منذ أكثر من ثمانية أشهر وكرة الثلج تتدحرج بعيدا عن اهتمام أصحاب القرار القابعين في مكاتبهم المكيفة غير آبهين بلظى العيش التي يكتوي بها كل من رمت به أقداره بعيدا عن دائرة المركز الجغرافي والطبقي. ثمانية أشهر عجزت خلالها الدولة بكل مؤسساتها عن إخماد فتيل أزمة ما كانت لتصبح على ماهي عليه لولا استمرار المركز في صممه المزمن وعنهجيته الزائدة كفاعل مركزي مهيمن. ثمانية أشهر كانت كافية، لتجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا خوفا على مستقبل الوطن. كيف لا، والسلطة المركزية لم تجتهد ولم تغير من وسائل تعاملها مع الأزمات الاجتماعية، بل وكأنها تسعى إلى فرملة عقارب مغرب القرن الواحد والعشرين والرجوع بها إلى ستينيات القرن الماضي باعتماد نفس الأدوات ونفس المقاربات غير الناجعة، تخوين وقمع ومنع وترهيب واعتقال...، في سياقات اجتماعية وسياسية واقتصادية وتكنلوجية لم يستوعبها بعد عقل السلطة المركزية التقليدية ونواتها الصلبة "المخزن". ث مانية أشهر خرجت خلالها نساء ورجال الحسيمة ونواحيها وصدحت حناجرهم مطالبين بالكرامة والعدالة الاجتماعية وتعبيرا عن غضبهم من حالة التهميش والفقر والبطالة التي ترزح تحتها "منارة المتوسط"، هذا الغضب تردد صداه لينفلت من الحدود الضيقة للمنطقة ويمتد عبر كل جهات الوطن ليصبح غضبا شعبيا موحدا خيطه الناظم هو المطالبة بالعدالة الاجتماعية وتوفير شروط العيش الكريم. ولأن هذا الغضب كان صادقا ونابعا من حس وغيرة وطنيين وإيمان مشروع بحق بلادنا وكل ثغورها في الازدهار والتنمية المتوازنة والعادلة، لم يبق حكرا على أبناء الشعب المغربي بل امتد إلى أعلى هرم السلطة، حيث عبر الملك خلال المجلس الوزاري الأخير عن غضبه واستيائه من تأخر إنجاز المشاريع المبرمجة والتي يمكن بفعللتراكمها الكمي والنوعي أن تخفف من واقع البؤس والتهميش. إن حراك مدينة الحسيمة والنواحي والذي تتقاطع فيه "غضبة الملك والشعب" حول تقييم الانعكاسات التنموية للسياسات العمومية على المعيش اليومي للمواطنين، خاصة في مجالات حيوية كالصحة والتشغيل والتعليم والسكن والبنى التحتية، أفرز تضامنا شعبيا واسعا انخرطت فيه قوى وطنية ديمقراطية سياسية نقابية مدنية وإعلامية مستقلة، فأصبح يجسد نوعا من الإجماع الوطني حول مطالب اجتماعية مشروعة وعادلة تتركز في ضمان الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والاستبداد. ولا ينبغي التعاطي مع الأمر وكأنه سحابة صيف عابرة أو الارتكان الساذج لنظرية المؤامرة، بل ينبغي التعاطي مع هذا الحراك السلمي باعتباره قوة بناء اجتماعية ناعمة مواطنة هادئة وممتدة أفقيا وعموديا تتغذى بالذكاء والطموح الجماعي في بناء مغرب يحتضن ويصون حرية وكرامة كافة بناته وأبناءه. قوة فعل اجتماعية مستقلة دافعة نحو المستقبل ومشحونة بطاقات شبابية صاعدة تتنفس أريج الحرية في عالم منفتح وشفاف لا مكان فيه لاحتكار السلطة أو النفوذ أو المعلومة. ولا شك أن مسؤولية الحكومة والأحزاب المشكلة لها، ثابتة في تطور الأوضاع والعجز عن معالجة هذا الملف، بل وتتحمل مسؤولية كبرى في تعقيده والرفع من منسوب الغضب والاحتقان الاجتماعي، على الأقل، لخمسة أسباب: أولها هدر غير مسؤول للزمن السياسي خلال فترة تشكيل الحكومة نتيجة استهتارها بجسامة المسؤولية وانشغالها بصراعات وهمية تستبيح المصالح الوطنية وتنتصر للنزعات الضيقة للذوات الحزبية المترهلة، ثانيها: التشكيك المُعاب شكلا ومضمونا للأحزاب المشكلة للحكومة في وطنية المتظاهرين ونعتهم بالانفصاليين ودعاة الفتنة، ثالثها انتظارية الحكومة وتأخر مبادرتها ورد فعلها لحل الأزمة، رابعها تأزيم الوضع عبر اللجوء إلى المقاربة الأمنية من خلال قمع المظاهرات السلمية وشن حملة اعتقالات واسعة في أوساط شباب الحراك، خامسها استغلال الإعلام العمومي وتسخير أماكن العبادة في تأليب الرأي العام وتشويه صورة الاحتجاجات السلمية، وهو ما أفرز ردود فعل شكلت منعطفا فيما يجري اليوم. وهي، من بين أخرى، أسباب كافية لتجعل مفاتيح حل الأزمة تخرج من ملعب الحكومة وممثليها كنتيجة منطقية لزعزعة شرط الثقة التي أفرزها سوء التقدير ووهم التفوق اللوجيستي والمعرفي للمركز المتحكم في عوالم الاقتصاد والسلطة والقرار على حساب الهامش المحكوم، وفق نفس الوهم، بلازمة التبعية والخضوع. فكم سيلزمنا من الوقت حتى تعمل السلطة الحاكمة في بلادنا بآليات التدبير الاستشرافي والتوقعي للأزمات، بما فيها ذات الطابع الاجتماعي؟ ألا يعي مهندسو مركز القرار أن تأمين مستقبل البلاد يكمن في وضع السلطة الحكومية في خدمة الشعب ولاشيء غير خدمة الشعب؟ ألا تعلم النخب الحاكمة أن الاحترام التام لحقوق الانسان والتدبير التفاوضي المتكافئ والمشترك يسهم في تحنب الهزات الاجتماعية والتخفيف من آثارها؟ ألا يدرك عقل السلطة الحاكمة أن المس بالحقوق والحريات أضحت أكثر كلفة في عصرنا الحالي داخليا وخارجيا؟ وقد كان لمجلس الوزراء الأخير أن يشكل متنفسا إيجابيا لتهيئة شروط معالجة الملف، لولا تهور العقل الأمني للسلطة في محاصرة المدينة واستعمال القوة المفرطة وشن حملة اعتقالات بالجملة في صفوف المتظاهرين يوم عيد الفطر بشكل يسيئ لصورة المغرب ويدمي جروحا لم تندمل بعد في منطقة عانت من ويلات الماضي واستبشرت خيرا بصفحة العهد الجديد والمصالحة الوطنية. ولازالت إمكانية المعالجة الرصينة والنهائية لهذه الأزمة ممكنة، قبل فوات الأوان، وذلك عبر: - إطلاق سراح كافة المعتقلين على خلفية هذه الأحداث (آلية العفو) - محاسبة كل المسؤولين عن التجاوزات والسلوكات المنتهكة لحقوق الانسان تفعيلا للوثيقة الدستورية والتزامات المغرب الدولية، والتوقف بشكل نهائي عن قمع التظاهرات السلمية واعتقال النشطاء، - اعتذار الأحزاب المكونة للحكومة عما صدر عنها بخصوص الحراك السلمي في الحسيمة ونواحيها (عبر وسائل الإعلام العمومي)، - محاسبة وإعفاء كل من ثبت تورطه أو تقصيره (من وزراء ومسؤولين حكوميين وسلطات محلية وجهوية) في الاضطلاع بمهامه في إطار المسؤوليات الموكولة إليهم، تفعيلا لربط المسؤولية بالمحاسبة، - فتح حوار مباشر مع نشطاء الحراك وممثلي القوى الديمقراطية المستقلة، - الاستجابة للمطالب الاجتماعية المشروعة لأبناء المنطقة في التشغيل والصحة والسكن والتعليم. - إطلاق حملة وطنية لتطهير الحياة العامة من الفساد ونهب الأموال العمومية وخيانة أمانة تسيير المرافق والمؤسسات العمومية واستغلال النفوذ. ذلك أن الفساد هو أصل كل العاهات والأزمات والمخاطر التي تتهدد بلادنا، ومحاربته الحازمة أصبحت أولوية وطنية مستعجلة. إن بلادنا اليوم في أمس الحاجة إلى تشكيل جبهة فعل موسعة تضم كل الفعاليات والقوى الوطنية الغيورة والصادقة والشخصيات الوطنية النزيهة والمثقفين، على مستوى الدولة والمجتمع، للدفع ببلادنا إلى الرقي والازدهار وتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المجالية المتوازنة والعادلة، وانتشال الحياة العامة من براثن الفساد ومحاربة كل أشكال استغلال النفوذ والارتشاء والإثراء غير المشروع، وفسح المجال أمام الكفاءات والطاقات التي تزخر بها بلادنا للمساهمة في بناء المغرب القوي بسواعد وإرادة ووطنية بناته وأبناءه. جبهة فعل وطنية من مهامها خلق شروط ومساحات أمل تستوعب طموحات وأحلام كل المغاربة في الشمال كما في الجنوب، في الشرق كما في الغرب، وبالمقابل تتوحد لتضييق مجال تأثير الفاسدين والسماسرة والانتهازيين ومحاصرتهم داخل الدولة والمجتمع.