لماذا يخاف مغاربة المهجر من الاستثمار بالمغرب ويقتنون العقار فقط؟    أزمة أدوية حادة تثير قلق المستهلكين والجمعيات الحقوقية تدق ناقوس الخطر    بوصوف: صفوية الخميني وعسكرة الجزائر .. وجهان لمخطط واحد يعادي المغرب    أمن وجدة يحجز 10 آلاف و820 قرصا طبيا مخدرا    رمسيس بولعيون يكتب.. المحقق شورطان.. قصة مواجهة العري الإداري في العروي    300 ألف طلب في ساعة على سيارة "شاومي" الكهربائية رباعية الدفع    المغرب في صدارة موردي الكليمانتين والماندارين لأوروبا    محمد مدني: دستور 2011 نتاج وضعية سياسية توفيقية متناقضة    سوريا ولبنان تستعدان للتطبيع مع "إسرائيل"    الوداد في مونديال الأندية.. خيبة الأمل والفشل: كيف قضى أيت منا على طموحات الوداديين؟    بتوجيهات ملكية سامية.. الوزيرة بنعلي تقود أول ثورة إصلاحية مؤسساتية في القطاع العام وتظفر بشرف تنفيذ أول إصلاح سيادي    الدرهم المغربي يرتفع أمام الدولار ويتراجع مقابل الأورو خلال الأسبوع الأخير من يونيو    انطلاق نشر خرائط تنبؤية لحرائق الغابات.. هذه الأقاليم في "المستوى الأحمر"    أمير المؤمنين يهنئ ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية بمناسبة حلول العام الهجري الجديد 1447    مونديال الأندية.. الهلال يتأهل إلى دور ال16 والريال يتصدر بثلاثية نظيفة    النصر السعودي يجدد عقد النجم البرتغالي رونالدو    الوداد الرياضي ينهزم أمام العين الاماراتي    تقدم الصين في مجال حقوق الإنسان في صلب ندوة عقدت بمدريد    قرب تصنيف "البوليساريو" منظمة إرهابية من طرف واشنطن: تحول سياسي كبير يربك حسابات الجزائر        توقعات طقس الجمعة بالمغرب    بوغطاط المغربي | حصري.. قرار جديد للقضاء الألماني يُثَبِّت نهائيا قانونية تصنيف محمد حاجب كعنصر إرهابي ويرفض الطعن    رحيل مأساوي يهز الرياضة النسوية.. وفاة لاعبة نهضة بركان مروى الحمري في حادثة سير بالخميسات    المغرب يحقق "معجزة صناعية" مع الصين بالجرف الأصفر: مصنع مغربي-صيني يضع المملكة في قلب ثورة البطاريات العالمية    المغرب يعزز نموه الاقتصادي عبر 47 مشروعًا استثماريًا بقيمة 5.1 مليار دولار    الوداد يسقط في اختبار العالمية: حضور باهت أساء لصورة كرة القدم المغربية    النرويجي هالاند نجم مانشستر سيتي يبلغ مئويته الثالثة في زمن قياسي    الوراد يشخص إخفاق الوداد بالمونديال    الجزائر تفشل في السيطرة على الأرض فتحاول اختراق الثقافة الحسّانية المغربية    غوتيريش: ميثاق الأمم المتحدة ليس "قائمة طعام" بحسب الطلب    إعدام قاتل متسلسل في اليابان تصيّد ضحاياه عبر "تويتر"    الذهب يتراجع مع صعود الدولار وترقب بيانات التضخم الأمريكية    كيوسك الجمعة | الاتحاد الأوروبي يتمسك بدعم شراكته الإستراتيجية مع المغرب    موجة حر بالمغرب ابتداء من الجمعة    "سيكوديل" يناقش التنمية البشرية    أكاديمية المملكة و"غاليمار" يسدلان ستار احتفالية كبرى بآداب إفريقيا    حفل كاظم الساهر في "موازين" .. فوضى تنظيمية تسيء للفن والجماهير    كاظم الساهر في موازين: ليلة اهتز فيها التنظيم قبل الموسيقى -صور خاصة-    النقل الطرقي يدخل مرحلة الرقمنة الشاملة ابتداء من يوليوز    إصلاح شامل لقطاع السكن والتعمير في المغرب عبر وكالات جهوية متخصصة    قوانين جديدة للمركبات والدراجات في المغرب    مجلس الأمن يدين مجزرة الكنيسة بدمشق    دعم إقليمي متزايد لمغربية الصحراء من قلب أمريكا اللاتينية    حفل أسطوري لويل سميث في موازين 2025    وزارة الثقافة توزع أزيد من 9 ملايين درهم على 177 مهرجانا وتظاهرة خلال سنة 2025    تعيين بنجلون مديرا للمركز السينمائي    ضجة الاستدلال على الاستبدال    بعد غياب 6 سنوات..المعرض الوطني للكتاب المستعمل يعود في نسخته الثالثة عشر بالدارالبيضاء        عبد الكبير الخطيبي: منسي المثقفين    طفل في كل فصل دراسي مولود بالتلقيح الصناعي ببريطانيا    احذر الجفاف في الصيف .. هذه علاماته وطرق الوقاية منه    دراسة تحذر: انتكاسات كبيرة في برامج التلقيح تعرض الأطفال لخطر الأمراض القاتلة    عودة الدواجن البرازيلية إلى الأسواق المغربية بعد زوال المخاطر الصحية    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ضرورة تصحيح "الصحاح".. لن‮ ‬يكون "البخاري" ‬أبدا مقدسا‮...
نشر في هسبريس يوم 14 - 04 - 2018

ما معنى المقدس؟ ما المقصود بتجاوز الخط الأحمر في‮ ‬الدين؟ ولماذا‮ ‬ينتفض‮ ‬المسلم كلما اقترب السؤال من مركز المعارف التي‮ ‬تحكمنا وتحكم وعينا؟ لماذا‮ ‬يقف الناس وينصب البعض أنفسهم حراسا‮ ‬ومراقبين لكل حرف‮ ‬يكتب حول ما‮ ‬يعتبرونه‮ "مقدسا"؟ من قال بالمقدس؟ ومن أين جاءت قداسة بعض النصوص‮ "‬الفقهية والشرعية‮"‬،‮ ‬وبعض السير وبعض المآثر وبعض الشخصيات التاريخية؟ من قال بها؟‮ ‬وهل الخطاب القرآني‮ ‬أنزل من أجل الحفظ والتلاوة وتحويله إلى مجرد‮ "‬شيء‮" ‬يوجد بين دفتي‮ ‬كتاب‮/ "‬مصحف‮" لتزيين المكتبات واستظهاره في‮ ‬المناسبات‮؟‬، ‬أم نزل من أجل الفهم وإعادة الفهم المستمرين عبر التاريخ بهدف إغناء ‬الصيرورة الحضارية؟
كلما عدت إلى الطبقات الأولى من المتون الفقهية والجدل الشرعي‮ ‬والديني،‮ ‬وخاصة النصوص التاريخية لمؤسسي‮ ‬الخطاب التاريخي‮ ‬في‮ التاريخ العربي الإسلامي،‮ ‬أجد من الحقائق ما‮ ‬يكفيني‮ ‬لأعيد النظر في‮ ‬كل‮ "المطلق‮" ‬الذي‮ ‬يتم تسويقه وترويجه.. ‬لذلك يصدمني‮ الوعي‮ ‬السائد بين فئات عريضة من‮ المجتمع‬،‮ ‬لأن القضايا الكبرى أو‮ "‬الدوائر المغلقة‮" ‬تظل دائما في‮ ‬حاجة إلى إعادة الطرح،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن للأدوات التي‮ ‬تقدمها الخطابات المقدسة أن تكون سوى وسائل إثراء وتغذية للأسئلة الراهنة‮، ‬إذ كيف‮ ‬يسمح حراس المقدس لأنفسهم بالتعامل مع النصوص الأولى والثواني‮ ‬منها التي‮ ‬أنتجت حول الخطاب المقدس،‮ ‬والتي‮ ‬بينها وبينه مسافة زمنية معتبرة،‮ ‬وينتقون منها ما‮ ‬يسعف على دعم نمط من الحقائق،‮ ‬ثم‮ ‬يلفظون قسما مهما منه،‮ ‬ويتم تحويل الجزء المبتور إلى نصوص مقدسة تلحق بالمقدس‮ (‬نقصد الخطاب المقدس‮: ‬الكتاب والسنة‮) ‬وبعد تقطيع بشع للتاريخ،‮ ‬الذي‮ ‬يمارس فيه ما كان‮ ‬يقوم به قاطع الطريق اليوناني‮ ‬بروكس،‮ ‬يغلق الباب وتوضع حدود‮ ‬للسؤال،‮ ‬لتطبع إيتيكيتات‮ ‬تضع على جبين كل باحث،‮ "ملحد‮"/ "‬كافر‮"/ "مرتد‮"/ "ملتزم"/ ‬مؤمن‮"..
إن‮ ‬المأساة التي‮ ‬يتخبط فيها الوعي‮ ‬العربي‮ ‬الإسلامي‮ ‬لم تعد تحتمل الصمت،‮ ‬ومن‮ ‬غير المعقول التسليم بإطلاقية،‮ ‬اليوم،‮ ‬بما‮ ‬يعرف ب‮"‬صحيح‮ ‬البخاري‮" وكل الصحاح الأخرى التي‮ ‬صارت متونا لا نقاش فيها‮، ‬إذ ‬غاب‮ (‬أو بالأحرى‮ ‬غُيِّبَ‮) ‬الخطاب المقدس تحت طبقة كثيفة من التمثلات البشرية،‮ ‬وغابت كتب الفقه الأولى،‮ ‬مثلا،‮ ‬وراء كتب الفروع والخلاف‮. ‬وصارت الأسماء/ الأعلام تكفي‮ ‬المتلقي‮ ‬العربي‮/‬ المسلم وتغنيه عن النظر وإعادة النظر فيما‮ ‬يتلقاه منها‮. ‬وهنا، تحضرني‮ ‬حادثة حدثت لي‮ ‬مع مجموعة من النساء اللواتي‮ ‬كن‮ ‬يستفدن في‮ ‬إطار تكوين حول المدونة،‮ ‬وكنت انتقيت،‮ ‬إجرائيا،‮ ‬نصوصا‮ (‬أحاديث‮) ‬من صحيح البخاري‮ ‬بعناية،‮ ‬بحيث‮ ‬قسمتها إلى مجموعتين:‮ ‬الأولى كانت تتضمن نصوصا مسيئة إلى المرأة وحاطة بكرامتها،‮ ‬ووزعتها عليهن دون أن أذكر المصدر.‮ كان رد فعلهن عنيف،‮ ‬وكلهن اتفقن على أنها ليست أحاديث صحيحة،‮ ‬وحين سألتهن عن معنى الحديث الصحيح،‮ ‬قلن جماعة‮: "‬إنه ما ورد في‮ ‬صحيحي‮ ‬البخاري‮ ‬ومسلم‮"! ‬بعدها، أخرجت المجلدات الخمسة للبخاري‮ ‬ووضعتها على الطاولة.. وكانت المفاجأة‮!‬
لهذه الواقعة،‮ ‬التي‮ ‬كررتها في‮ ‬أكثر مناسبة،‮ ‬سواء كمثال أو كإجراء،‮ ‬أكثر من معنى، وعلينا أن‮ ‬ندرك مدى التجهيل المتعمد من قبل‮ ‬صناع‮ "‬المقدس‮" ‬في‮ ‬ترويج صناعة‮ ‬الوهم،‮ ‬الذي‮ ‬لا يهدفون‮ ‬منه إلا إلى تكريس هيمنة نمط من الوعي‮ ‬وتبرير سلط معرفية ورمزية مهترئة ومعاقة‮،‬‮ ‬جعلت من‮ "‬علماء‮" ‬كانوا‮ ‬يجتهدون بتواضع العارفين من‮ ‬غير ادعاء،‮ ‬شخصيات أسطورية،‮ ‬وبعضها ألحقت‮ -‬بمعنى من المعاني‮- ‬بالألوهية والاصطفاء‮ الإلهي،‮ ‬وصار كل من خالف حراس‮ "المقدس‮" "ومن فارقهم في‮ ‬شيء منها نابذوه وباغضوه وبدَّعوه وهجروه‮" -‬كما قال ابن قتيبة‮-. ‬وقد اجتهد النمط المظلم من الخطاب الفقهي‮ ‬والشرعي‮ ‬والديني‮ -‬بصفة عامة‮- ‬لإنتاج‮ "مقولات" ‬و"مقولبات‮" ‬صالحة للاستعمال في‮ ‬كل سياق،‮ ‬وردوها إلى‮ "‬السلف الصالح‮" ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يجوز له أن‮ ‬يجتمع على ضلال،‮ ‬في‮ ‬حين‮ -‬سيرا على طريق المعتزلة وغيرهم من العقلانيين‮- ‬اعتبر النظام‮ "‬جواز تواطؤ أهل التواتر على وضع الكذب‮" ‬وهو ما حدث ولا يزال‮. ‬لذلك، حين أرى نقاشا في‮ ‬الحركة النسائية حول قصور وهفوات‮ "‬المدونة‮" [‬نقصد الأحوال الشخصية‮] ‬وإشكالية‮ "الإرث‮"‬ ‬‮-‬المحكومة بعقلية القضيبية والفحولة والذكورة الحاطة بقيمة المرأة التي‮ ‬تعتبر كائنا من الدرجة الثانية‮ ‬وقد وجدت للاستمتاع بها‮- ‬فأرد على العديدات‮: ‬لن تكون‮ "‬قوانين الأحوال الشخصية" ‬بأحسن مما هي‮ ‬عليه،‮ ‬لأن الخلفية المرجعية المتحكمة في‮ ‬النص القانوني، هي‮ ‬التي‮ ‬ينبغي‮ ‬إعادة النظر فيها‮ أولا باعتبارها المغذية لكل النصوص المشرعة في هذا الباب.
إن المشكل لا يكمن في‮ ‬النص القانوني،‮ ‬وإنما في‮ ‬الخلفية الثقافية والمعرفية والتاريخية التي‮ ‬تحكمه. ‬إنه اشتغال نمط من الخطاب‮ ‬الفقهي‮ ‬والشرعي‮ ‬والديني،‮ ‬وقد أُريد له أن‮ ‬يستمر عبر استثمار آليات‮ "‬حديثة‮"،‮ ‬وهو ما يعبر‮ ‬عنه بورديو حول استقلالية الحقل الديني،‮ إذ الصراع السوسيو-ديني ليس صراعا بين الطبقات الاجتماعية وإنما هو‮ ‬صراع على تعريف الرموز ومنظومات المعنى،‮ ‬يتم فيها تصارع الفاعلين حول مواقع مختلفة ضمن جغرافيا السلط والمعرفة الدينيتين‮. ‬وفي‮ ‬ذلك الصراع تستند السلطة الدينية إلى القوة المادية والرمزية للمجموعات التي‮ ‬يمكنها تعبئتها بما تقدمه لها من منافع وخدمات تلبي‮ ‬حاجاتها الدينية‮. ‬ومن ثَمَّ‮َّ، ‬يعاد إنتاج الحقل الديني‮ ‬بواسطة إواليات تتأسس على التنشئة الاجتماعية وتوريث العادة المشتركة،‮ ‬وفي‮ ‬هذا ما‮ ‬يدل على أن‮ ‬الدين‮ ‬يفرض على الأفراد ويوجههم في‮ ‬مسار فعلهم بنسبة عالية من العنف الرمزي؛ ‬بل ويتحول هذا العنف الرمزي،‮ ‬في‮ ‬البلاد العربية الإسلامية،‮ ‬إلى عنف تستعمل فيه القوة والإيذاء والإجهاز على حريات الأفراد الذين‮ ‬يصبحون مهددين حتى في‮ ‬حقهم في‮ ‬الحياة‮.
يقودنا هذا إلى أن العنف الثقافي‮، ‬الذي‮ ‬يتجلى في‮ ‬كل أنواع الصراع داخل المجتمعات،‮ ‬لا‮ ‬يأتي‮ ‬إلا من الفقر الفكري‮ ‬أولا،‮ ‬ومن انسداد‮ ‬باب الإبداع،‮ ‬وزحف آليات التدجين والاتباع التي‮ ‬تجعل من الماضي‮ ‬قبلة وبوصلة،‮ ‬وتحصر مركزية الكون والتاريخ والجغرافيا في‮ ‬بقعة زمنية لم تكن بأحسن مما نحن عليه في‮ ‬شتى المجالات التي‮ ‬يتحرك فيها الإنسان العربي‮/ ‬المسلم راهنا‮. ‬وهذا العنف الثقافي‮ ‬والرمزي‮ ‬والجسدي‮ ‬الذي‮ ‬يتم تمريره عبر الخطاب الديني‮ (‬نمط من الخطاب الديني‮) ‬يتحول شيئا فشيئا إلى عداء ورفض للاختلاف،‮ ‬فتشهر أسلحة‮ "‬الزندقة‮" ‬و"المروق‮" ‬و"الردة‮" ‬و"الاستلاب‮" ‬لتحصين ما تبقى من الصروح المحطِّمة للفكر السائر في‮ ‬طريق الانقراض الحضاري‮ ‬والتاريخي‮. ‬وهنا، وجبت المقارنة بين المسار التحديثي‮ ‬الغربي‮ ‬والعربي؛ ‬فلقد استند التحديث في‮ ‬المجال الغربي‮ ‬إلى قاعدة اقتصادية ثابتة اعتمدت على ‬التصنيع وحققت ازدهارا استفادت‮ ‬منه المجتمعات الغربية عموما مما أدى إلى تدعيم استقرارها،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬جذَّر لدى أغلب الفئات الإيمان بجدوى الحداثة وبقيمها‮. ‬أما البلدان الإسلامية فإن الاختيارات الاقتصادية لم تكن دائما واضحة وثابتة،‮ ‬بل ظلت هشة،؛ وهو ما جعلها تعجز على تحقيق كل ما وعدت به مشاريع‮ ‬التنمية،‮ ‬ولم تستطع ضمان شروط الاستقرار الاجتماعي،‮ ‬ففقدت الكثير من الفئات ثقتها في‮ ‬اختيارات الدولة،‮ ‬فنشأت الأزمات التي‮ ‬شكلت أهم عوامل النكوص نحو الديني‮ ‬والغيبي،‮ ‬بحثا عن منفذ‮ -‬سحري‮- ‬في‮ ‬واقع انسداد الآفاق وواقع اجتماعي‮ ‬واقتصادي (انظر زهية جويرو: الإسلام الشعبي، رابطة العقلانيين العرب‮. ‬ط1‮. ‬2007‮. ‬ص‮.‬98) ‬لا يزداد إلا تدهورا،‮ ‬فكانت الحداثة‮ -‬المستوردة طبعا‮- ‬إحدى ضحايا النظرة العربية الإسلامية التي‮ ‬حاولت أن تؤسلم الحداثة وتُخضعها لنمط فكري‮ ‬هو‮ -‬في‮ ‬الجوهر‮- ‬نقيضها الأكبر،‮ ‬إذ تؤمن الحداثة بالسؤال المتجدد والهدم الدائم ونسبية الحقيقة التي‮ ‬تظل دائمة التطور. ‬والحداثة لا تترك بابا إلا طرقته ودخلته‮ ‬وحركت من داخله كل ما‮ ‬يؤثثه من الداخل. ‬كما أن الحداثة لا تميز بين مقدس ومدنس. والمدنس فيه من القداسة ما‮ ‬يجعله‮ ‬يعيد طرح قضايا المقدس،‮ ‬وفي‮ ‬المقدس وجوه من الدنس تجعل إسقاط القداسة عنه حتى‮ ‬يتم إسقاط الطابع الأسطوري‮ ‬وإرجاعه إلى الوعي‮ ‬الاجتماعي‮ ‬ومكوناته الثقافية‮؛‬‮ ‬لأن الحداثة مسكونة بهم زحزحة الثوابت،‮ ‬وهو ما‮ ‬يدخل في‮ ‬صميم انشغالها،‮ ‬إذ تتجه نحو ممارسة‮ "‬السؤال‮" ‬على الذات لأنها تسير في‮ ‬اتجاه الفعالية النقدية والتفكيك وقتل الوهم‮. ‬لأن الحداثة لا تعتمد،‮ ‬في‮ ‬أساسها،‮ ‬على البناء العقلاني‮ ‬بقدر ما تتجه نحو اشتغال العقل في‮ ‬ممارسة النقد والانشداد إلى قيم الحرية والمسؤولية والفردية وتقديم العقل‮.
ولعل هذا هو سبب فشل جل الحركات التي‮ ‬سعت إلى عقلنة الكتابة التاريخية المتعلقة بالخطاب الديني،‮ وظلت تعاني‮ ‬من صمود مستميت من قبل‮ ‬‮"‬المجاهدين‮" [‬من فقهاء الظلام الذين حوّلوا التراث إلى متحف للقداسة والحقيقة المتعالية‮] ‬في‮ ‬سبيل الإبقاء ‬على أسطرة‮ ‬الرموز التاريخية،‮ ‬وحراسة أصنامها من الهدم والسقوط. إن كل محاولة لإعادة ترتيب الوقائع ومسح الغبار عنها من أجل عزل الوقائع الدينية عن الوقائع‮ ‬التاريخية‮ ‬يبقى من أكبر المستحيلات،‮ ‬إذ‮ ‬يجعل سدنة‮ ‬الظلام الزمن الديني‮ ‬يشمل كل الأزمنة‮ "‬التراثية" ‬لتمتد إلى مرحلة ما بعد وفاة الرسول‮. ‬وهكذا، صار التاريخي‮ "مؤسطرا‮" ‬لابسا الرداء الديني‮ ‬ليتحوّل إلى‮ "‬مقدس‮" ‬على الرغم من كل ما‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يحمله من‮ "‬مدنس" تاريخي‮.‬
هكذا‮، ‬يهدر الوقت في‮ ‬إعادة استظهار الدروس التي‮ ‬حفظناها في‮ ‬المدارس الابتدائية،‮ ‬عن الأساطير القديمة،‮ ‬وفق منطق تاريخي‮ ‬انتقائي‮ ‬وعنيف،‮ ‬يبقي‮ ‬على ما‮ ‬يشاء ومن‮ ‬يشاء‮..‬محافظا على‮ "‬ثقافة‮ ‬الغزوات" و"ماضي‮ ‬الأندلس‮ الزاهر"،‮ ‬وإمبراطورية‮ "‬الفتوحات‮"‬،‮ ‬وتقديس الأحداث،‮ ‬وتنميط الوعي‮ ‬الزائف،‮ ‬لتكريس هيمنة الوهم والزيادة في‮ ‬صناعة الأعطاب الفكرية لتدمير ما تبقى من أنوار العقلانية،‮ ‬والاكتفاء بالتحديث بدل الحداثة‮. هذا ما‮ ‬يزيد فعل تقديس‮ "‬الحقائق‮" ‬القديمة تضخما،‮ ‬وتتحول منجزات الحداثة،‮ ‬التي‮ ‬كانت وليدة نمط فكري‮ ‬عقلاني‮ ‬معين،‮ ‬إلى تقنيات‮ "‬تستعمل‮" لتبرير ممارسات ومواقف وأحداث،‮ ‬ودعم نقيضها،‮ ‬مع العمل على تدمير المنطق العقلاني، ‬والانطلاق من نتائج محددة سلفا.
إن مشاريع‮ "‬التحديث‮" ‬تسعى إلى‮ "‬توفير حلول جديدة لمشكلات شرعية‮" مع الإخلاص المطلق للمنظومة‮ "الشرعية‮" ‬اللاعقلانية‮. ‬الأمر الذي‮ ‬لا يزيد إلا من صناعة الأوهام التي‮ ‬تتجلى في‮ "‬الإعجاز العلمي‮ ‬للقرآن‮" ‬وإطلاقية بعض الحقائق وصلاحيتها‮ "لكل زمان ومكان"؛ وهو ما‮ ‬يقوي‮ ‬البنية المنطقية التراثية التي‮ ‬تتجدد بفعل قدرتها على التجدد من‮ ‬غير أن تكون في‮ ‬حاجة إلى مراجعة الأسس المعرفية المتحكمة فيها‮.
لقد‮ ‬صار من واجبنا أن نواجه هذا السيل الجارف من فيضان العقل اللاهوتي‮ ‬الذي‮ ‬يأوي‮ ‬في‮ ‬التراث،‮ ‬بقضايا لا هوتنا المعاصر. ‬ومن ثمّ، من الضروري‮ ‬إعادة تصحيح‮ "‬الصِّحاح‮"،‮ ‬وتصحيح نظرتنا إلى الأحداث التاريخية بعيدا عن الميثولوجيا والخرافة وأن نتحلى بالجرأة والشجاعة على تقبل النتائج ‬التي‮ ‬سيقودنا إليها الاستدلال المنطقي‮ ‬السليم كيف ما كانت طبيعتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.