حلًّت في الأيام الأخيرة الذّكرى الأربعينية لرحيل الأديب محمد شقور، المغربيّ قلباً وجَناناً، والإسبانيّ لساناً وبياناً، الذي رَحَلَ بَعِيداً عن مَوْطِنِه، وَلَقيَ رَبَّه فِي مَهْجَرِه، فقد كان قد جعل من مدينة مدريد مقرّاً لإقامته في السنوات الأخيرة من عمره، حيث وافاه الأجل المحتوم بها في الرابع من شهر غشت المنصرم.. على حين غرّة غيّبه الحِمَامُ، وخطفته يدُ المنون التي ما زالت تخبط فينا وبيننا خبطَ عشواء بدون هوادة، تسلبنا أحبّاءنا، وخلاّننا، وتتركنا حيارىَ في قبضة الزّمن الذي لا يرحم. تحيّة حرّى لهذا الصديق الأبرّ من حاضرة أبي القاسم المجريطي مدريد العامرة التي شرّفها بوجوده فيها خلال سنوات طويلة خلت من عمره، هذه المدينة التي طالما هام بها وعشقها، والتي كان خلال جلساتنا الطويلة في مقاهيها الجميلة كثير السّؤال عن تاريخها، وعن علمائها، وشعرائها، وفقهائها، وأعيانها أيّام الوجود العربي والأمازيغي بها، ذكراه العطرة ستظلّ نابضة متّقدة في مختلف أركان هذه المدينة الجميلة التي أسّسها العرب والأمازيغ في القرن التاسع الميلادي، والتي تحمل اسماً عربياً، أو بربريّاً (حسب العالِم المغربي الجليل الرّاجل محمد الفاسي رحمه الله) هذه الحاضرة التي تنفرد، وتتباهى بهذا الاسم بين نظيراتها باقي المدن الأوروبية الأخرى، إنه ما زال حيّاً فيها بيننا، بكلماته، وآدابه، وإبداعاته، وإسهاماته في التعريف بالأدب، والفكر العربيين، والدفاع عن الإسلام المعتدل الرّصين في كتاباته، وفي برامجه في التلفزيون الإسباني.. ها نحن نتطلّع إليه من وراء الغيب، وهو في دار البقاء والبُعد عن الشقاء، بعد أن قيّض الله لنا أن نعيش جنباً إلى جنب على درب المودة والصفاء على امتداد سنوات طويلة من أعمارنا، منذ لقائنا الأوّل في المبنى العتيق المتواضع ل"دار البريهي" الذي كان يحتضن مقرّ الإذاعة والتلفزيون المغربي في الرّباط آنذاك. كنا فئة قليلة من الشباب المتطلّع إلى مستقبل لم يكن واضح المعالم أمامنا آنذاك، كان إنتاجنا غزيراً لا ينضبّ، بابتسامته المعهودة، وصوته الخفيض، وتواضعه الجمّ، وكلماته المميّزة بتلك النغمة الشمالية الجميلة للغة أهل مدينة الحمامة البيضاءتطوان العامرة، كان يبادلنا الحديث كأنه مخلوق صافي الشّيم والسّجايا، حميد الخصال والمزايا، كانت الكلمات تخرج من فيه بالكاد تلامس آذاننا. كان قليلَ الكلام، كثيرَ الإصغاء. لقد سكنتْ كلماته قلوبنا، واستوطنت وجداننا وكياننا، أعطى للأدب الإسباني حضوراً وزخماً، بالنظر إليه كان يجعلنا توّاً نتذكر، ونستحضر أسماءَ لامعة من أعلام الخلق والإبداع على امتداد تاريخه الطويل، وجغرافيته مترامية الأطراف، أمثال ميغيل دي سيرفانتيس، ولوبّي دي فيغا، وغونغورا، وكيفيدو، هذا الأدب أمثال لوركا، وألكسندري، وخوان رامون خيمينيث، ودامسُو ألونسُو، ورفائيل ألبرتي، وخورخي غيّين، وماريا ثامبرانو، وأنا ماريا ماتّوتي، وخوسّيه ييرّو، وميغيل دي أونامونو، وخوسّيه أورتيغا إي غاسيت، وأنطونيو غالا، وخاثنتو لوبث كورخي، وترينا ميركادير، وخوان غويتيسولو وسواهم، وسواهم من فرسان وفارسات اليراع والإبداع في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس في كل عصر.. كان خجولاً بين أصدقائه، وممّن عملوا معه وإلى جانبه، إنه بالرغم من الغياب لمّا يزلْ يطلّ علينا بهامته من وراء أكوام الأوراق التي كانت تملأ مكتبه المتواضع في دار البريهي، أو في حُجرات الجرائد والمجلات الناطقة بلغة سيرفانتيس التي كان يرأس تحريرها، أو في مكتبه بوكالة المغرب العربي للأنباء بمدريد، أو في برنامجه في التلفزيون الإسباني الأخير حول الإسلام.. كان حريصاً على حضور مختلف التظاهرات الثقافية التي أقيمت في إسبانيا، بل والإسهام بكلّ ما أوتي من بلاغة الكلام، وحُسن الديباجة والمرام في اللغة الإسبانية، وإنْ نسيتُ فلن أنسى دورَه المحمود في المجال الثقافي، وتعميق العلاقات بين الشعبين الإسباني والمغربي، حيث اضطلع المثقفون الإسبان والمغاربة بالفعل في العقود الأخيرة بدور طلائعي في تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الثنائية بينهما، وإليه يرجع الفضل في تأسيس عام 1978 "مجموعة المثقفين الإسبان والمغاربة" التي ضمّت صفوةً من الكتّاب والأدباء والمفكّرين المغاربة والإسبان الذين نشروا في الصحافة الإسبانية بياناً في هذا القبيل وقّعه ما ينيف على 40 مثقفاً من المغرب، و46 مثقفاً من إسبانيا الذين طالبوا بضرورة تحريك وتفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات. وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة إلى تنظيم عدّة ندوات، وطاولات مستديرة مهمّة حول مختلف أوجه التعاون الثقافي، والأدبي، منها: "معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون" بين الطرفين، من الموقّعين المغاربة: المهدي بنونة، محمّد شبعة، لسان الدين داود، عبد الكريم غلاب، محمد بن عيسى، مصطفى اليزناسني، محمّد العربي الخطّابي، وعبد الكبير الخطيبي، عبد الله العروي، محمّد اليازغي، ومحمّد المليحي، ومحمّد العربي المساري، سيمون ليفي، ومحمّد الصبّاغ، وكاتب هذه السّطور.. إلخ. ومن الإسبان: الراحل خوان غويتيسولو، وفرناندو أرّابل، وبيدرو مونطافيث، وخورخي سينبرون، وفاثكيث مونطالبان، وفيكتور موراليس، وآخرون . وقد طالب هذا البيان بضرورة إعطاء نَفَسٍ جديد للعلاقات الثنائية بين البلدين، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوار بينهما في مختلف المجالات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والإنسانية.. إلخ.. أربعون يوماً مرّت على هذه الفاجعة، فقد كان محبّاً، متواضعاً، يميل إلى البسط والدّعابة والمزاح، وكانت لنا إسهامات مشتركة في حقل الترجمة والأدب الإسباني والعربي في العالم الناطق باللغة الإسبانية، وكانت لنا مشاركات حثيثة خلال العقود الثلاثة الفارطة في مختلف التظاهرات التي تُنظّم في هذا القبيل في مختلف ربوع التراب الإسباني وأصقاعه. تابع الفقيد دراسته في مرحلة التعليم الثانوي بتطوان، ثم حصل على الليسانس في جامعة مدريد في مجال تخصّصه، وقد زاول الصحافة في الرباط، وأشرف على عدّة جرائد ومجلات، مثل "المغرب " و"صحراؤُنا و"قضايا عربية "، و"إِيبِرْ- أطلس و"الإسلام والغرب" و"مارويكوس"، كما عمل في حقبة من حياته بالإذاعة والتلفزة المغربية. نشر العديد من الأعمال الدراسيّة والإبداعيّة منها: "أنطولوجيا القصص المغربية باللغة الإسبانية"، بالتعاون مع الراحل خاثِينْتو لُوبّيثْ غُورْكي، و"ملتقيات أدبية: المغرب-إسبانيا-إيبيرُوأمريكا" و"الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية"، بالتعاون مع الباحث والناقد التشيلي سيرْخْيو ماثيَّاسْ، و"المفتاح ونبضات الجنوب".. إلخ.. وعلى إثر رحيله نعاه وأبّنه العديد من أصدقائه زملائه الذين عملوا إلى جانبه، فضلاً عن بعض الأدباء والشعراء الإسبان منهم الصّحافي في جريدة "الباييس" دومينغو ديلْ بينو، والأستاذة بالجامعة المستقلة بمدريد الناقدة والشاعرة ليونور ميرينو، والعديد من أصدقائه المشتغلين بالدراسات الإسبانية داخل المغرب وخارجه، ونعاه الشاعر والناقد الإسباني خوسّيه ساريّا الذي كتب يقول عنه: "قد لا يعني اسمُ محمد شقور شيئاً بالنسبة إلى الكثيرين. فهو بالإضافة إلى كونه كان مثقّفاً من الطراز الرّفيع، وكاتباً فذّاً باللغة الإسبانية، ومفكِّراً ذا نزعة إنسانية شمولية، كان كذلك من كبار المهتمّين في حقل الدراسات الإسبانية- العربية ومن أبرز الذائدين والمدافعين عن لغة سيرفانتيس". ويضيف الناقد الإسباني قائلاً: " لم يحْظَ محمد شقور بأيّ احتفاء يناسب مستواه الثقافي، كما لم تُنظّم له أيّ تظاهرة تكريمية من طرف الحكومة". وقد عاب الناقد خوسّيه ساريّا على السلطات الإسبانية هذا الصّنيع المُجحف حيال رجلٍ قدّمَ الكثير للغة الإسبانية ولثقافتها كما عاب كذلك على الحكومات الإسبانية التي تعاقبت على تسيير دفّة الأمور في إسبانيا في العقود الأخيرة كونها ظلّت تنظر بلا اكتراث للزَّحفَ المتواصل للغتين الفرنسية والإنجليزية في منطقة كانت باستمرار موطناً ومرتعاً وملاذاً للموريسكييّن والسّفارديين والأندلسيين والإسبان على حدٍّ سواء. وختم خوسّيه ساريّا كلمته قائلاً: "لقد رحل شقور، إلاّ أنّ تراثه سيبقى بيننا، كما ستبقى لنا مقاومتُه العنيدة، وإخلاصُه للّغة الإسبانية". * كاتب، ودبلوماسي مغربيّ سابق في إسبانيا وفي بعض البلدان العربية وأمريكا اللاّتينيّة، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا