اتفاق بشأن زيادة عامة في أجور العاملين بالقطاع العام بمبلغ 1000 درهم صافية شهريا.. وترقب لزيادة في أجور القطاع الخاص    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    بتنسيق مع "ديستي".. الحرس المدني يحجز زهاء طنين من الحشيش بسواحل إسبانيا (صور)    الدرك يوقف مشتبها فيه بقتل تلميذة    مجلس النواب.. انطلاق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية برسم سنة 2024    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    استطلاع: انخفاض عدد الأمريكيين الداعمين لبايدن والغالبية تميل نحو ترامب    الاتفاق رسميا على زيادة عامة في أجور العاملين بالقطاع العام بمبلغ 1000 درهم شهريا    الحوار الاجتماعي..الحكومة ترجئ الحسم في ملفي التقاعد والإضراب إلى حين التوافق مع النقابات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    يوم دراسي حول مكافحة الجرائم الماسة بالمجال الغابوي    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب        الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    التنسيق النقابي لقطاع الصحة…يقرر مواصلته للبرنامج النضالي    ارتفاع أسعار الأضاحي يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !        غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الإثنين بأداء إيجابي    عقوبات ثقيلة تنتظر اتحاد العاصمة بعد انسحابه أمام نهضة بركان    التنسيق الميداني للتعليم يؤجل الاحتجاج    التقنيون يتوعدون أخنوش بإضرابات جديدة    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    الروائي الأسير باسم خندقجي يهزم السجان الإسرائيلي بجائزة "بوكر العربية"    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    طلاب مغاربة يتضامنون مع نظرائهم الغربيين الداعمين لغزة    تزگل باعجوبة. مقرب من العائلة ل"كود": زكريا ولد الناصري ما عندو رالو وها كيفاش وقعات لكسيدة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكيمي يتوج رفقة باريس سان جيرمان بالدوري الفرنسي    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس الجائزة الكبرى لجلالة الملك محمد السادس للقفز على الحواجز بالرباط    مجلس المنافسة: 40 في المئة من الخضر والفواكه بالمغرب تتعرض للتلف    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    للمنافسة عالميا.. جهود مغربية لتطوير صناعة الألعاب الإلكترونية    جماهير اتحاد العاصمة معلقة على الإقصاء: تم التضحية بنا في سبيل قضية لا تعنينا    الصين: "بي إم دبليو" تستثمر 2,8 مليار دولار اضافية شمال شرق البلد    200 مليون مسلم في الهند، "أقلية غير مرئية" في عهد بهاراتيا جاناتا    ماركا: المغرب يستغل الفرصة.. استعدادات متقدمة لنهائيات كأس العالم وسط فضائح الاتحاد الإسباني    إدارة أولمبيك خريبكة تحتح على الحكام    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    "العدالة والتنمية" ينتقد حديث أخنوش عن الملك خلال عرض حصيلته منددا بتصريح عن "ولاية مقبلة"    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"صحيح البُخاريّ" أمام باطل "عَبَدة الأهواء!
نشر في هسبريس يوم 15 - 11 - 2017

من أشدّ الآفات في زمننا أنّ كثيرًا من أدعياء «الفِكْر الحُرّ» بيننا يَسْتسهلون إرسالَ الكلام على عَواهنه. وليس الأصل في هذه الآفة - كما قد يُظَنّ- كَوْن "الجهل" (بمعنى «الخُلُوّ من المعرفة») مُنْتشرًا وغالبًا من جَرّاء أسباب تَشْتغل موضوعيًّا (تَخلُّف نظام "التّعْليم" ووَسائل "التَّضْليل" وهشاشة تَكْوين "الكفاءات")، وإنما لأنّ كَوْنَ هذا النّوع من "الجهل" مُحيطًا بالإنسان يَسْتلزم الإقرارَ به كواقع قائم على النّحْو الذي يُوجب لا فقط السّعْيَ إلى اكتساب ما يُسْتطاع من "المعرفة"، بل أيضا تَبَيُّن مدى صُعوبة فعل "المعرفة" نفسه بحيث يَصيرُ "الجهلُ" الحقيقيُّ ذاك "السَّفَه" الذي يُورِث الإنسانَ عادةَ نِسْيان واجب "التّواضُع" اعترافًا ب"الجهل" المُحيط جدًّا وب"الخطإ" المُحْتمل دائمًا. وفحوى هذا أنّ آفةَ تعاطي «الكلام المُرْسَل» تَجِد أَصْلَها في عدم استئناس "الأهواء" اجتماعيًّا ومُؤسَّسيًّا بالقَدْر الذي يُمْكِنُه أن يَسْمح بتَجلِّي "العقل" حُكْمًا مُعَلَّلًا وقولًا مُحْكَمًا.
ومن ثَمّ، فإنّ «الخطاب المعقول» لا يَتأتّى إِلّا بأن يُبْنى القولُ بصفته يُعَبِّر - في آنٍ واحدٍ- عن تَوَجُّهٍ "خُلُقي" و"معرفيّ" لا يَقْبَل أن يُفْصَل فيه "النّظرُ" عن "العَمَل" كما لو كان الأوّلُ فِعْلًا "معرفيًّا" مُسْتقلًّا بنفسه وقابلًا لأن يُعْزَل أو يُجَرَّد تمامًا عن «سَيْر الحياة»، وكما لو أنّ الآخَر فِعْلٌ "وِجْدانيٌ" يُلابِس «المَعِيش اليوميّ» في صَيْرُورته الجارِفة ودَيْمُومته المُلْتبِسة.
وكُلّ مُشْكلة أدعياء «الفِكْر الحُرّ» قائمةٌ في كَوْنهم يُعْطُون لأنفسهم امْتيازًا حَصْريًّا يُظْهِرُهم كأنّهم أقدر من غيرهم على إِتْيان "النّظَر" كفِعْلٍ مُجَرَّدٍ من كُلّ «الأهَواء» ومُنَزَّه عن كُلّ «الأغراض»، في الوقت نفسه الذي يُصِرُّون على وَصْمِ خُصُومهم بصفتهم وَحْدهم ضحايا "الجَهْل" كأهواء عمياء وأغراض مُضِلّة. والحال أنّ ما يُمَيِّز الإنسان، في إطار شُمُوليّة «الوَضْع البَشريّ»، إنّما هو الاشتراك الضّروريّ في مُكابَدة مُختلف الشُّروط المُحَدِّدة ل"الوُجُود" و"الفِعْل" ضمن هذا «العالَم الدُّنْيَوِيّ». ولذا، فإنّ وَصْفَ الانْخراط البَشريّ في تَحَدُّده الموضوعيّ يَفْرِض نفسَه ابتداءً لفهم وتفسير كُلّ ما يُعاش ذاتيًّا كمُلاحقة دَالّة لمُخْتلف الرِّهانات (والأوهام) المُتعلِّقة بهذا «اللَّعِب الاجتماعيّ» أو ذاك، ممّا يُفيد أنّ ما يُنْظَر إليه ك«فِكْر حُرّ» لا يَنْفكّ عن شُرُوط «المُكابدة الوُجوديّة»، بحيث لا يَصِحّ اعتبارُه امتيازًا خاصًّا بنُخْبة يُظَنّ أنها لا تُشارك في أَيِّ نوع من "الألعاب" المُلْهِية أو المُجْدِية اجتماعيًّا ووُجوديًّا.
وفي المدى الذي يُمَثِّل «صحيحُ البُخاريّ» نَمُوذجَ «الاتِّباع الدِّينيّ» في المذهب السُّنّيّ، فإنّ اتّخاذَه موضوعًا للنَّقْد المعرفيّ يَقْتضي تَجاوُزَ نمط «التّجْريد النَّظَريّ» (كاشتغال بإجراءت «التّفْكير الصُّوريّ» في قيامها، من جهة، على وَضْع «المَعايير» تَحَكُّمًا أو تَشهِّيًا واقتصارها، من جهة أخرى، على تَرْتيب «النّتائج» على «المُقدِّمات» حسابًا آليًّا أو نَظْمًا تَنْسيقيًّا) نحو نَمَط «المُمارَسة العَمَليّة» في اشتمالها على مُختلف ضُرُوب «الاشتباه» وأحوال «التّبَدُّل» ودرجات «التّناقُض» المُحيطة ب«أشكال الحياة» مهما بَدَتْ مُبْتذَلةً ومُتنافرةً.
ومن المُؤْسف أنّنا 0بْتُلِينا، منذ عُقود، بزُمْرةٍ من أدعياء "العقل" و"العلم" من الذين يَصْدُرون عن «معقوليّة اختزاليّة» انتهتْ بين أيديهم نُتَفًا مُهَرَّبة ونُسَخًا مُتقادمةً فتَراهُم مُبْتهجِين بإعْمالها في كُلّ موضوع إلى الحدّ الذي لا يَتَردّدُ أحدُهم عن تعاطي "التّقَوُّل" كيفما يَتّفقْ له من دُون أن يُكَلِّف نفسه عناء مُساءَلة حاله من حيث كَوْنُه يَخْضَع لراسخ عوائده ويَسْتهلك آليّاتٍ لم يُنْتِجها أصلًا ويَدّعي التَّفرُّد بالنُّبُوغ تَقْلِيبًا لرِمَم الأموات بدلا من أن يُثْبِت مدى اقتداره على إقامة بُنْيانه الفِكْريّ بالاستقلال حتّى عن مُعاصريه من الأحياء!
ولعلّ المُتقوِّلين على «السُّنّة النّبويّة» عُموما، وعلى «صحيح البُخاري» بالأخص، يُمَثِّلُون أبرز أُولئك الأدعياء الذين تجدهم يَتوسّلُون بكُل الذّرائع المُمْكِنة لجَعْل أَيِّ «شُبْهة ظاهرة» تستوي كما لو كانت «حُجّةً بالغةً». والحال أنّ الاشتغالَ ب"التّفْكير" لا يَنْفكّ عن «عبادة الهوى» ما لم يُخْضَع لسَيْرُورة "التَّوْضِيع" تَوْصيفًا وتَحْليلًا بحسب ما تَقْتضيه إقامةُ سِلْسلة «الأسباب الموضوعيّة» في تَمَيُّزها الضّرُوريّ عن الارْتهان لدُوّامة «الدّوافع الذَّاتيّة». فعلى أساس الانخراط في مُمارَسة "التَّوْضِيع" كتَنْسِيب دائم ومُتبادَل، يَصيرُ مُمْكِنًا أن يُحَرَّر "الفِكْرُ" من تَوَحُّد "الهَوى" فيُخْضَع ل«سَيْرُورة البحث» اشتراكًا في مُقْتضيات "البناء" وتَبادُلا لإكراهات "المُراقَبة" بما من شأنه أن يَكْفُل ضبط إجراءات "التّفْسير" و"التّعْليل" والابتعاد عن غَوائل "التّحَكُّم" و"التَّسَيُّب".
ومن أجل ذلك، فإنّ المُتقوِّلين على «السُّنّة النّبويّة» من أدعياء "العقلانيّة" و"العَلْمانيّة" بيننا ليسوا - من حيث كونُهم أحرص النّاس على الطّعْن في «عُلوم الحديث» تَضْليلًا وتَشْغيبًا- سوى عَبَدة للأهواء. إِذْ كيف يَكُونون من أُولي الألباب وهُم يَعْرِضُون تَخَرُّصاتهم بكُلّ مظاهر «الحقّ» الذي لا يأتيه «الباطل» من بين يديه ولا من خلفه في الوقت الذي يَغْفُلون عن كَوْن الأمر – حتّى عند خُصومهم المُتَّهمين- يَتعلّق ب«الاجتهاد» في تَحْصيل ما يُمْكِن من الأسباب و(العِلَل) المُرَجِّحة لقَدْرٍ من «الظَّنّ» يَكْفي لإقامة «العَمَل» اعتقادًا واتِّباعًا؟! وكيف يَتكتّمون على دوافعهم الدّفينة وأغراضهم المشبوهة فلا يَتوَرّعون عن إسْقاطها على خُصومهم في الحاضر والماضي؟! وأَيُّ عقل لدى من يَدّعي الدِّفاع عن «التَّجْديد» و«الإصلاح» في "الإسلام" وهو يَعْمَل لا فقط على هَدْم أحد أهمّ أُصُوله، بل على هَدْم كُلّ أَصْلٍ فيه باعتبار أنّ «القُرآن» نفسه لم يُنْقَل إِلَّا من طريق «الرِّواية» أو لم يَثْبُتْ إِلَّا على شاكلتها؟!
وإجمالًا، فإنّ النّاظرَ في أقوال أُولئك الأدعياء يُمْكِنُه أن يَتبَيّن أنّ هُناك تِسْع شُبُهات كُبرى كثيرًا ما يَلُوكُونها تَصْريحًا أو تَلْويحًا:
تَقُوم الشُّبْهة الأُولى على القَوْل بأنّ "القُرآن" بصفته «كلامَ اللّه المُوحَى» ليس في حاجة إلى ما سواه، بحيث لَمْ يَكُن مُحمَّد بن عبد اللّه (صلّى اللّه عليه وسلّم) سوى «بَشَرٍ رَسُول» أُنْزِل عليه "القُرآن" ليُبَلِّغه للنّاس من دُون زيادة أو نُقْصان. وبالتّالي، فليستْ هُناك أصلًا أَيُّ حاجة إلى ما يُسَمّى "الحديث" أو «السُّنّة النّبويّة». والغرض من هذه الشُّبْهة إِثْبات أنّ "النُّبُوّة" ليستْ «وساطة بَشريّة بعناية إلاهيّة» وأنّ "الرِّسالة" تَنْحصر في «التَّبْلِيغ الأمين». وكُلّ ما يُمْكِن أن يُوصَف بأنه «تَجْرِبة نبويّة» إنما هو «تَجْرِبةٌ بَشريّةٌ» و«حُدُوث تاريخيٌّ» من دون أدنى «تَدَخُّل إلاهيّ». ولهذا، فإنّ أصحاب هذه الشُّبْهة يُؤكِّدون تنافي بَشريّة "النَّبيّ" و"الرّسول" مع "الاصْطفاء" و"العِصْمة" حتّى يَتسنّى لهم نفي "الحديث" و"السُّنّة". لكنْ، لو صحّ أنّ "النَّبِيّ" و"الرّسُول" ليس سوى بَشرٍ عاديٍّ، لما كانت ثمّة حاجةٌ إلى أن «يُبَعْث في قَوْمه بلسانهم» وتأكيد أنه «صُنِع على عَيْن اللّه» وأنه «يُوحَى إليه بواسطة سَيِّد الملائكة» وأنه «أُمِرَ أن يَتْلُو القُرآن على مُكْثٍ» وأنه «أُرْسل إلى النّاس ليُعَلِّمهم "الكتاب" و"الحِكْمة" وليُزَكِّيهم». وإِلَّا، فما كان اللّهُ – سُبْحانه وتعالى- ليَعْجِزَ عن أن يُنَزِّل "القُرْآن" كتابًا مَسْطُورًا من السّماء فيَضعه بين يَدَيْ كُلّ إنسان. ويكفي في بيان تَهافُت هذه الشُّبْهة أنّ آيات "القُرآن" تُكذِّبها تَكْذِيبًا، إِذْ تجعل "الرّسُول" ذلك «البَشر المُصْطفى» الذي يَتلقّى «الأمر الإلاهيّ» بما يُقِيمه "بَشيرًا" و"نَذيرًا" و"هادِيًا" و"مُذَكِّرًا" و"مُعَلِّمًا" و"مُبَيِّنًا" و"شاهدًا" و"حاكمًا".
وتُفيد الشُّبْهة الثانية أنّ "الحديث" يُمَثِّل "النّقْل"، فهو «قَوْلٌ منقولٌ» أو «سُنّةٌ مُتناقَلةٌ»؛ ممّا يَفْصِلُه عن "العَقْل" الذي يَتحدّد - بحسب ظنّهم- ضدّ "النّقْل" ("العقل" عندهم «وَضْعٌ مُتَجدِّد» أو «إِحْداثٌ دائمٌ»؛ وبخلافه "النّقْل" الذي ليس سوى "اتِّباع" و"تقليد" و"جُمُود"). ولو صَدّقنا ظَنّهم هذا، لصِرْنا إلى القول بأنه لا شيء من "العَقْل" في "النّقْل" و، من ثَمّ، لا شيء من "النّقْل" في "العَقْل". لكن، وعلى الرّغم من أنّ الأمر يَتعلّق بمُقابَلة مُبْتذَلة ومَكْرُورة لدى مُختلف عُلماء المُسْلِمين (مُتكلِّمين، فقهاء، مُفسرِّين)، لا يُسَلَّم لهم ذلك الفَصْل الحادّ والمُراد بين "النَّقْل" و"العَقْل": أَوّلا، لأنّ الأصل فيه جِناسٌ لُغوِيٌّ ظاهرٌ (اشتراك لفظيْ "نَقْل" و"عَقْل" في حرفَيْن/صوتَيْن مُتتابعَيْن هُما "القاف" و"اللّام")، ولا يَصِحّ رَفْع ما كان بمثابة «عَرَض لُغويّ» إلى درجة «حقيقة وُجوديّة» أو «أَمْر وُجُوبيّ»؛ وثانيًا، لأنّ افتراض كون "النَّقْل" يَخْلُو تماما من "العَقْل" لا يَثْبُت إِلّا بالتّحكُّم أو التَّشهّي؛ وثالثا، لأنّ "العَقْل" لا يَقْبَل أن يُؤَسّس في الواقع الفِعْليّ إِلَّا بفضل "النَّقْل" اكتسابًا وشهادةً. وإِلّا، فإنّ ما يَعُدُّونه عَيْنَ "العقل" ليس ابْتكارًا أصيلًا من لَدُنِهمْ، بل هو «نَقْلٌ» محضٌ ممّا وَضَعه قَبْلَهم غيرُهم!
وتَتمثّل الشُّبْهةُ الثالثةُ في القول بأنّ الاشتغالَ ب"الحديث" لا يرقى إلى درجة "العِلْم" المُنَظَّم منهجيّا والمَبْنيّ موضوعيّا. ومن الغريب أنّ القائلين بهذه الشُّبْهة يكتفون بالإحالة على النّمُوذج التّقليديّ ل"العِلْم" كما يَتعيَّن في «عُلوم الطّبيعة» (مثل "الفيزياء" و"الكيمياء" و"الطب") أو في «العُلُوم الصُّوْريّة» (مثل "المنطق" و"الرياضيّات"). ومبعث الغرابة من جهتَيْن: أُولاهما، أنهم يَغْفُلون عن كون الاعتراض على «علم الحديث» (وأيضا على «علم الفقه» و«علم الكلام» و«علم التفسير») بالمُقارَنة مع تلك العلوم لنْ يَكُون مُوَجَّها إِلَّا إذَا اعْتُرِض، أيضا، على كُلّ «عُلوم الإنسان» («علم التاريخ»، «علم اللُّغة»، «علم النّفْس، «علم الاجتماع، «علم القانون») من حيث اختلاف موضوعها ("الإنسان" بما هو "ظواهر" يتجلّى فيها "الوعي" و"الإرادة"؛ ولكونه "أحداثًا" لا تَنْفكّ عن "المعنى" و"القيمة")؛ وثانيتهما، أنهم لا يُبَيِّنون مُقْتضَيات "العِلْميّة" كمَعايير مُحْتتِنة وكُليّة فيما وراء الصُّورة المُبْتذَلة والمُخْتزَلة التي تُظْهِر "العلم" كما لو كان واحِديًّا في إجراءاته المنهجيّة ومُتَّسِقًا في نتائجه النّظريّة رغم تَعَدُّد المجالات وتَبايُن التّطبيقات. لكنْ، لو سَلَّمنا – على الأقلّ- بالمعنى المُوَسَّع ل"العِلْم" من حيث هو «موضوع مُحَدَّد» و«منهج مُعْتمَد» و«نتائج مُؤكَّدة» لدى المُشْتغلين به، فلَنْ يَكُون مفرٌّ من الإقرار بأنّ هُناك عِلْمًا للحديث له موضوعه (كُلّ ما يُنْسَب إلى الرَّسول) ومنهجه (الانتقاء من الرِّوايات بالجَرْح والتَّعْديل) ونتائجه (مسانيد الحديث) وَفْق حُكْم أهله المُخْتصّين به. وأشدّ من هذا كُلّه، فلو أنّ أصحاب هذه الشُّبْهة كانوا فعلا يَعْملُون بنموذج "العلميّة"، لوَجدوا أنفسهم يَحترمون "التّخَصُّص" فيَرْبأُون بأنفسهم عن اقتحام أَيِّ مجال ليستْ لهم الأهليّةُ الكافيةُ للبَتّ فيما يَخُصّه (لا يَجْرُؤ أَيُّ دَعِيٍّ من هؤلاء على أن يَتقوّل على ما يَتعلّق ب"الفيزياء" أو "الرياضيّات" أو "الطبّ" حتّى لا يَجعل نفسه عُرْضةً للسُّخْريّة من قِبَل حُرّاسها الأشدّاء والأيْقاظ!). ومن هُنا، يتأكّد كيف أنّ القولَ بعدم علميّة «دراسات الحديث» إنما يُراد به فسحُ المجال للتّقوُّل عليه دُون قيد أو شرط.
وتَذهب الشُّبْهةُ الرّابعةُ إلى تأكيد تأخُّر «تَدْوين الحديث» باعتبار ثُبُوت نهي الرّسول عن كتابة "الحديث"، وهو ما يُشير إلى البُعد بين «زمن النّبوّة» و«زمن جَمْع الأحاديث»، ممّا يُؤدّي إلى الشّكّ في صحّة كُلّ ما يُنْسَب إلى رسول اللّه. ولا بُدّ من أن يُميَّز، في هذه الشُّبْهة، بين القول المبنيّ على النّهي عن كتابة "الحديث" كسبب ل«تأَخُّر التّدْوين» وبين القول المُطْلَق بهذا الأمر. فمن يَستند إلى مسألة النَّهْي يُقِرّ، على الأقل جزئيّا، بصحّة بعض الأحاديث (المُتضمِّنة للنّهي). ومثل هذا الإقرار يُوجب على صاحبه أن يَنْظُر لا فقط في علّة النّهْي، بل أيضا في الأحاديث الأُخرى التي تَأْذَن بكتابة الحديث (بعد زوال عِلّة النّهي). وأمّا القول بتَأخُّر «تدوين الحديث» مُطْلقًا، فلا يَصحّ عند أهل الاختصاص الذين يُثْبِتون وُجود «صُحُف للحديث» لدى بعض الصحابة على الأقلّ منذ السنوات الأخيرة من حياة النبيّ. وإِلّا، فإنّ "التدوين" نفسه يبقى تابعًا ل"الحِفْظ" في مُجتمع كانت فيه "الذّاكرة" مُستودع الماضي. وإِذَا كان «الشِّعْر الجاهليّ» لم يُدَوَّن منهجيّا إِلَّا بعد "الإسلام"، فإنّه يَتّضح كيف أنّ مذهب الشَّكّ في صحّته لم يُسْلَك إِلَّا كتمهيد للشَّكّ في "الحديث" و"السُّنة"، بل في "القرآن" نفسه. ومن البَيِّن أنّ قَبُول تَدْوِين «الشِّعْر الجاهليّ» لا يَتْرُك فُرصةً للاحتجاج بتَأَخُّر «تَدْوين الحديث». وأكثر من ذلك، فإنّ وُجود الدّافع إلى حِفْظ عُموم "الدِّين" يُمَثِّل سَببًا أقوى للعناية بنُصوصه (لم تنتشر الكتابة إلَّا بفضل "الدِّين" وخدمةً له!).
وتَتعلّق الشُّبهة الخامسة باعتبار أنّ «تاريخيّة الحديث» تَجعلُه استجابةً لحاجات اجتماعيّة مُحَدّدة مكانيّا وزمانيّا. ف"الحديث" يَدُلّ، بالأساس، على «حَدَث تاريخيّ» ليس فقط من حيث كونه نتاجَ عمل "المُحَدِّثين" بما هُم بَشرٌ عاديُّون، بل أيضا من حيث كونه في الأصل يرجع إلى "النّبيّ" في تَنَزُّله البَشريّ أو، بالأحرى، في تَنْزيله البَشريّ ل"الوحي"؛ ممّا يقتضي أنّ "الحديث" – بالمعنَيَيْن كليْهما- تعبيرٌ عن «التّجْرِبة البشريّة» في محدوديّتها ونسبيّتها. لكنّ من يقول ب«تاريخيّة الحديث» مُلْزَمٌ، كذلك، بأن يقول ب«تاريخيّة حُكْمه على الحديث» من مُنْطلَق أنه - كفاعل بشريّ- يخضع للصّيرورة التّاريخيّة بما هي تلك "الضّرُورة" التي تتَعالى على «الفاعليّة البَشريّة» كإرادة ووعي محدودَيْن موضوعيًّا أو من مُنْطلَق أنّ توصيفَ «الفعل البَشريّ» وتفسيرَه غيرُ مُمْكنَيْن إِلّا باعتبارهما - هُما أيضا- مشروطَيْن زمنيًّا كفعلَيْن بشريَّيْن. ثُمّ، إنّ مَنْ يقول بأنّ «التّاريخ حاكمٌ على كُلّ شيء» يُسَلِّم بأنّ "التّاريخ" - في كيفيّة وُجوده وفعله- "مُطْلَقٌ" بحيث يَفْرِض نفسَه بالشّكل الذي يَجعل كُلّ ما سواه يَتحَدّد فقط بالنِّسبة إليه (كأنه البديل الأرضيّ عن "اللّه"). والحال أنّه إذَا كان "التّاريخ" بشريًّا بالتّحديد المُعْتاد، فهو لا يَنْفكّ عن "المحدوديّة" و"المشروطيّة" البشريّتَيْن. وبالتالي، فإنّ "التَّوْضيع" كتَنْسيبٍ تاريخيّ (أو ك"تَأْرِيخ") لا يَصحّ أن يُتّخذ كمعيار مُتعالٍ للحُكْم على حدَثَيْن مُتميزَيْن من حيث خصوصيّتهما التاريخية، ممّا يقتضي "التّغاير" المانع من كُلّ مُقارنَة أو مُفاضَلة. ولا سبيل لتَجاوُز نسبيّة «التّوْضيع التّاريخيّ» من دُون الانفتاح على ما يُقَوِّم "الإنسان"، في أصل وُجُوده وفِعْله، بصفته يَمْلِك أن يَتعالى على «الضّرُورة التّاريخيّة». ولأنّ "المُحَدِّثين" كانوا – على غرار سائر عُلماء المُسلمين- يُؤْمِنُون بإمكان "التّعالي" على أساس «المُمارسة الدِّينيّة»، فإنّ إرادةَ حَصْر عَمَلهم كمُجرَّد نتاج تاريخيّ تُعَدّ إرادةً تَجْمَع بين التَّحَيُّز ل«التّدْهير» (كإكْراه مُترتِّب على تَعْطيل أو تَحْيِيد "الدِّين") والنُّزُوع إلى العمل ب"الإكراه" في انتزاع نوع من "التّعالي" لفَرْض ما يَرْتأُونه صوابًا.
وتأتي الشُّبْهة السّادسة تَبعًا للشُّبْهة السّابقة، إذْ أن القول ب«تاريخيّة الحديث» لا بُدّ أن يَقُود إلى القول بأنّ الاشتغال به يُمثِّل انْخراطا في حَمْأة "التّاريخ" كصراعات اجتماعيّة وسياسيّة و، من ثَمّ، فِكْرَوِيّة بما يُفيد أنّ عمل "المُحَدِّثين" لم يَكُن سوى مُحاوَلات لإنتاج خطابٍ مُتحيِّز من أجل "تَشْريع" أو "تبرير" وقائع مُعيَّنة. وإذَا جاز - من النّاحية المبدئيّة- أن يَكُون الأمر كذلك بالنِّسبة إلى عمل "المُحَدِّثين"، فلَأن يَجُوز بالنِّسبة إلى الطّاعنين عليهم أَوْلى. فلا شيء يَمْنع من أن يَكُون عملُ هؤلاء، أيضا، انْخراطًا في صراعات اجتماعيّة وسياسيّة وفِكْرَويّة تَتعلّق بالإكراهات التاريخية في الواقع المُعاصر. وعليه، كيف يَحِقّ للمُحْدَثين أن يَدّعُوا التّفَرُّد بالقُدرة على الحُكم على أعمال القُدامى من دُون الخضوع لأيِّ ارْتهان ظَرْفيّ أو تَحَيُّز فِكْرَويّ؟! أَلَا يجب عليهم أن يُبَرْهِنُوا عَمَليًّا على الكيفيّة التي مَكَّنتهم من أن يَستأثروا بصُكُوك «النّزاهة الأخلاقيّة» و«الحياد القِيْميّ» من دون غيرهم؟!
وتَستند الشُّبهة السّابعة إلى القول بأنّ عمل "المُحَدِّثين" في ادِّعائهم جَمْعَ «السُّنّة النَّبويّة» (بصفتها جُزءًا من «الوحي الإلاهيّ») لا يَزيدُ عن كونه عملًا بَشريًّا غرضه إيجاد "التّقْديس" المُناسب للعمل «الدُّنيويّ/المُدَّنس» كما يَتجلّى، بالخصوص، في تَشْريع "الاستبداد" على أساس التّغَلُّب وتَبْرير "الغَزْو" كوسيلة للسَّلْب والسَّبْي والرِّقّ في الماضي؛ وكذا في التّوَسُّل ب"المُقدَّس" لتَبْرير «الإجرام الاسترهابيّ» وإدامة «الطُّغْيان الاستبداديّ» في الحاضر. ويبدو أنّ هذه الشُّبْهة تنبني على افتراضَيْن: يُفيد أوّلُهما أنّ كُلّ «التُّراث الحديثيّ» (أو، على الأقلّ، مُعظمه) يَرْجع إلى "التّقْديس" المُنْصَبّ على أُمور «دُنيويّة/مُدنَّسة»؛ ويُشير ثانيهما إلى أنّ "المُقدَّس" يَحْمِل في ذاته إِمْكانَ تَوْظيفه لأغراض "دُنيويّة" بشكل لا يُستطاع تفاديه. ومن يُريد الطّعْن في "الحديث" من هاتَيْن النّاحيتين، فهو يُجازِف ب"التّعْميم" من دون سَنَدٍ كافٍ إمّا جهلًا وإمّا تَضْليلًا. ذلك بأنّ «السُّنّة النّبوِيّة» لا تَقْبَل أن تُخْتزَل في «تَقْديس المُدَنَّس»، بل تشتمل – بالأساس- على ما يُمَثِّل مَنْع نَقْل "المُدَنَّس" إلى رُتْبة "المُقَدَّس" باعتبار أنّها تُنْكِر على "الظّالِمين" و"الفاسِقين" و"المُجْرِمين" و"المُفْسِدين" ما يَرْتكبونه من صُنوف "الباطل". كما أنّ كُلّ ما يُعَدّ حقًّا في عصر ما يُواجِهُ حتمًا إِمْكان تَوْظيفه ك"مُقَدَّس" لتَبْرير أشكال "المُدَنَّس". وهذا الأمر يَصْدُق الآن على «مُكْتسَبات الحداثة» و«حُقوق الإنسان» و«نتائج العُلوم» التي تُتّخذ من قِبَل كُلّ أصحاب الأطماع لتَشْريعِ وتَبْريرِ أعمالهم. فالمُشْكل لا يَخُصّ "الحديث" و"المُقَدَّس الدِّينيّ" وحدهما، بل يَشْمَل كُلّ شيء في حياة الإنسان باعتبار أنّ "التَّقْديس" آليّةٌ اجتماعيّةٌ وحِيلةٌ رَمْزيّةٌ يُتوَسَّل بها لرَفْع "المُدَنَّس" إلى مُستوى "المَقْبُوليّة" و"المَعْقوليّة" كوَجْهَيْن لتَجلِّي "المُقدَّس" لا يَنْفكّ عنهما الطّلَبُ البَشريُّ أبدًا.
وتَقُوم الشُّبْهة الثّامنة في القول بأنّ «أهل الحديث» لم يَعْتنُوا إلّا بنقد "السّنَد" بما يقتضي أنّهم أهملوا نقد "المَتْن" على النّحو الذي جَعلَهم يُصَحِّحُون ما يتناقض مع آيات "القرآن"، بل ما يُخالف حُكْم "العقل" أو "الواقع" أو ما صار يُكَذِّبه "العِلْم" في عصرنا. وتَنْبني هذه الشُّبْهة على سُوء فهمٍ كبير يَتعلّق بحقيقة وأساس حُجِّيّة "الحديث" (و"السُّنّة" عموما). ذلك بأن حُجِّيّة "الحديث" لا تأتي أصلًا من مضمونه أو مَتْنه، بل تأتي من مَقام قائله. ومَثَلُ "الحديث" في هذا كمَثَل "القرآن". إِذْ كُلٌّ منهما مصدرُه «الوحي الإلاهيّ». وفقط بتَبَيُّن مصدر حُجيّة "الحديث" و"السُّنة"، يُفْهَم لماذا يُقَدَّم "السَّنَد" على "المَتْن"، ولماذا لا يَنْبغي أن يُتّخذ «العقلُ المُجرَّد» ومُقْتضياتُه معيارًا لنَقْد مَتْنٍ صَحّ - بالرِّواية والدِّراية- سَندُه. ورغم هذا، فإنّ قولَهم بأنّ عنايةَ "المُحَدِّثين" اقتصرتْ على «سَند الحديث» لا يَصِحّ مُطْلقًا، لأنّ عملَ "المُحَدِّثين" لم يَكُن يُفْصَل فيه بين «نَقْد السَّنَد» و«نَقْد المَتْن»، بل كان أحدُهم لا يَشْتغل ابتداءً بالنّظر في "السّنَد" إِلّا على أساس أهميّة مَتْنه تبعًا لما وَرَد في "القُرآن". ولعلّ خيرَ ما يَشْهَدُ على ذلك أنّ "البُخاريّ" نفسَه كان كثيرًا ما يأتي بمُتُون "الأحاديث" بعد عناوين كُبْرَى أصلها آيات قُرآنيّة صريحةٌ. وإِذَا ظَهَر هذا، فإنّ اعْتدادَ الطّاعِنين بهذه الشُّبْهة مَرَدُّه إلى إرادة الانْتقاص من قَدْر "المُحَدِّثين" بصفتهم كانوا يَنْقُلون كيفما اتّفَق لهم من دُون إِعْمال عُقُولهم أو من دُون الالْتفات إلى مُقْتضَيات "الدِّين" كما أُحْكِمتْ وفُصِّلتْ في «القُرآن الكريم». والحال أنّ الدّافعَ الأساسيَّ وراء عمل كبار "المُحَدِّثين" لم يَكُنْ شيئًا آخر غير حِرْصهم الأكيد على "الدِّين"، كما لم يَنْفَكّ عملُهم عن الاحْتكام إلى «أَمْر العقل» المُوجَب شرطًا للتَّكْليف والمُسَدَّد بالشَّرْع الحنيف. وبالتّالي، فمَنْ يَجْرُؤ على اتِّهام "المُحَدِّثين" في دِينهم وعَقْلهم، فدُونه والإتْيان ببَيِّناتٍ عمليّة تَشْهَد على أنه بَلَغ في "الدِّين" و"العَقْل" ما لم يَبْلُغه غيرُه.
أخيرًا، تَدُلّ الشُّبْهة التّاسعة على أنّ بُطْلانَ صِحّة "الحديث" يَثْبُت بقدر ما يَثْبُت أنّ "القُرآن" (كنَصّ دِينيّ) فيه الكفاية وأنه لم يُجْعَلْ غيرَ مُحْكَمٍ وغير مُبِينٍ إِلّا لكَيْ يُحَرَّر "العَقْلُ" ويُفْسَح له في "الاجتهاد" لمُقارَبة ذلك النّص الذي يَصيرُ، من ثَمّ، مفتوحًا أمام لانهائيّة من التّأْوِيلات. ولا يخفى أنّ هذه الشُّبْهة تُمَثِّل الغاية من وراء كُل الشُّبهات السّابقة. والفحوى منها هي بالضّبْط أن يُؤكَّد أنّ الأصلَ ليس هو «الوحي الإلاهيّ» كهُدًى يُؤْتَى وذِكْرٍ يُتْلَى، وإنّما هو «العقل البَشريّ» كنُور طبيعيّ مُعْطًى لكُلّ إنسان وبإمكانه أن يَتحقّق مُسْتقلًّا ومُتَحرِّرًا. ولهذا، يُنْظَر إلى "الحديث" و"السُّنّة" كتَقْيِيد "غَيْبيّ" و"أسطوريّ" لحُريّة "العقل". لكنْ، لو كان «عقلُ الإنسان» بمثابة «الأصل المُؤسِّس» و«المعيار الحاكم»، لما كانت ثمّة أيُّ حاجة إلى "الوحي" و"النُّبُوّة"، بل لجاز أن يَكُون "الدِّينُ" كُلُّه نافلًا بما قد يَقتضي أنّ "اللَّهَ" نفسَه افتراضٌ لا ضرورة له في واقع الإنسان بهذا العالَم!
وهكذا يَتّضح، بناءً على ما سَلَف، أنّ مُعْظمَ مُهاجِمي «السُّنّة النّبويّة» (بالخُصوص كما هي في «صحيح البُخاريّ») غَرَضُهم البعيد أن يُمَكَّن لتَعْطيلِ أو تَحْيِيد "الدِّين". وفي انْتظار أن يَصير بإمْكانهم أن يُعْلِنُوا مُعْتقدَهم ذاك بكُلّ جَراءة وصراحة، فإنّهم يَعْمَلُون في حُدُود ما يَسْتطيعون من أجل اطِّراح «أُصُول الدِّين» تَدَرُّجًا وتَحَوُّطًا. ولهذا، فإنّ أمثالَ هؤلاء مُطالَبُون بأن يَأْتُوا بتَمام بُرْهانهم على كَوْنهم أحرصَ على "الدِّين" من كُلّ عُلمائه وأئمّته و، أيضًا، على كَوْنهم أَصحّ عَقلًا وأشدّ وَرَعًا من جميع من يُخالِفُهم. وإِذَا تَبَيَّن أنّ إِبْطالَ صِحّة "الحديث" يَؤُول، في نهاية المَطاف، إلى رَدّ ثُبُوت "القُرآن" ونَقْض عُرَى "الإسلام"، وثَبَت أنّ الطّاعِنين تُحَرِّكُهم أهواؤُهم الدّفينة وتَقُودهم أطماعُهم الدّنِيئة، فلَنْ يَعُود ثمّة شَكٌّ في أنّ مَسْعاهُم إنّما هو التّمَكُّن من تَهْوِين «أُصُول الإسلام» تَمْهيدًا للتّخَلُّص منه بصفته دِينًا لا يُرْضي أهواءَهم ويَأْبى إِلَّا أن يُخَيِّب أطماعهم. واللّه غالبٌ على أَمْره، ولو كَرِه أهلُ الغِرّة به.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.