إضراب جديد يشل محاكم المملكة    ألمانيا تنتقد إغلاق إسرائيل قناة "الجزيرة"    بسبب الهلال.. لجنة الانضباط تعاقب فريق الاتحاد السعودي وحمد الله    لأول مرة.. تاعرابت يحكي قصة خلافه مع البرازيلي "كاكا"    تسجيل بقوة 2.5 درجات على سلم ريشتر بإقليم تاونات    مبادرة التنمية البشرية تمول 4174 مشروعا بأكثر من ملياري درهم بجهة طنجة    رحلة شحنة كوكايين قادمة من البرازيل تنتهي بميناء طنجة    فيلم "أبي الثاني" يحصد جل جوائز مسابقة إبداعات سينما التلميذ بالدار البيضاء    المغرب يحتضن الدورة 16 للبطولة الإفريقية للدراجات الجبلية    حماة المال العام: "حفظ طلبات التبليغ عن الجرائم من شأنه أن يوفر الحصانة لمتهمين متورطين في مخالفات جنائية خطيرة"    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل عسكري رابع بقصف "كرم أبو سالم" من طرف كتائب القسام    المنسق الوطني للجنة الوطنية لطلبة الطب ل"رسالة24″: لم نتلق أي دعوة رسمية من رئيس الحكومة بعد …    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    إسبانيا.. إحصاء أزيد من 21 مليون عامل ما يعد رقما قياسيا    حضور متميز للسينما المغربية في مهرجان طريفة- طنجة للسينما الإفريقية    الذهب يصعد وسط توترات الشرق الأوسط وآمال خفض الفائدة في أمريكا    منيب: المجال الفلاحي بالمغرب بحاجة لمراجعة شاملة ودعم "الكسابة" الكبار غير مقبول    وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978    الدوري الإسباني .. النصيري يواصل تألقه    متجاوزا الصين واليابان.. المغرب يصبح المورد الرئيسي للاتحاد الأوروبي في قطاع السيارات    المغرب يفتتح خط طيران جديد مع جزر الكناري خلال موسم الصيف    ‮«‬حلف ‬شمال ‬إفريقيا‮»‬ ‬بديلا ‬للاتحاد ‬المغاربي    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    تفاصيل جديدة حول عملية نقل "درب عمر" إلى مديونة    هزة أرضية بنواحي مدينة وزان    بعشرات الصواريخ.. حزب الله يستهدف قاعدة إسرائيلية في الجولان    أسعار النفط العالمية تعود إلى الارتفاع    الدورة الأولى من مهرجان مشرع بلقصيري للسينما    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة من "منصة الجونة السينمائية"    "الثّلث الخالي" في القاعات السينمائية المغربية إبتداء من 15 ماي الجاري    دراسة: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    بعد الاتفاق الاجتماعي.. مطالب بالزيادة في معاشات المتقاعدين    فيدرالية ارباب المقاهي تنفي الاتفاق على زيادة اثمان المشروبات وتشكو ارتفاع الأسعار    وزير الدفاع الإسرائيلي لنتنياهو: حنا للي مسؤولين على إعادة الأسرى والمقترح المصري مزيان    المشاهد الجنسية في أفلام هوليوود تراجعات بنسبة 40% وها علاش    الموت يغيّب الشاعر محمد حنكور "الهواري" أيقونة الشعر الأمازيغي.. هذه قصة حياته وموعد الجنازة    يهم نهضة بركان.. الزمالك المصري ينهزم قبل مباراة نهائي كأس "الكاف"    بطولة اسبانيا: بيتيس يعزز حظوظه بالمشاركة القارية    يجب على الإسرائيليين إغراق الشوارع لمنع عملية رفح – هآرتس    عنف المستوطنين يضيق الخناق على الفلسطينيين في الضفة الغربية، و دول غربية تتصدى بالعقوبات    باحثة: الضحك يقدر يكون وسيلة واعرة لعلاج الناس    دعوة من بيت الذاكرة لترسيخ التنوع الثقافي من أجل إشاعة قيم السلام    الإنتحار أزمة نفسية أم تنموية    الأرشيف المستدام    العفو الملكي    سيدات مجد طنجة لكرة السلة يتأهلن لنهائي كأس العرش.. وإقصاء مخيب لسيدات اتحاد طنجة    رأي حداثي في تيار الحداثة    اعتصامات طلاب أمريكا...جيل أمريكي جديد مساند لفلسطين    دراسة مواقف وسلوكيات الشعوب الأوروبية تجاه اللاجئين المسلمين التجريد الصارخ من الإنسانية    دراسة حديثة تحذر المراهقين من تأثير السجائر الإلكترونية على أدمغتهم    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    فيلم "من عبدول إلى ليلى" يفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    جواد مبروكي: الحمل والدور الحاسم للأب    منظمة تدعو لفتح تحقيق في مصرع عامل بمعمل تصبير السمك بآسفي    الأمثال العامية بتطوان... (589)    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



والحداثة إذا عربت... !!
نشر في هسبريس يوم 30 - 11 - 2018


-1-
على واجهة الإعلام العربي والدولي، وفي المنابر الأكاديمية العالمية، تردد / يتردد مصطلح "الحداثة" بكثافة على ألسنة المفكرين السياسيين والاقتصاديين، كما على ألسنة الشعراء والأدباء والفنانين.
وعلى أن مصطلح الحداثة صعب التحديد لغويا وعلميا، إلا أنه أصبح يستخدم إعلاميا لتحديد مرحلة فنية / صناعية / حضارية متميزة آخذة في التلاشي والاضمحلال، وطهور مرحلة جديدة، ذات مواصفات وقيم حديثة.
"الحداثة" في مفاهيمها الغربية ليست مفهوما اجتماعيا أو سياسيا أو تاريخيا فقط، وإنما هي منهج مميز للحضارة الحديثة، يعارض منهج التقليد، بل يعارض كل الثقافات التقليدية السابقة الأخرى، إنها في الموسوعات الأكاديمية هي ذلك الوعي المتجدد بمتغيرات الحياة / هي تلك المستجدات الحضارية المتوالية / هي الانسلاخ من الماضي، ومن هيمنة أفكاره ومنجزاته والانخراط الشامل في العصر الحديث بقيمه الثقافية والحضارية.
والحداثة في هذه المفاهيم ليست ظاهرة مقصورة على فئة أو طائفة أو نخبة أو جنس معين، فهي استجابة حضارية للقفز على الثوابت، وتأكيد مبدأ استقلالية العقل الفاعل تجاه التجارب والإنجازات السابقة في كل المجالات ولدى كل الشعوب.
إن مرتكزات الحداثة الغربية في نظر العديد من الباحثين(1) تمثلت في ظواهر كبرى بارزة للعيان هي: الثورة العلمية والتقنية الهائلة التي غيرت جذريا نظام المعارف وحورت وقلبت الوضع الإنساني نفسه بما وفرته من أدوات تحكم وتسيطر على الوسط الطبيعي/ الدولة المدنية الحديثة بنظمها المؤسسية وعقلانيتها البيروقراطية وشرعيتها المجتمعية في مقابل الدولة الاستبدادية الفردية / هي المثل والقيم الإنسانية التي شكلت القاعدة الفكرية والإيديولوجية لمسار الحداثة من حيث هي إعلاء لشأن الإنسان وتكريس لحريته الذاتية.
والواقع أن هذه الظواهر الثلاث تتلخص فلسفيا في منطلقين أساسيين هما:
النموذج الرياضي-التجريبي: أي إعادة بناء المعارف والعلوم على معيار القابلية للتحقق التجريبي، واعتبار الطبيعة من هذا المنظور مخزون طاقة يستغل لتكريس سيطرة الإنسان، وبالتالي تحويل المعرفة إلى وظيفة نفعية أداتية ليست في ذاتها مقولة علمية، وإن كانت المصادرة الميتافيزيقية التي يقتضيها معيار "اليقين العلمي" كما بين ذلك الفيلسوف الألماني هايدغر.
مفهوم "الذاتية" الذي اعتبره هيغل مفتاح فهم العصور الحديثة. ويعني هذا المفهوم تكريس مرجعية الذات ومحوريتها في مسار المعرفة من حيث هو تأمل وتفكير للوصول إلى اليقين عبر حركية داخلية تتم ضمن الوعي نفسه، سواء اعتبرت مفاهيم الوعي أفكارا تنتمي عضويا إليه أو ترد إليه عبر التجربة، أو هي مركب منهما.
ويعني هذا المفهوم في ما وراء هذه التحديات الأنطولوجية تكريس حرية الإنسان في تجسيد إرادته "المطلقة" في بناء وعيه واختيار مؤسساته وإدارة حرياته الشخصية.
ومن الواضح أن هذا الإطار المرجعي- القيمي للحداثة أصبح اليوم-في الظاهر على الأقل- ملكا مشاعا بين الأمم والثقافات، فالجميع يتحدث عن امتلاك ناصية العلوم والتقنيات شرطا للتقدم والتحديث والنمو، والدول كلها تتبنى قيم الحريات العامة وحقوق الإنسان واحترام إرادة المواطن، حتى ولو كانت الجذور الفلسفية والنظرية لهذه المفاهيم تظل غائبة ومسكوتا عنها (2).
-2-
والسؤال الذي مازال يطرح نفسه بقوة على عالم اليوم: ما هي الحداثة؟ هل هي مشروع تحديث يقوم أساسا على العلم والتقنية، في رؤية عقلانية تتغلب فيها الثقافة على الطبيعة ويصبح الإنسان فيها مركزا للكون ومصدرا للقيم؛ أي تلك الرؤية التي أحدثت قطيعة بين الإنسان وماضيه، عن طريق ضبط عقلاني للتطور العلمي-التقني، أم الحداثة هي سلسلة عمليات للتحديث تقوم على فعاليات تراكمية يدعم بعضها بعضا، وتتجه نحو نمو علمي وفني وسياسي واقتصادي، "في درب العقلنة التي اختص بها الغرب"، الذي يربط وجوده "رابط داخلي" لم يكن عرضيا، والذي أنتج بدوره علمنة الثقافة وعقلنتها، بالتوازي مع نمو المجتمعات وقواها المنتجة وزيادة إنتاجية العمل وتمركز السلطات السياسية، وكذلك تشكيل الهويات الوطنية ومبادئ حقوق الإنسان(3)؟.
بدأت الحداثة، حسب هيغل، مع عصر الأنوار، بفعل أولئك الذين أظهروا وعيا وبصيرة، باعتبار أن هذا العصر هو "حد فاصل" أو "مرحلة نهائية في التاريخ" في هذا العالم الذي هو عالمنا. ويفهم من هذا أن الحداثة استمرارية الزمن الحاضر في أفق الأزمنة الحديثة التي تشكل تجددا مستمرا(4).
وفي الواقع، كان هيغل أول فيلسوف طور مفهوم الحداثة ووضع مدلولا للعلاقة الداخلية القائمة بين الحداثة والعقلانية، واستخدام هذه العلاقة ضمن سياق تاريخي للدلالة على الأزمنة الحديثة، واعتبارها مفهوما زمنيا يعبر عن القناعة بالزمن المعاش والمرهون بالمستقبل والمنفتح على الجديد الآتي، الذي يتضمن وعيا تاريخيا جديدا يفصل بين الزمن القائم الذي يعاصره، والذي يبدأ مع عصر الأنوار والثورة الفرنسية وحركات الإصلاح الديني التي جاءت لاحقة لذلك.
يعني هذا في نظر العديد من الباحثين المختصين (5) أن الفكر الغربي يتميز منذ عصر النهضة إلى الآن بكونه لا يتوقف عن مساءلة مقوماته وأساليب اشتغاله، الأمر الذي جعل من النقد مكونا من مكونات النظر إلى الذات والأشياء والزمن. حتى إن عصر الأنوار كرس هذا الإجراء الفكري وأعطاه بعده العقلي. ومنذ بدايات ما يسمى الحداثة الفكرية وهذه الحداثة لا تكف عن محاسبة نتائجها بأساليب تسترشد بمقاييس العقل والعلم لأن الفكر الفلسفي الغربي، منذ ديكارت إلى الستينيات من القرن الماضي، استبعد عموما كل الملكات الإنسانية الأخرى من أهواء وخيال واعتبرها مصدرا للخطأ وعنصرا مشوشا على المعرفة الحقة.
هكذا يمكن النظر للحداثة من جهتين متكافئتين، يمكن النظر إليها كانفتاح لحقل إمكاني، أي لحقل من الممكنات التاريخية انطلاقا من تمازج وانصهار الروحين: العلمية والتحررية السياسية، ويمكن النظر إليها كتجربة ثقافية خصوصية في فهم وتأويل هذا الانفتاح وفي تأسيس عالم تاريخي جديد انطلاقا من هذا التأويل(6). وفي هذه الحالة يمكن القول إن الحداثة كتجربة خصوصية غربية لم تستنفد هذا الحقل الإمكاني الناشئ من تمازج الروحين العلمية والتحررية، وليست الإمكانية الوحيدة داخله. وهذا التمييز الذي قمنا به بين هاتين الدلالتين غير المتكافئتين للحداثة يفتح مسلكين كبيرين للتفكير:
إعادة النظر الجذري في الحقل الإمكاني آنف الذكر، وفي ممكناته التي استنفدت خارج إكراهات التأويل الخصوصي الثقافي الغربي له.
وأما المسلك الثاني فيتمثل في إعادة تشكيل الوعي الفلسفي للأزمنة الحديثة بذاتها، وفي الفحص النقدي لفعلها التأسيسي المؤطر لمساراتها اللاحقة والمتمثل في تأويل تمازج الروحين العلمية والتحررية، وفي النظر في هذه المسارات وفي مفضياتها ومآلاتها التاريخية وفي المطالب التي انتهت إليها.
-3-
عربيا، يعود ظهور مصطلح الحداثة إلى مطلع القرن الثامن عشر، مع ظهور القوافل الاستعمارية الأولى على الخريطة العربية، التي أشعرت الأمة العربية بأنها متخلفة عن الركب الحضاري الإنساني، والتي حفزت همما عربية عديدة ونخبا عربية عديدة لمواجهة القوافل الغازية من جهة، والدعوة إلى الانخراط في العصر الحديث والاستفادة من منجزاته وصنائعه وقيمه الحضارية. وما انفكت هذه النخب والهمم منذ محمد عبده وحتى الآن، وطوال قرنين من الزمان، تناضل من أجل الخروج من أزمات التخلف، والانخراط في العهد الحضاري الجديد، مع التمسك بالهوية العربية / الإسلامية.
في كتابه "العرب والحداثة...دراسة في مقالات الحداثيين" يضع الدكتور عبد الإله بلقزيز أفكار هؤلاء، وسمات خطابهم، ومدى عقلانيته، ونقاط ضعفه وقوته، موضع تساؤل في محاولة جادة لإعادة كتابة تاريخ الحداثة في الفكر العربي المعاصر. وفي هذا الإطار، يميز الكاتب بين طورين رئيسين مر بهما+ الفكر الحداثي العربي، الأول: يتمثل في نشأة خطاب الحداثة إبان القرن التاسع عشر، وانتهاء منتصف القرن العشرين. والثاني: يطلق عليه طور النضوج الفكري للحداثيين العرب، الذي يتميز على خلاف الطور البدائي الأول بسريان النزعة العقلانية في شتى مفاصله الفكرية، وهو يبدأ من النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الآن. وقد اقتصر المؤلف في كتابه هذا على تحليل الطور الأول ويأمل التعرض للطور الثاني في جزء آخر يأمل في إصداره قريبا.
تتوزع اهتمامات المؤلف ما بين رصد الأطوار التي مر بها الحداثيون العرب، وما بين تحليل الخطابات السائدة تجاه الحداثة، وبديهي أن ينصب النقد في مجمله على خطاب الأصالة المناهض للحداثة، والذي وافق ظهوره بروز تيارات الإحيائية الإسلامية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
في سياق نقده لهذا التيار، يرى المؤلف أن مثل هذه الدعوات تعد بمثابة تراجع الوعي العربي من حالة اليقظة والتفاعل التي دشنها الإصلاحيون الإسلاميون الكبار، وعلى رأسهم كل من رائد التجديد في الدنيا والدين الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمان الكواكبي، إلى حالة التراجع الحضاري والتقوقع حول الذات والتذرع بإيديولوجيات الهوية والأسلمة، مع الانصراف الكامل عن الممكنات الأخرى والتي، حسب الكاتب، يمكن أن تؤدي وظيفة الممانعة الايجابية دونما تغريم المجتمع والثقافة بغرامة الانكماش والانكفاء والتشرنق على الذات. وفي كل الأحوال، يؤكد الكاتب ارتفاع المنسوب الإيديولوجي لدى الفريقين، حيث ذهبت إيديولوجيا الأصالة إلى "التشنيع على مدنية الآخر وثقافته واصمة إياها بالجاهلية، كما انتقلت من الدفاع عن الهوية في وجه الأجنبي إلى الهجوم على دعاة المعاصرة باسم الجهاد".
وفي مقابل ذلك، تحول الاهتمام بالحداثة من صعيد الإطار النظري إلى مستوى الإيدولوجيا، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام إفقار معرفي لفكرة الحداثة نفسها في السياق العربي، حتى بالنسبة للداعين لها، ومن ثم باتت الحداثة في مجملها عبارة عن مجموعة من الأفكار النخبوية التي تتخندق في خطاب النخبة الثقافية دون أن تجد لها رصيدا مؤازرا بين القطاعات الجماهيرية العريضة، ما اضطرها، في النهاية، إلى الانكفاء على الذات والاكتفاء بموقع الدفاع في وجه تيار الإحياء والتقليد المتجدد. على الرغم من أن خطاب الحداثة، بحد ذاته، ليس خطابا برانيا أو مفروضا من الخارج، حتى لو أرجعنا نشأته إلى الاحتكاك بأوروبا، إضافة إلى أن المطلوب حاليا وفي كل وقت مضى ليس التغريب أو "التغربن"، وإنما القيام بنقد تركيبي لخطابي الماضوية الزمنية (خطاب التيار الإحيائي) والارتحال إلى الغرب (خطاب التغريب) وعندها فقط، يبدأ تاريخ الحداثة العربية في احتلال الموقع الذي يليق به.
وفي الواقع، لم يدخل مفهوم الحداثة الساحة العربية من باب الفكر أو الإنتاج النظري، اللهم إلا لدى القلة من الرواد الأوائل ممن كانوا مستعدين لتحمل أعباء السير في الاتجاه المعاكس. فمن اللافت للنظر في هذا الإطار أن الحداثة طرقت الأبواب العربية من المدخل الأدبي والفني في حقول المسرح والشعر والرواية والسينما والموسيقى، ولم تستطع أن تؤلف تيارا عريضا على صعيدي الفكر والسياسة. وربما لهذا السبب لازال سؤال الحداثة مطروحا على الوعي العربي (7).
غير أن الكاتب يرجع هذا الأمر لسببين، أولهما: تجذر التيار التقليدي بقوة في المجتمعات الإسلامية، واندفاعه المتجدد الذي يتغذى من أعراض أزمة الدولة الوطنية الحديثة، بما تشمله من ظواهر الإقصاء والتهميش الاجتماعيين، فضلا عن فشل البرامج التنموية، والتصدعات الحادة في منظومة القيم. وثانيهما: هشاشة الحداثة العربية ذاتها وعدم قدرتها على الاستيعاب التام لفلسفة مثيلتها الغربية القائمة على تغليب عنصري العقلانية والنزعة الإنسانية، بما يعني تنزيل العقل منزلة السلطة المرجعية المعرفية والأخلاقية بصفة خاصة.. الممانعة الثقافية اللاحقة أو البعدية، حيث ارتد المجال الاجتماعي إلى تجديد أصوله المحلية بعد انتصار الحداثة في تلك المجتمعات، إذ شهدت مصر وإيران منذ السبعينيات، بصفة خاصة، عودة الإيديولوجيات الرافضة لمضمون الحداثة بعد أن كانتا مركزين مهمين من مراكز الحداثة الثقافية الإسلامية. وبالمثل، حدث تراجع للحداثة الثقافية إبان عقد ثمانينيات القرن المنصرم في كل من: تونس وتركيا وباكستان وإندونيسيا، مع تزايد وتيرة تأثير الحركات الصحوية الداعية للتمسك بالتراث الحضاري الإسلامي ونبذ كل ما يمت بصلة للحداثة (8) بمفاهيمها وقيمها الغربية.
-4-
من خلال الصياغات المتعددة لهذه الكلمة البسيطة والمشعة بالآمال (الحداثة) يبدو أن العديد من الكتاب والباحثين والأكاديميين العرب مازالوا لا يفرقون بين "الحداثة" و"التحديث"، ومازالت الكتابات النقدية والإعلامية تخلط بينهما، مع أن الفرق بينهما واسع وشاسع.
إن الحداثة كما يحددها علماء اللغة، وعلماء النقد الأدبي هي الوجه الآخر للأصالة، بينما التحديث هو قلع الجذور الحضارية واستبدالها بالنموذج البديل..وهو نفسه المصطلح الذي استعمله المصلحون في بداية هذا القرن في المشرق والمغرب للتعبير عن احتياج الأمة إلى التجديد والتنمية والتحديث، للخروج من عهد "التخلف" الماضي إلى عهد "التقدم" الجديد، وهو أيضا المصطلح نفسه الذي مازلنا نعاني من بقايا مؤثراته في شتى المجالات حتى زمننا الراهن، على المستوى السياسي كما على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فلا حداثة إذن بدون جذور حضارية، ولأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالأصالة، لا يمكنها أن تبقى في زوايا المتاحف التاريخية، فهي في حاجة مستمرة إلى التفاعل مع الحاضر والخروج بنماذج مناسبة للفكر والسلوك كما للحياة والحضارة والفنون.
ولأن "الحداثة" ارتبطت دائما بالتجاذب وبالمثاقفة وبالأخذ والعطاء، كان خوف العديد من مفكرينا التقليديين ومن قادتنا السياسيين من أن تصبح الحداثة بوابة للغزو الفكري والحضاري عموما، وكان من حقنا دائما أن نخشى على حضارتنا من الغزو، وأن نعمل باستمرار على مكافحته.
ولا شك أن فعالية وحيوية التحرك ضد الغزو، من شأنها إحالة هذا الغزو إلى عنصر إيجابي في حداثة حضارتنا وثقافتنا وشخصيتنا، فالأمر كان ولازال يتوقف على المواقف التي نتخذها من أنفسنا والعالم، أكثر مما يتوقف على القوة الغازية، سواء منها التي تحملها لنا روح المثاقفة الحديثة، أو روح التكنولوجيا الحديثة؛ فاستسلامنا للعجز وخوفنا من ممارسة حقنا في التجديد والإصلاح بوعي ومسؤولية، وعدم قدرتنا على مجابهة الواقع بالواقع والفكر بالفكر والنظام بالنظام والوعي بالوعي، كان ولازال أكثر فتكا بنا وبأصالتنا من أي غزو.
ولأننا أمة أصيلة في تراثها وفي حضارتها وفي قيمها الاجتماعية والثقافية، فإن حداثتها لا بد وأن تطمح بإشهار أصول ماضيها في وجه حاضرها، وإعطاء ذلك الماضي الأصيل حضوره الواضح على فضاء الحاضر الحديث.
إن الحداثة هنا تعني بكل وضوح إضافة أصول الماضي على أصول الحاضر وإعطاء ذلك صيغة موضوعية، تميز علاقة الماضي بالحاضر...وعلاقة الحاضر بالمستقبل.
لا أحد يستطيع أن ينكر الهوة القائمة باستمرار بين الأجيال، ولا أحد يمكنه ذلك، لكن الأمم الحريصة على تراثها وعلى أصالتها لا تعتبر "التراث" و"الأصالة" مختومين بالتمتع؛ فالإنسان هو تراثه وأصالته، ولكن مع ذلك يبقى من شروط بقائه، تفاعله، انفتاحه على نفسه وعلى العالم؛ فما يؤدي إلى حفظ شخصيته وصيانة روحه وقيمه يبقى ويصبح تراثا، وماعدا ذلك يصبح زبدا ويذهب أدراج الرياح.
من هنا تصبح العلاقة بين الأجيال مرتبطة بالوعي والنضج والحرص على استمرارية الإنسان وتراثه الماضي وتراثه الحاضر، كما تصبح العلاقة بين الحداثة وما قبلها محكومة بنفس الضوابط التي تحكم العلاقة بين جيل وآخر.
إن أصحاب الحداثة في القصيدة..وفي اللوحة، وفي القطعة الموسيقية، كما في السياسة والاقتصاد والمجتمع لا يمكنهم أن يستخرجوا أعمالهم الحديثة كما يستخرج الساحر الأرنب من كمه، إنهم يرتبطون بشروط إنسانية وجودية، لغة وحضارة، وتربية وعلوما وتكنولوجيا، ولا يمكنهم التنكر لهذه الشروط. فالإبداع الفني كما الإبداع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي لا يأتي من فراغ ولا من خواء، إنه نتاج معرفي / إنساني/ مجتمعي / حضاري، يخضع لأحكام الإنسان المبدع ولمجتمعه وقيمه وثقافته ومعاييره الذوقية والجمالية. لكن هذه الأحكام والمعايير ليست ثابتة، فهي مثل الإنسان متحركة، متطورة، متحولة من جيل إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى ثقافة.
فلا توجد حداثة لكل العصور، كما لا توجد قصيدة أو لوحة لكل الأزمنة، ولا موسيقى لكل الأجيال، فلكل عصر فنونه واختراعاته وصنائعه، ولكل جيل إبداعاته، ولكل زمن حداثته، ولكن هناك حوار خفي يربط بين الإبداعات والأجيال والأزمنة، / بين التراث الماضي والتراث الحديث..وهو حوار حقيقي يقوم على مبدأ التناوب والمغايرة والتأصيل، يعطي للانتماء الحضاري / الانتماء الإبداعي معناه وجوهره بعيدا عن الخلط بين الحداثة والتحديث.
1- السيد ولد الباه / هل الحداثة مشروع حضاري غربي – جريدة الشرق الاوسط 11 يونيو 2002 / ص 22
2- السيد ولد الباه / المرجع السابق
3- ابراهيم الحيدري / الحداثة كمشروع لم يكتمل بعد – جريدة الحياة (لندن) 3 ماي 19999 / ص 21
4- ابراهيم الحيدري / المرجع السابق
5- نور الدين افاية – في مفارقات الحداثة / جريدة العلم 17 شتنبر 1999 / ص 12
6- حسن بن حسن / الحداثة لم تستنفذ الحقل الامكاني الناشئ من تمازج الروحين العلمية والتحررية – جريدة الاحداث المغربية 5 فبراير 2005
7- نفس المرجع
8- نفس المرجع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.