اطلعت عبر جريدة هسبريس خبر وفاة الأديب الإسباني الكبير خوان غويتسولو بمقر سكناه بمراكش ولم يتسن لي حضور جنازته، كان ذلك يوم الأحد المنصرم على سن يناهز 86 سنة، ذكرت هذا الرجل لأن لي صلة قديمة به، أذكره جيدا لأنني زرته في بيته بدرب سيدي بولفضايل بحي القنارية، كما جالسته بمقهى مطيش بساحة جامع الفنا وكان بصحبة نفر من (ناس مراكش) وهي فرقة كناوية، وقد أهداني كتابه (رحلات إلى الشرق: غزة - القاهرة-كابادوكيا)، وقد كتب عليه اسمه كاملا بخط عربي مرتعش، وحدثني يومها عن كاظم جهاد الذي زاره ليعرب الكتاب عن الإسبانية لأن الكتاب كتبه خوان باللغة الإسبانية، وصدر بالعربية مترجما عن إفريقيا الشرق في طبعته الأولى سنة 1991م ،وقد استدعيته لما كنت رئيسا لقسم الدراسات الاسلامية إلى الكلية، وكنت يومها مشغولا بتحرير الكلام عن الاستشراق الاسباني ضمن سلسلة محاضراتي في الاستشراق الذي توليت تدريسه منذ سنة 1988م ، كان لقائي به عام 1992م ، وقد خصصت للرجل فصلا في كتاب "الاستشراق والعلوم الإسلامية بين نقلانية التأصيل وعقلانية التأويل) الذي صدر مؤخرا ،تحدثت فيه عن كتابه ( في الإستشراق الإسباني ) أنقل للقارى مضمونه: خوان غويتسولو : Juan Goytisolo وكتابه (في الاستشراق الإسباني). يأتي هذا الكتاب متميزا على جميع الأصعدة، فصاحبه مستعرب إسباني كبير، أديب وفيلسوف ومؤرخ ورجل سياسة، كتب في مجالات شتى، منصف حين يكتب، يخالف من سبقه من في الكتابة، يؤيد وجود الحقيقة كما هي في التاريخ وكما تبدو في الواقع من أن تُحجب بظلمات الكلام وبضباب التأويل والافتعال، كتب في الاستشراق ولكن ليس بمعناه الغربي الذي يطمس الحقيقة ويشوه الصورة بل بمعناه الموضوعي الذي ينتشل الحقيقة من السلاسل والقيود التي كبلتها فيجعلها ناصعة للعيان، ثم إنه حين يتكلم كرحالة أو كإسباني عن الإرث الحضاري العربي الإسلامي فهو يتكلم من موقع المتجرد من كل مركزية وعرقية، لهذا السبب يُكون تجربة أخرى تضاف إلى تجربة إدوار سعيد ومونتغمري واط وآخرين ، وهي تجربة جديدة للاستشراق الإسباني الذي لا ينصف "الموري" في أدنى كلمة أو جملة، فالرجل بتعاطفه وصدق إنصافه للعرب وللقضايا العربية وبالدرجة الأولى القضية الفلسطينية، ويستطيع قارئ هذا الكتاب أن يقف على هذه الحقيقة في تقديم المؤلف للترجمة العربية ، لهاته الأهمية تولت جهات عربية كالمؤسسة العربية للدراسات والنشر السهر على ترجمة الكتاب ونشره ضمن عدد في مجلة "الكرمل"، و الكتاب عربه كاظم جهاد وغير عنوانه من (gronicas sarracinas ) إلى العنوان التالي :" في الاستشراق الإسباني". الكتاب -على الجملة- يعرض فيه صاحبه قضايا الإستعراب الإسباني ومواقفه المركزية المتعصبة من العالم الإسلامي ومن المسلمين، وتحالفه المبدئي مع الاستشراق الغربي والإستعمار الأوربي ، كما أنه لا يلبث أن يمارس نقدا عاما للاستشراق في سائر البلدان الأوربية، بل ومواجهة فكرية مباشرة كتلك التي أبداها في الكلمة التي ألقاها في مدينة بروكسيل ببلجيكا أمام لجنة الأقطار العشرة المنتمين للسوق المشتركة بمناسبة منحها إياه جائزة الأدب الأوربي في 15 أكتوبر 1985م ، وذلك بعد أربع سنوات من تأليفه للكتاب المذكور، وكانت الكلمة مقالا مفاجئا لحقيقة العرف الفكري والثقافي السائد في أوربا، إذ يعاكس التوجهات الفكرية والثقافية الإستشراقية تماما. بَيَّن غويتسولو أن همه ينحصر في الدفاع عن فلسفة التعاون القائمة على العالمية، والتفتح لا المركزية والعرقية والانغلاق، وبَيَّن أيضا أن الثقافة المنغلقة هي سبب الحروب والعداوة، وحمل مسؤولية الحرب الأهلية الإسبانية إلى الثقافة المنغلقة، إنه رجل استفاد من جولاته عبر العالم، فكانت جولته بحق متميزة عن جولات وأسفار سائر الرحالة، أولئك الذين يعودون بأوراق مكتوبة يخدعون بها قراءهم ليزكوا العرقية والإنغلاق، لقد صرح بأنه تعلم في باريس ونيويورك ومراكش، عاشقا أشكال الحياة والثقافات والألسن العائدة إلى مناطق جغرافية بعيدة، ومحبا ليس لكيفيدو أوغونغورا أو ستيرن أو فلوبير وما لارمه وجيمس جويس وحسب وإنما كذلك لابن عربي وأبي نواس وابن حزم والمؤلف الفارسي التركي جلال الدين الرومي، لقد كانت كلمته بحق كلمة دسمة لم يبد فيها غير قناعاته العميقة وبكل جرأة وشجاعة. مع كون غويتسولو يدرك أهداف الاستشراق ومراميه بفعل الممارسة السياسة وبفعل التشويه والطمس، ومع كونه من أوائل من ألفوا في هذا الموضوع وبينوا خطورته من الناحية السياسية ومغالطاته من الناحية الفكرية والثقافية فإنه يعود ليؤكد على شيئ ذي قيمة وبال، ذلك أن المعلومات والانطباعات التي يقدمها المستشرقون عن العالم الإسلامي إنها وإن كانت موجهة للقارئ الغربي فإن من شأنها أن تفيد المسلمين أيضا، إذ تمكنهم من رؤية أنفسهم من الخارج فيتمموا معرفتهم الذاتية، وكأنني به يضفي على الصورة التي يكونها الغرب عن الشرق صبغة المشروعية حين يعتبرها من قبيل الفضول أو حب الاستطلاع القائم على أساس تعاطف إنساني فعلي وإنها نتيجة قدرته على النقد الذاتي وقابلية التشكك بما هو موروث ، ويحكم على كل هذا بأنه مزايا إنسانية معترف بها كونيا، ويمكن للقارئ العربي أن يثرى بها ويتلافى بفضلها بعض النواقص الناجمة عن الانطواء على النفس الذي يعطي عواقب وخيمة، ويردف مبررا أن دراسة الثقافات والمجتمعات الأخرى حق للذهن البشري لا يمكن نكرانه لأن القول بأن دراسة حضارة انطلاقا من أسسها الخاصة وبحسب قواعدها نفسها لا يمكنه أن يتأتى إلا لإنسان يتماهى، وأن الادعاء بأنه لا يمكن أن يكتب عن الكاثولكيين إلا كاثوليكي أو عن الصينيين إلا صيني أو عن النساء سوى امرأة هو ادعاء عبثي وعقيم، لكن غويتسولو أدرك - وهو يحلل إبستيمولوجيا هذا الموضوع- تبعات الموضوعية في التحليل الغربي للمعطيات الشرقية، فصحيح جدا دراسة الثقافة الإسلامية و المجتمع الإسلامي هو حق للذهنية الغربية ولكن ليس بحق نزوع هذه الذهنية للتمركز وللعرقية حيث يمرر (الآخر) عبر غربالها الخاص فيخرج الوجود في صورة أخرى غير الصورة الحقيقية واقعيا، هذه الحقيقة دفعت غويتسولو ليبررها معرفيا كذلك إذ من شأن هذه القضية أن تنكر قيمة كل تحليل تعطيه ثقافة صادرة من لدن باحث أجنبي ، وهذا يؤدي إلى نكران خصوبة التأويلات الثقافية المختلفة ويقذف بالثقافات في غمار عزلة وانغلاق مستحيلين. هذا الذي ذكره غويسولو فيه نصيب من الصواب، فما كتبه الغرب عن الإسلام والمسلمين هو يفيد من ناحية واحدة وهو أن ينظر صورته المشوهة في المرأة التي صنعها الغرب، وليس في هذا رغبة ذاتية خاضعة لحرية الإرادة بل فيها إجبار لأن الغرب أجبر الشرق على أن ينظر إلى تلك الصورة من تلك الكوة، وبإمكانه - على إثر ذلك- تعديل ما يعدل وإزالة ما هو قابل للزوال وممارسة ما يراه ملائما للممارسة لكن النصيب الأكثر خطأ فيما ذكره غويسولو هو أن الغاية التي من أجلها وضع الكتاب تنقض هذا الزعم وتوقعه في التناقض، فهو من جهة ألزم نفسه بفضح الرؤية الإستشراقية الغربية الإسبانية تجاه العالم الإسلامي، وقد عبَّر عن هذا في المقدمة وفي ثنايا الكتاب، وهو من جهة أخرى يبرر ذلك التصور من الناحية المعرفية ويضفي عليه الشرعية العلمية دون أن يكترث بالشرعية الموضوعية والواقعية، فليس كل علم هو علم ويُرجى التعلم به والإستفادة من خلاله ولكن العلم يكون علما حقا حين يحمل الصدق ويعبر عن الموضوعية، و تلك شذرة من فكر غويسولو جاءت في أسطر قليلة وهو يترجم للمستشرق الإنجليزي السيرريتشارد بيرطون. هذا الكتاب جاء ليسلط الأضواء على حقائق أدبية وتاريخية ومعرفية وسياسية في الإستشراق ولكن في هذه المرة على جهة واحدة من أوربا هي (إسبانيا)، وكان جديرا بغويتسولو أن يتكلم عن الإستشراق الإسباني نظرا للدور الذي لعبته النصرانية هناك في محو حضارة إسلامية كالحضارة الأندلسية ، هاته البقعة من التراب التي كانت مسرحا للإسلام ولثقافته أكثر من سبعة قرون، ولكي تبقى إسبانيا وفية للنهج الغربي في تشويه الآخر وإبعاده فإنها مثلت المسلم الإسباني في ثقافتها أبشع تمثيل ، ووصفته بأبشع وصف، ذلك ما جاء هذا الكتاب ليوضحه. ويبدو أن صاحب الكتاب تأثر بإدوارد سعيد من عدة زوايا: فهو خرج من الصمت و الكتمان إلى الصراحة والوضوح اللذين يطبعان معالجة الظاهرة، ثم التحدي القاطع للتضليل الفكري والثقافي المخيم على الثقافة والفكر الغربيين حين يتعلق الأمر بالشرق، وهو تضليل لا يدركه إلا من عرف الثقافة الغربية حق معرفتها ، وأدرك أسس ومغزى الإستشراق، واطلع على حقيقة الشرق والشرقيين وتراثهم وثقافتهم وعقيدتهم، وهذا تأتى لإدوارد سعيد مثلما تأتى فيما بعد لغويتسولو وآخرين ممن نحوا نفس المنحى، وستأتي معنا ذكر بعض اهتمامات هذا الأخير بثقافة الشرق وعلومه، ثم من زاوية أخرى أن غويتسولو اعتمد على كتاب "الإستشراق: المعرفة ، السلطة، الإنشاء" لتوجيه الرؤى حين يريد تعميم الفكرة وإخراجها من مجالها الاستشراقي المحلي إلى مجال استشراقي عام، وذلك لكون إسبانيا جزء من الغرب، ثم من زاوية أخرى تأثر بمنهج إدوارد سعيد في معالجة الظاهرة ، فالكاتب ظهر في البداية أديبا روائيا كما قدمه العرب، وكما قدم نفسه إلا أنه يبدو في ثنايا الكتاب متعدد المناهج، فهو يعتمد المنهج الأدبي في بعض الأحيان ، والمنهج المعرفي في تحليل الأفكار ومقارنتها ، كما يبدو فيلسوفا بارعا على العموم وأسلوبه أسلوب منطقي مقنع، وهذا تعدد ملحوظ عند إدوارد سعيد وإن كان يتميز عليه بمناهج أخرى، هذا التميز جعل غويتسولو يعتمد المصطلح الذي اعتمده إدوارد سعيد في كتابه ، ويبدو مع هذا وكأنه عاجز عن ابتكار مصطلحه الخاص عن الفكرة الخاصة، ولعل هذا العجز راجع إلى التواضع الكبير الذي طالعنا به في الكتاب، فهو يظهر نفسه – على الرغم من كونه مستشرقا إسبانيا – موضوعيا في معالجته لظاهرة الاستشراق الإسباني خاصة والاستشراق عامة، وقد أظهر حين يعرض الرؤية الحقيقية والصورة المزيفة والخيالات الاعتباطية والانعكاسات المشوهة لشخصية ( الموري) في الثقافة ألإسبانية يبديها ثم ينقدها نقدا لاذعا مبديا في نفس الوقت اهتمامه بالثقافة الغربية، هذا التواضع جعله يقتبس من كتاب إدوارد سعيد فقرات وجملا ومصطلحات كاملة محيلا وموثقا. هذا من الناحية النظرية أما من الناحية التطبيقية فالكاتب لم ينكر تأثير الأدب العربي القديم على أعماله الروائية من الناحية اللغوية والأسلوبية، أما الأدب الحديث و المعاصر فإنه على صلة شبه دائمة به وخاصة الأدب المغربي، فهو يتكلم عن مؤلفات مليكة جديد امبارك، وهي أديبة تهتم بالأدب الإسباني ، من أهمها الدراسة الأدبية التي قدمتها حول روايته "مقبرة". ويتكلم عن روايات طاهر بن جلون، وهو أديب مغربي له شهرة كبيرة في الثقافة الغربية، كما قرأ لأنور عبد الملك وعبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي وهم من المفكرين المغاربة أصحاب الشهرة العالمية في العلوم الحديثة التي تحظى بقبول في الأوساط الفكرية والثقافية الغربية بسبب التقارب في المنهج بين هؤلاء وأولئك، وعلى الرغم من هذا التقارب كانوا يُفصحون عن وضعية الثقافة العربية والمغربية ووضعيتها التراثية تجاه المعاصرة، كما كانوا يُفصحون عن وضعية العربي في الثقافة الغربية إلا أنها ليست بالشكل الكافي تماما. هذا الاهتمام الذي ولع به غويتسولو راجع بالدرجة الأولى إلى حضور الأدب والثقافة المغربية في الثقافة والأدب الإسبانيين وهو الذي يطلق عليه غويتسولو لقب "المدخرية"، وهو المصطلح الذي يطلقه المستشرقون الإسبان على التراث العربي الإسلامي المدفون في ثقافتهم وتراثهم، ويحتل الأثر المغربي النصيب الأكبر، ويدقق المترجم في هذه الكلمة، حيث يرى بأنها تسمية تطلق على الفنون والآداب الإسبانية والغربية بعامة المتأثرة بالفنون الإسلامية والمستلهمة لها، ويرى بعضهم أن أصل التسمية في المفردة العربية "متدين" من الدين، والبعض الآخر أنها من "مدجن"= "ثقافة مدجنة"، واستحسن المترجم أن ترجع إلى المفردة "مدخر" نفسها، بمعنى ادخار العنصر الإسلامي و العمل به داخل هذه الثقافة. في المقطع الثالث من الكتاب يبلور العنصر الأدبي بخياله وأسلوبه واستنباطاته ليقارن بين النص الروائي الوصفي الإسباني للأدب عن المغرب الذي مازال حاضرا وحيا كتراث وبين الموصوف في تلك المؤلفات مثل كتاب ( في المغرب الشبقي المتعصب) لصاحبته أورورا برترانا، والكتاب كتب سنة 1936م ، أو بين ما هو جامد في السطور كنص أدبي إبداعي وبين ( ساحة جامع الفناء) الذي يبديه غويتسولو كمؤسسة حين تتحرك : ( أن أنتقل في الساحة من الإصغاء الجواني إلى نص خوان رويث إلى الإصغاء البراني للحكاية الشعبية التي يقُصُّها علي صديقي عبد السلام فهذا يعني أن أعتاد ثنائية من الأصوات الطريفة والبارعة والنافذة السخرية والشديدة الإيحاء لا أصوات صوفية ووثنية في آن معا، حكايات غرامية وصراعات و مؤامرات يتخللها الغناء والضحك والخلاعة والشتائم و الآيات القرآنية والتهديد و الوعيد، وإن كاهننا نفسه، هذا المتدين الفاجر، الخبير بشؤون اللذة "..." العارف الجيد بالنساء يبدو وقد بعث في هذه الحكاية منسوخا في شخصية "الفقيه" المهيب الهيأة، المتهتك في وعظه، الرابض الآن أمامي على منبر "الحلقة"، الإثنان يرجعان إلى اللهجة الشعبية، ويعظمان مكائد الحب ، ويلعنان في الوقت نفسه، ويختتمان حديثهما دائما بآية من القرآن أو عبارة من "الكتاب المقدس"، ويمكننا التنقل بين الإثنين من تذوق أبيات كبير القساوسة بعيدا عن التفقه اللغوي الجاف، ومن تمسس المتعة التي شعر بها جمهوره المباشر، والقفز بلمحة من البصر من الحكمة الشهوية على الصلاة التقوية و بالعكس" . أسلوبه بهاته المعالجة يكاد يبقى محتفظا بوخز الملصقات اللفظية التي تنسجها المؤسسة الإستشراقية على الرجل الشرقي وهو ( الموري) في الثقافة الإسبانية، والكاتب حين يمارس هذا النهج في وصفه فكأنه يكاد يكون مقتنعا بما رآه، فهو يصف الحقيقة كما هي من دون أن يخف بعضها وإن كان مثل هذا في الحقيقة لا يقتضي الوصف والكلام، فكل الشعوب لها عيوب في بعض الأشخاص وبعض الأمكنة. وهو كأديب يحاول أن يبلور العنصر الأدبي في الوصف والمشاهدة، ويحاول أن ينقل القارئ إلى عالم تشتاقه النفس وتحبه الذوات ، ذلك العالم هو عالم السير ريتشاد برتون وعالم فلوبير وبحدود مماثلة عالم ( علي بيك)، لنقرأ هذا النص الذي يقارن فيه بين عناصر وحدات النص الأدبي الذي يتكلم عليه وبين عناصر وحدات ( ساحة جامع الفناء ) وطبيعته، يقول : ( كهذه الأذن المرهفة التي يتمتع بها الجمهور المحتشد تحت شمس الصيف الطيبة في ساحة "جامع الفناء"، ومع أن بعض الأيادي المحسنة قد شوهت عمل كبير الكهنة وجردته من التعبيرات التي بدت لها فاحشة أو مبتذلة فإن شُحنة الإباحية والإيروسية التي فيه ما تزال تمنحه مكانة خاصة في أدبنا، وكما لاحظت ماريا سوليدار = ( Maria Soledad ) بحق فإننا لا نجد مثيلا، لا قبله ولا بعده ، ومما لاشك فيه أن مزجه الحاذق بين الورع الديني والإباحية والإشعار (المريمية) وحكايات المخدع ... إنما تندرج في الموروث الغني الذي تلقيناه من الشعر العربي ، وحينما أؤكد هنا على جوانبه ( المدخرية ) فأنا لست بحاجة إلى التفكير بكتاب من وزن (ابن قزمان) و ( أبي نواس) و (ابن حزم) بل يكفي أن نتطلع إلى هذا التراث الإيروسي الديني الشعبي الذي ما يزال قائما حتى اليوم في "حلقات" الساحة ، لا أتحدث عن تأثير أدبي ممكن بقدر ما أتحدث عن قرائن حية). ويبدو أن غويتسولو كشخصية غربية خرج بخلاصات في زياراته لمراكش ولسائر المدن المغربية، ذلك أنه دخل بتصور وخرج بتصور آخر، مكنه ذلك من مقارنة تلك التصورات والخروج بخلاصات منها عنها ، ذلك أنه اتخذ شخصية مغربية صديقة هي (عبد السلام) لتقص عليه حالة المغربي وتعرفه بأبسط العادات وأتفهها، وتزوده بأبسط الأمور كقضية الخلاعة والجنس والفقر والمرأة، هاته الأمور كانت بمثابة مواد البناء في تكوين عناصر فلسفته الأدبية وهو يحلل ويقارن، وقد وصل به الحد إلى إيراد قصص تافهة كتلك القصة التي حكيت له عن جحا العربي فحكاها ليعبر بها عن التوحش والشذوذ الجنسي ، وهي أمور لا تختلف عن السياق الإستشراقي المشوِّه والحاقد فكيف إذن نحا غويتسولو هذا المنحى وهو الذي عودنا في أغلب ما حكاه في الكتاب بالموضوعية الكاملة؟. هذه الموضوعية تطالعنا في فصل ( صناع صورة ) حيث هنا يظهر التميز جليا بين ما حكاه ورواه مثلا في فصل "تطورات المدخرية" الإسبانية: خوان رويث – ثريا نتس- غالوس) وبين ما أورده في "صناعة صورة" حيث في هذا الفصل يبدو موضوعيا إلى أقصى درجة، فهو خول لنفسه مسؤولية رد التهم الموجهة إلى الإسلام وإلى نبيه وإلى"الموري" بصفة عامة، فنفى أن يكون الإسلام مفرطا في الجنس وفي اللوطية، واستند في ذلك إلى القرآن الكريم وإلى المؤلفات الإسبانية في الموضوع وإلى المعلومات التي استقاها من أصدقائه الذين اتخذهم وسائط يكشفون له عن المجهول من عادات المغاربة وتقاليدهم وعقيدتهم كصديقه (عبد السلام) مثلا، وكثيرا ما كان يستخدم عبارات علمية في النقد حتى كانت صورته عن الصراع بين الإسلام والمسيحية موفقة إلى حد كبير. وأخيرا : يمكن الحكم على هذا الكتاب بأنه أسدى للثقافة العربية الإسلامية خدمة جليلة قلما تنجزها الأقلام، وإذا ما قدر لها أن تنجز فإنها ستنتظر الأعوام والسنين، إن عمله الإيجابي لا يختلف من حيث الغاية و العمل عن المجهود الذي أبداه الكاتب الفلسطيني ادوارد سعيد في كتابه "الإستشراق"، وأملنا أن تتحرك أقلام المنصفين من مفكري الغرب ومثقفيه حتى تكتمل صورة (الغرب) عن (الشرق)، وحتى يدرك جمهور الغرب الجوانب اللامعقولة في ثقافة الإستشراق . *أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بمراكش