مزور: الكفاءات المغربية عماد السيادة الصناعية ومستقبل واعد للصناعة الوطنية    "كان" الشباب... المنتخب المغربي يختتم تحضيراته استعدادا لمواجهة سيراليون    رفع تسعيرة استغلال الملك العام من 280 إلى 2400 درهم للمتر يغضب المقاهي ويدفعها للإضراب    مدرب برشلونة يحث لاعبيه على فرض هيمنتهم أمام الريال في الكلاسيكو    فرنسا تعتزم تمويل مشاريع مهمة في الصحراء المغربية    سحابة سامة تُجبر آلاف السكان على إغلاق منازلهم جنوب غرب برشلونة    تحريك السراب بأيادي بعض العرب    غ.زة تعيش الأمل والفلسطينيون يحبسون أنفاسهم    بوتين يقترح إجراء محادثات مباشرة مع أوكرانيا في إسطنبول انطلاقا من 15 ماي    الصحراء المغربية.. الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو    الهند وباكستان تتبادلان الاتهامات بانتهاك اتفاق لوقف إطلاق النار    ميسي يتلقى أسوأ هزيمة له في مسيرته الأميركية    القاهرة.. تتويج المغرب بلقب "أفضل بلد في إفريقا" في كرة المضرب للسنة السابعة على التوالي    زيلينسكي: روسيا تدرس إنهاء الحرب    أجواء احتفالية تختتم "أسبوع القفطان"    سلا تحتضن الدورة الأولى من مهرجان فن الشارع " حيطان"    طقس الأحد: زخات رعدية بعدد من المناطق    زلزال بقوة 4,7 درجات يضرب جنوب البيرو    في بهاء الوطن… الأمن يزهر    موريتانيا ترغب في الاستفادة من تجربة المغرب في التكوين المهني (وزير)    بعد فراره لساعات.. سائق سيارة نقل العمال المتسبب في مقتل سيدة مسنة يسلم نفسه لأمن طنجة    الوكالة الفرنسية للتنمية تعلن تمويل استثمارات بقيمة 150 مليار بالصحراء المغربية    الاتحاد الاشتراكي بطنجة يعقد لقاءً تنظيمياً ويُفرز مكاتب فرعي المدينة وبني مكادة    الأشبال: الهدف التأهل إلى المونديال    جناح الصناعة التقليدية المغربية يفوز بجائزة أفضل رواق في معرض باريس    دروس من الصراع الهندي - الباكستاني..    ريال مدريد يعلن قائمته للكلاسيكو بحضور دياز ولخديم    المغرب – السعودية .. افتتاح النسخة الثانية من معرض "جسور" بمراكش    التعاون الفلاحي يتصدر إعلان نواكشوط    الأسهم تحفز تداولات بورصة البيضاء    البيضاء تحدد مواعيد استثنائية للمجازر الكبرى بالتزامن مع عيد الأضحى    زيارة استثنائية وإنسانية للزفزافي تنعش آمال الحل في ملف حراك الريف    البطولة.. الكوكب المراكشي على بعد نقطة من العودة إلى القسم الأول بتعادله مع رجاء بني ملال    الناظور غائبة.. المدن المغربية الكبرى تشارك في منتدى "حوار المدن العربية الأوروبية" بالرياض    بعد واقعة انهيار عمارة بفاس..التامني تسائل الداخلية عن نجاعة مشاريع تأهيل المباني الآيلة للسقوط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    سحابة كلور سامة في إسبانيا ترغم 160 ألف شخص على ملازمة منازلهم    إسبانيا تُطلق دراسة جديدة لمشروع النفق مع طنجة بميزانية 1.6 مليون أورو    من الرباط إلى طنجة.. جولة كلاسيكية تحتفي بعبقرية موزارت    مهرجان "كان" يبرز مأساة غزة ويبعث برسائل احتجاجية    ديستانكت ومراد يرويان خيبة الحب بثلاث لغات    الموت يفجع الفنان المغربي رشيد الوالي    مهرجان مغربي يضيء سماء طاراغونا بمناسبة مرور 15 سنة على تأسيس قنصلية المملكة    بالقرعة وطوابير الانتظار.. الجزائريون يتسابقون للحصول على الخراف المستوردة في ظل أزمة اقتصادية خانقة بالبلاد (فيديوهات)    بينالي البندقية.. جلالة الملك بوأ الثقافة والفنون المكانة التي تليق بهما في مغرب حديث (مهدي قطبي)    الفيفا يرفع عدد منتخبات كأس العالم للسيدات إلى 48 بدءاً من 2031    المغرب يدفع بصغار التجار نحو الرقمنة لتقليص الاقتصاد غير المهيكل    تطور دينامية سوق الشغل في المغرب .. المكتسبات لا تخفي التفاوتات    افتتاح فعاليات المعرض الدولي السابع والعشرون للتكنولوجيا المتقدمة في بكين    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ضرورة تصحيح "الصحاح".. لن‮ ‬يكون "البخاري" ‬أبدا مقدسا‮...
نشر في هسبريس يوم 14 - 04 - 2018

ما معنى المقدس؟ ما المقصود بتجاوز الخط الأحمر في‮ ‬الدين؟ ولماذا‮ ‬ينتفض‮ ‬المسلم كلما اقترب السؤال من مركز المعارف التي‮ ‬تحكمنا وتحكم وعينا؟ لماذا‮ ‬يقف الناس وينصب البعض أنفسهم حراسا‮ ‬ومراقبين لكل حرف‮ ‬يكتب حول ما‮ ‬يعتبرونه‮ "مقدسا"؟ من قال بالمقدس؟ ومن أين جاءت قداسة بعض النصوص‮ "‬الفقهية والشرعية‮"‬،‮ ‬وبعض السير وبعض المآثر وبعض الشخصيات التاريخية؟ من قال بها؟‮ ‬وهل الخطاب القرآني‮ ‬أنزل من أجل الحفظ والتلاوة وتحويله إلى مجرد‮ "‬شيء‮" ‬يوجد بين دفتي‮ ‬كتاب‮/ "‬مصحف‮" لتزيين المكتبات واستظهاره في‮ ‬المناسبات‮؟‬، ‬أم نزل من أجل الفهم وإعادة الفهم المستمرين عبر التاريخ بهدف إغناء ‬الصيرورة الحضارية؟
كلما عدت إلى الطبقات الأولى من المتون الفقهية والجدل الشرعي‮ ‬والديني،‮ ‬وخاصة النصوص التاريخية لمؤسسي‮ ‬الخطاب التاريخي‮ ‬في‮ التاريخ العربي الإسلامي،‮ ‬أجد من الحقائق ما‮ ‬يكفيني‮ ‬لأعيد النظر في‮ ‬كل‮ "المطلق‮" ‬الذي‮ ‬يتم تسويقه وترويجه.. ‬لذلك يصدمني‮ الوعي‮ ‬السائد بين فئات عريضة من‮ المجتمع‬،‮ ‬لأن القضايا الكبرى أو‮ "‬الدوائر المغلقة‮" ‬تظل دائما في‮ ‬حاجة إلى إعادة الطرح،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن للأدوات التي‮ ‬تقدمها الخطابات المقدسة أن تكون سوى وسائل إثراء وتغذية للأسئلة الراهنة‮، ‬إذ كيف‮ ‬يسمح حراس المقدس لأنفسهم بالتعامل مع النصوص الأولى والثواني‮ ‬منها التي‮ ‬أنتجت حول الخطاب المقدس،‮ ‬والتي‮ ‬بينها وبينه مسافة زمنية معتبرة،‮ ‬وينتقون منها ما‮ ‬يسعف على دعم نمط من الحقائق،‮ ‬ثم‮ ‬يلفظون قسما مهما منه،‮ ‬ويتم تحويل الجزء المبتور إلى نصوص مقدسة تلحق بالمقدس‮ (‬نقصد الخطاب المقدس‮: ‬الكتاب والسنة‮) ‬وبعد تقطيع بشع للتاريخ،‮ ‬الذي‮ ‬يمارس فيه ما كان‮ ‬يقوم به قاطع الطريق اليوناني‮ ‬بروكس،‮ ‬يغلق الباب وتوضع حدود‮ ‬للسؤال،‮ ‬لتطبع إيتيكيتات‮ ‬تضع على جبين كل باحث،‮ "ملحد‮"/ "‬كافر‮"/ "مرتد‮"/ "ملتزم"/ ‬مؤمن‮"..
إن‮ ‬المأساة التي‮ ‬يتخبط فيها الوعي‮ ‬العربي‮ ‬الإسلامي‮ ‬لم تعد تحتمل الصمت،‮ ‬ومن‮ ‬غير المعقول التسليم بإطلاقية،‮ ‬اليوم،‮ ‬بما‮ ‬يعرف ب‮"‬صحيح‮ ‬البخاري‮" وكل الصحاح الأخرى التي‮ ‬صارت متونا لا نقاش فيها‮، ‬إذ ‬غاب‮ (‬أو بالأحرى‮ ‬غُيِّبَ‮) ‬الخطاب المقدس تحت طبقة كثيفة من التمثلات البشرية،‮ ‬وغابت كتب الفقه الأولى،‮ ‬مثلا،‮ ‬وراء كتب الفروع والخلاف‮. ‬وصارت الأسماء/ الأعلام تكفي‮ ‬المتلقي‮ ‬العربي‮/‬ المسلم وتغنيه عن النظر وإعادة النظر فيما‮ ‬يتلقاه منها‮. ‬وهنا، تحضرني‮ ‬حادثة حدثت لي‮ ‬مع مجموعة من النساء اللواتي‮ ‬كن‮ ‬يستفدن في‮ ‬إطار تكوين حول المدونة،‮ ‬وكنت انتقيت،‮ ‬إجرائيا،‮ ‬نصوصا‮ (‬أحاديث‮) ‬من صحيح البخاري‮ ‬بعناية،‮ ‬بحيث‮ ‬قسمتها إلى مجموعتين:‮ ‬الأولى كانت تتضمن نصوصا مسيئة إلى المرأة وحاطة بكرامتها،‮ ‬ووزعتها عليهن دون أن أذكر المصدر.‮ كان رد فعلهن عنيف،‮ ‬وكلهن اتفقن على أنها ليست أحاديث صحيحة،‮ ‬وحين سألتهن عن معنى الحديث الصحيح،‮ ‬قلن جماعة‮: "‬إنه ما ورد في‮ ‬صحيحي‮ ‬البخاري‮ ‬ومسلم‮"! ‬بعدها، أخرجت المجلدات الخمسة للبخاري‮ ‬ووضعتها على الطاولة.. وكانت المفاجأة‮!‬
لهذه الواقعة،‮ ‬التي‮ ‬كررتها في‮ ‬أكثر مناسبة،‮ ‬سواء كمثال أو كإجراء،‮ ‬أكثر من معنى، وعلينا أن‮ ‬ندرك مدى التجهيل المتعمد من قبل‮ ‬صناع‮ "‬المقدس‮" ‬في‮ ‬ترويج صناعة‮ ‬الوهم،‮ ‬الذي‮ ‬لا يهدفون‮ ‬منه إلا إلى تكريس هيمنة نمط من الوعي‮ ‬وتبرير سلط معرفية ورمزية مهترئة ومعاقة‮،‬‮ ‬جعلت من‮ "‬علماء‮" ‬كانوا‮ ‬يجتهدون بتواضع العارفين من‮ ‬غير ادعاء،‮ ‬شخصيات أسطورية،‮ ‬وبعضها ألحقت‮ -‬بمعنى من المعاني‮- ‬بالألوهية والاصطفاء‮ الإلهي،‮ ‬وصار كل من خالف حراس‮ "المقدس‮" "ومن فارقهم في‮ ‬شيء منها نابذوه وباغضوه وبدَّعوه وهجروه‮" -‬كما قال ابن قتيبة‮-. ‬وقد اجتهد النمط المظلم من الخطاب الفقهي‮ ‬والشرعي‮ ‬والديني‮ -‬بصفة عامة‮- ‬لإنتاج‮ "مقولات" ‬و"مقولبات‮" ‬صالحة للاستعمال في‮ ‬كل سياق،‮ ‬وردوها إلى‮ "‬السلف الصالح‮" ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يجوز له أن‮ ‬يجتمع على ضلال،‮ ‬في‮ ‬حين‮ -‬سيرا على طريق المعتزلة وغيرهم من العقلانيين‮- ‬اعتبر النظام‮ "‬جواز تواطؤ أهل التواتر على وضع الكذب‮" ‬وهو ما حدث ولا يزال‮. ‬لذلك، حين أرى نقاشا في‮ ‬الحركة النسائية حول قصور وهفوات‮ "‬المدونة‮" [‬نقصد الأحوال الشخصية‮] ‬وإشكالية‮ "الإرث‮"‬ ‬‮-‬المحكومة بعقلية القضيبية والفحولة والذكورة الحاطة بقيمة المرأة التي‮ ‬تعتبر كائنا من الدرجة الثانية‮ ‬وقد وجدت للاستمتاع بها‮- ‬فأرد على العديدات‮: ‬لن تكون‮ "‬قوانين الأحوال الشخصية" ‬بأحسن مما هي‮ ‬عليه،‮ ‬لأن الخلفية المرجعية المتحكمة في‮ ‬النص القانوني، هي‮ ‬التي‮ ‬ينبغي‮ ‬إعادة النظر فيها‮ أولا باعتبارها المغذية لكل النصوص المشرعة في هذا الباب.
إن المشكل لا يكمن في‮ ‬النص القانوني،‮ ‬وإنما في‮ ‬الخلفية الثقافية والمعرفية والتاريخية التي‮ ‬تحكمه. ‬إنه اشتغال نمط من الخطاب‮ ‬الفقهي‮ ‬والشرعي‮ ‬والديني،‮ ‬وقد أُريد له أن‮ ‬يستمر عبر استثمار آليات‮ "‬حديثة‮"،‮ ‬وهو ما يعبر‮ ‬عنه بورديو حول استقلالية الحقل الديني،‮ إذ الصراع السوسيو-ديني ليس صراعا بين الطبقات الاجتماعية وإنما هو‮ ‬صراع على تعريف الرموز ومنظومات المعنى،‮ ‬يتم فيها تصارع الفاعلين حول مواقع مختلفة ضمن جغرافيا السلط والمعرفة الدينيتين‮. ‬وفي‮ ‬ذلك الصراع تستند السلطة الدينية إلى القوة المادية والرمزية للمجموعات التي‮ ‬يمكنها تعبئتها بما تقدمه لها من منافع وخدمات تلبي‮ ‬حاجاتها الدينية‮. ‬ومن ثَمَّ‮َّ، ‬يعاد إنتاج الحقل الديني‮ ‬بواسطة إواليات تتأسس على التنشئة الاجتماعية وتوريث العادة المشتركة،‮ ‬وفي‮ ‬هذا ما‮ ‬يدل على أن‮ ‬الدين‮ ‬يفرض على الأفراد ويوجههم في‮ ‬مسار فعلهم بنسبة عالية من العنف الرمزي؛ ‬بل ويتحول هذا العنف الرمزي،‮ ‬في‮ ‬البلاد العربية الإسلامية،‮ ‬إلى عنف تستعمل فيه القوة والإيذاء والإجهاز على حريات الأفراد الذين‮ ‬يصبحون مهددين حتى في‮ ‬حقهم في‮ ‬الحياة‮.
يقودنا هذا إلى أن العنف الثقافي‮، ‬الذي‮ ‬يتجلى في‮ ‬كل أنواع الصراع داخل المجتمعات،‮ ‬لا‮ ‬يأتي‮ ‬إلا من الفقر الفكري‮ ‬أولا،‮ ‬ومن انسداد‮ ‬باب الإبداع،‮ ‬وزحف آليات التدجين والاتباع التي‮ ‬تجعل من الماضي‮ ‬قبلة وبوصلة،‮ ‬وتحصر مركزية الكون والتاريخ والجغرافيا في‮ ‬بقعة زمنية لم تكن بأحسن مما نحن عليه في‮ ‬شتى المجالات التي‮ ‬يتحرك فيها الإنسان العربي‮/ ‬المسلم راهنا‮. ‬وهذا العنف الثقافي‮ ‬والرمزي‮ ‬والجسدي‮ ‬الذي‮ ‬يتم تمريره عبر الخطاب الديني‮ (‬نمط من الخطاب الديني‮) ‬يتحول شيئا فشيئا إلى عداء ورفض للاختلاف،‮ ‬فتشهر أسلحة‮ "‬الزندقة‮" ‬و"المروق‮" ‬و"الردة‮" ‬و"الاستلاب‮" ‬لتحصين ما تبقى من الصروح المحطِّمة للفكر السائر في‮ ‬طريق الانقراض الحضاري‮ ‬والتاريخي‮. ‬وهنا، وجبت المقارنة بين المسار التحديثي‮ ‬الغربي‮ ‬والعربي؛ ‬فلقد استند التحديث في‮ ‬المجال الغربي‮ ‬إلى قاعدة اقتصادية ثابتة اعتمدت على ‬التصنيع وحققت ازدهارا استفادت‮ ‬منه المجتمعات الغربية عموما مما أدى إلى تدعيم استقرارها،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬جذَّر لدى أغلب الفئات الإيمان بجدوى الحداثة وبقيمها‮. ‬أما البلدان الإسلامية فإن الاختيارات الاقتصادية لم تكن دائما واضحة وثابتة،‮ ‬بل ظلت هشة،؛ وهو ما جعلها تعجز على تحقيق كل ما وعدت به مشاريع‮ ‬التنمية،‮ ‬ولم تستطع ضمان شروط الاستقرار الاجتماعي،‮ ‬ففقدت الكثير من الفئات ثقتها في‮ ‬اختيارات الدولة،‮ ‬فنشأت الأزمات التي‮ ‬شكلت أهم عوامل النكوص نحو الديني‮ ‬والغيبي،‮ ‬بحثا عن منفذ‮ -‬سحري‮- ‬في‮ ‬واقع انسداد الآفاق وواقع اجتماعي‮ ‬واقتصادي (انظر زهية جويرو: الإسلام الشعبي، رابطة العقلانيين العرب‮. ‬ط1‮. ‬2007‮. ‬ص‮.‬98) ‬لا يزداد إلا تدهورا،‮ ‬فكانت الحداثة‮ -‬المستوردة طبعا‮- ‬إحدى ضحايا النظرة العربية الإسلامية التي‮ ‬حاولت أن تؤسلم الحداثة وتُخضعها لنمط فكري‮ ‬هو‮ -‬في‮ ‬الجوهر‮- ‬نقيضها الأكبر،‮ ‬إذ تؤمن الحداثة بالسؤال المتجدد والهدم الدائم ونسبية الحقيقة التي‮ ‬تظل دائمة التطور. ‬والحداثة لا تترك بابا إلا طرقته ودخلته‮ ‬وحركت من داخله كل ما‮ ‬يؤثثه من الداخل. ‬كما أن الحداثة لا تميز بين مقدس ومدنس. والمدنس فيه من القداسة ما‮ ‬يجعله‮ ‬يعيد طرح قضايا المقدس،‮ ‬وفي‮ ‬المقدس وجوه من الدنس تجعل إسقاط القداسة عنه حتى‮ ‬يتم إسقاط الطابع الأسطوري‮ ‬وإرجاعه إلى الوعي‮ ‬الاجتماعي‮ ‬ومكوناته الثقافية‮؛‬‮ ‬لأن الحداثة مسكونة بهم زحزحة الثوابت،‮ ‬وهو ما‮ ‬يدخل في‮ ‬صميم انشغالها،‮ ‬إذ تتجه نحو ممارسة‮ "‬السؤال‮" ‬على الذات لأنها تسير في‮ ‬اتجاه الفعالية النقدية والتفكيك وقتل الوهم‮. ‬لأن الحداثة لا تعتمد،‮ ‬في‮ ‬أساسها،‮ ‬على البناء العقلاني‮ ‬بقدر ما تتجه نحو اشتغال العقل في‮ ‬ممارسة النقد والانشداد إلى قيم الحرية والمسؤولية والفردية وتقديم العقل‮.
ولعل هذا هو سبب فشل جل الحركات التي‮ ‬سعت إلى عقلنة الكتابة التاريخية المتعلقة بالخطاب الديني،‮ وظلت تعاني‮ ‬من صمود مستميت من قبل‮ ‬‮"‬المجاهدين‮" [‬من فقهاء الظلام الذين حوّلوا التراث إلى متحف للقداسة والحقيقة المتعالية‮] ‬في‮ ‬سبيل الإبقاء ‬على أسطرة‮ ‬الرموز التاريخية،‮ ‬وحراسة أصنامها من الهدم والسقوط. إن كل محاولة لإعادة ترتيب الوقائع ومسح الغبار عنها من أجل عزل الوقائع الدينية عن الوقائع‮ ‬التاريخية‮ ‬يبقى من أكبر المستحيلات،‮ ‬إذ‮ ‬يجعل سدنة‮ ‬الظلام الزمن الديني‮ ‬يشمل كل الأزمنة‮ "‬التراثية" ‬لتمتد إلى مرحلة ما بعد وفاة الرسول‮. ‬وهكذا، صار التاريخي‮ "مؤسطرا‮" ‬لابسا الرداء الديني‮ ‬ليتحوّل إلى‮ "‬مقدس‮" ‬على الرغم من كل ما‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يحمله من‮ "‬مدنس" تاريخي‮.‬
هكذا‮، ‬يهدر الوقت في‮ ‬إعادة استظهار الدروس التي‮ ‬حفظناها في‮ ‬المدارس الابتدائية،‮ ‬عن الأساطير القديمة،‮ ‬وفق منطق تاريخي‮ ‬انتقائي‮ ‬وعنيف،‮ ‬يبقي‮ ‬على ما‮ ‬يشاء ومن‮ ‬يشاء‮..‬محافظا على‮ "‬ثقافة‮ ‬الغزوات" و"ماضي‮ ‬الأندلس‮ الزاهر"،‮ ‬وإمبراطورية‮ "‬الفتوحات‮"‬،‮ ‬وتقديس الأحداث،‮ ‬وتنميط الوعي‮ ‬الزائف،‮ ‬لتكريس هيمنة الوهم والزيادة في‮ ‬صناعة الأعطاب الفكرية لتدمير ما تبقى من أنوار العقلانية،‮ ‬والاكتفاء بالتحديث بدل الحداثة‮. هذا ما‮ ‬يزيد فعل تقديس‮ "‬الحقائق‮" ‬القديمة تضخما،‮ ‬وتتحول منجزات الحداثة،‮ ‬التي‮ ‬كانت وليدة نمط فكري‮ ‬عقلاني‮ ‬معين،‮ ‬إلى تقنيات‮ "‬تستعمل‮" لتبرير ممارسات ومواقف وأحداث،‮ ‬ودعم نقيضها،‮ ‬مع العمل على تدمير المنطق العقلاني، ‬والانطلاق من نتائج محددة سلفا.
إن مشاريع‮ "‬التحديث‮" ‬تسعى إلى‮ "‬توفير حلول جديدة لمشكلات شرعية‮" مع الإخلاص المطلق للمنظومة‮ "الشرعية‮" ‬اللاعقلانية‮. ‬الأمر الذي‮ ‬لا يزيد إلا من صناعة الأوهام التي‮ ‬تتجلى في‮ "‬الإعجاز العلمي‮ ‬للقرآن‮" ‬وإطلاقية بعض الحقائق وصلاحيتها‮ "لكل زمان ومكان"؛ وهو ما‮ ‬يقوي‮ ‬البنية المنطقية التراثية التي‮ ‬تتجدد بفعل قدرتها على التجدد من‮ ‬غير أن تكون في‮ ‬حاجة إلى مراجعة الأسس المعرفية المتحكمة فيها‮.
لقد‮ ‬صار من واجبنا أن نواجه هذا السيل الجارف من فيضان العقل اللاهوتي‮ ‬الذي‮ ‬يأوي‮ ‬في‮ ‬التراث،‮ ‬بقضايا لا هوتنا المعاصر. ‬ومن ثمّ، من الضروري‮ ‬إعادة تصحيح‮ "‬الصِّحاح‮"،‮ ‬وتصحيح نظرتنا إلى الأحداث التاريخية بعيدا عن الميثولوجيا والخرافة وأن نتحلى بالجرأة والشجاعة على تقبل النتائج ‬التي‮ ‬سيقودنا إليها الاستدلال المنطقي‮ ‬السليم كيف ما كانت طبيعتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.