضع لبرمجة دقيقة . تعرف إلى عدة أصدقاء زملاء المعهد من ذوي جنسيات مختلفة ، يستضيفونه من حين لآخر ليتعرف إلى عائلات أمريكية ثرية ممن حظوا بولوج هذا المعهد حديث العهد بتخصصه والفريد من نوعه في العالم ؛ والذي يمكن من التعرف إلى هندسة الجينات وتسلسلها داخل العائلة الواحدة خلف خمسة أجداد ، والتحكم في بذرها بأجسام أخرى ..
كان محبوبا وسط الأصدقاء ؛ ومن فرط مناداتهم له بالهاتف أو داخل أقسام الدراسة أطلقوا عليه إسما مختزلا Radawi بدل رضوان . لم تكف أمه لحظة عن تتبع أخباره ، واطلاعها على ارتقائه في مدارج الدراسة ، وكلما آوت إلى فراشها غازلتها فكرة بيع ممتلكاتها والانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتعيش بقية حياتها إلى جانب ابنها رضوان .
* * *
طارئ صحي سيغير مجرى الحياة
بينما كان ذات يوم منهمكا في أعماله المخبرية والإعداد إلى رسالته في الماجستير ، إذا بهاتفه يرن :
*** " .. نعم .. هو هذا ابنها رضوان .. ماذا ؟ ..متى ..كيف ..إغماءة ؟!..."
أقفل الخط ، واتصل مباشرة بشركة الطيران لحجز تذكرة سفر في أول طائرة متجهة إلى المغرب . وفي ظرف عشر ساعات مرت ككابوس مظلم لم يغمض له جفن وهو يعدو بين ردهات مطارات جون كينيدي وكازابلانكا وفاس سايس .
توجه مباشرة إلى المصحة ليجد في البوابة جوقة من بعض العاملين بالمعمل ، وأمارات الأسى بادية على وجوههم . خرج الطبيب الرئيسي ممتقع الوجه فلم تطاوعه أحاسيسه وهو يشيع وجوه الزوار بهذه العبارة : " ..البقاء لله .." ، وفي أثرها تحول الجناح إلى مأتم نواح .. وبكاء ..حينا وهتاف حينا آخر :أينك يابهية القلب .. راحت المرأة البهية .. الله يرحمها ؛ في حين كان رضوان مشدودا إلى أذرع العمال الذين وفدوا بكثافة .. كان قلبه يعتصر ألما وهو لم يحضر نزعاتها الأخيرة .
مضت على وفاتها عدة أسابيع ؛ خلالها كان العمال لا يفترون عن الحديث .. عن مناقبها وتمرسها بالعمل .. وقوة شكيمتها ، لكنهم ؛ وفي آن واحد ؛ يتناقلون بينهم في سرية تامة أمر عقمها وتربيتها لابنها رضوان بالتبني ، كما كشفت لهم امرأة اشتغلت بينهم لبعض الوقت تدعى سكينة العرجا القاطنة بصفرو .
وكان لرضوان أعين وآذان تحمل له كل شاذة وفاذة ؛ تطرأ على نشاط المعمل أو تجري على ألسنة العاملين . سكنته الهواجس والهواتف المؤرقة : لماذا ...لم تطلعه أمه على هذا السر ..؟ وهل الأمر يحمل في طياته جناية ؟ .. وأين هي أمه الحقيقية.. ياللهول !
فصمم على التوجه إلى المستشفى بصفرو ...
ولما دلف إلى مكتب المدير ، وقف هذا الأخير وبادره بتحية معتقدا أنه أمام مسؤول رفيع المستوى يحل بالمستشفى :
+++ " نحن في الخدمة سيدي .. هل هناك من أوامر أو طلبات ...؟ !"
رضوان بعد أن هدأ روعه : *** " .. أنا .. أنا .. أنا فقط .. أريد أن أعرف مولودا من مواليد هذا المشفى ؛ افتقدتموه ولم تعثروا له على أثر .. هلا ساعدتموني في إطلاعي على هذا الملف ؟ "
+++ " .. نعم ، سأحاول .. وإن كنت لا أتذكر مثل هذه الحالة .. على الأقل منذ تعييني على رأس هذا المشفى .." .
عمد إلى سجل ، وأخذ يقلب صفحاته ويتتبع بسبابته أسطره ... وبعد لأي توقفت سبابته ورفع رأسه متوجها إليه خافتا صوته :
+++ " ..عثرت على حالة .. وقعت بتاريخ .. بتاريخ 12/12/1981 أي منذ ثلاث وعشرين سنة .. مولود لأم تدعى حادة .. العطفا حادة ، جاءتنا من .. من قرية ازرع بالقرب من تازوطا .. هذا كل .. م "
*** " .. شكرا سيدي ... العطفا حادة هي .."
+++ " .. نعم هي والدته .. لكن سيدي هلا أطلعتموني من تكونون .. ومن أوفدكم إلينا .. هل هو تفتيش .. مراقبة .. م ؟ !"
*** " .. هون عليك ياهذا ... سأكشف لكم عن هويتي لاحقا .."
خرج رضوان ، تشيعه نظرات الاندهاش الممزوج بالخوف من قبل بعض العاملين هناك .. وأوعز إلى السائق بالتوجه إلى القرية ؛ وفي الطريق ؛ أخرج هويته ليقارن بينها وبين التاريخ المسجل بالمستشفى ، ليتأكد له أنه هو !.. هو المولود الذي تم اختطافه منذ 23 سنة !...
سرحت به التخمينات وصور تراجيدية شتى ، وهو يتأمل مشاهد تلك الأصقاع .. والغابات التي عبرتها أمه وهي حامل به !
ولشد ما ذهل أهالي القرية وهو يرمقون هذه السيارة الفارهة التي جنحت إلى قريتهم .. ترى هل ضلوا السبيل وهم عائدون من رحلة صيد ؟ ! ياللغرابة .. شاب .. بهذه الوسامة .. لا يشاهدون مثله سوى في الأفلام البوليسية !
مكث السائق قابعا داخل السيارة .. في حين ترجل رضوان وتوجه إلى شيخ طاعن في السن "
*** ".. سيدي .. مرحبا .. مرحبا قريتكم جميلة ، لا شك أنك سمعت بامرأة تدعى حادة ..؟ "
قاطعه الشيخ :++++ " .. حادة الحمقاء ..؟ ومن لا يعرفها في هذه القرية ..؟ حتى هذه الجبال .. والأحراش تعرفها .. وكم من مرة رددت صراخها ونداءها "
رضوان مستوضحا :*** " .. نداء .. ؟.. هل كانت تنادي أحدا ؟.."
++++ " .. كانت تنادي أينك ياولدي .. وهذا له قصة .. يقال إنها فقدت وليدها بالمستشفى حيا .."
*** " .. مسكينة .. هذه المرأة .. حادة وأين هي الآن ؟ "
++++ " .. بقيت على هذا الحال مدة طويلة حتى فقدت عقلها .. وذات صباح فوجئ السكان بعدم سماع صراخها المعهود ، فتفقدوها داخل منزلها .. ليجدوها قد فارقت الحياة .."
أجهش بالبكاء وخذلته عواطفه .. فإذا بالدمع يفور من مآقيه مدرارا :
*** " .. أين .. هو .. قب...رها ؟"
وقف الشيخ على عكازته .. مشى ورضوان يمشي في أثره .. وخلفه سارت حشود من أهالي القرية . توقف الشيخ وأخذ يتبين المقابر بنظرات حادة حتى حطت على القبر فالتفت إلى السائل :
++++ " .. هذا هو قبرها .."
فانطلق حافي القدمين ليرتمي عليه .. ممسكا بترابه بين قبضتيه وقد دفن وجهه بالرغام وهو يصيح أمي ... أمي ... أمي لم أكن أعلم .. أنك .. أمي كم صبرت وعانيت أمي ..أين ولدك .. هاهو ولدك .. "
مؤسسة ياولدي
في أعقاب الفاجعة التي ألمت به في فقدان أميه ، عمد رضوان إلى بيع جميع ممتلكاته ، خص منها مبلغا هاما صرفه في مشروع مؤسسة بالقرية أطلق عليها مؤسسة ياولدي وبمعونة أصدقائه بأمريكا ، أوقفها على نزلائها اليتامى والمشردين من أطفال البلدة ، كما عبّد الطريق المؤدي إليها من النواحي المجاورة .. وتعهد برعايتها من ماله الخاص ، وتتبع أنشطتها ولو من أمريكا التي قرر الالتحاق بها كلية واستئناف أنشطته الدراسية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.