"فيتش" تحذر المغرب من تخطي نفقات البنيات التحتية للمشاريع الكبرى للتقديرات    النيابة العامة الفرنسية تطلب إطلاق سراح ساركوزي بانتظار محاكمة الاستئناف    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    الوداد ينفرد بصدارة البطولة بعد انتهاء الجولة الثامنة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    عمر هلال: نأمل في أن يقوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزيارة إلى الصحراء المغربية    انطلاق بيع تذاكر ودية المغرب وأوغندا    قرب استئناف أشغال متحف الريف بالحسيمة    احتقان في الكلية متعددة التخصصات بالعرائش بسبب اختلالات مالية وإدارية    مصرع أربعيني في حادثة سير ضواحي تطوان    المغرب يتطلع إلى توقيع 645 اتفاقية وبروتوكولا ومعاهدة خلال سنة 2026.. نحو 42% منها اقتصادية    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    حقوقيون بتيفلت يندّدون بجريمة اغتصاب واختطاف طفلة ويطالبون بتحقيق قضائي عاجل    اتهامات بالتزوير وخيانة الأمانة في مشروع طبي معروض لترخيص وزارة الصحة    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    البرلمان يستدعي رئيس الحكومة لمساءلته حول حصيلة التنمية في الصحراء المغربية    وقفة احتجاجية في طنجة دعما لفلسطين وتنديدا بحصار غزة    الركراكي يستدعي أيت بودلال لتعزيز صفوف الأسود استعدادا لوديتي الموزمبيق وأوغندا..    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    كيوسك الإثنين | المغرب يجذب 42.5 مليار درهم استثمارا أجنبيا مباشرا في 9 أشهر    توقيف مروج للمخدرات بتارودانت    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    زايو على درب التنمية: لقاء تشاوري يضع أسس نموذج مندمج يستجيب لتطلعات الساكنة    العيون.. سفراء أفارقة معتمدون بالمغرب يشيدون بالرؤية الملكية في مجال التكوين المهني    احتجاجات حركة "جيل زد " والدور السياسي لفئة الشباب بالمغرب    حسناء أبوزيد تكتب: قضية الصحراء وفكرة بناء بيئة الحل من الداخل    هنا المغرب    مؤسسة طنجة الكبرى: معرض الطوابع البريدية يؤرخ لملحمة المسيرة الخضراء    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



والحداثة إذا عربت... !!
نشر في هسبريس يوم 30 - 11 - 2018


-1-
على واجهة الإعلام العربي والدولي، وفي المنابر الأكاديمية العالمية، تردد / يتردد مصطلح "الحداثة" بكثافة على ألسنة المفكرين السياسيين والاقتصاديين، كما على ألسنة الشعراء والأدباء والفنانين.
وعلى أن مصطلح الحداثة صعب التحديد لغويا وعلميا، إلا أنه أصبح يستخدم إعلاميا لتحديد مرحلة فنية / صناعية / حضارية متميزة آخذة في التلاشي والاضمحلال، وطهور مرحلة جديدة، ذات مواصفات وقيم حديثة.
"الحداثة" في مفاهيمها الغربية ليست مفهوما اجتماعيا أو سياسيا أو تاريخيا فقط، وإنما هي منهج مميز للحضارة الحديثة، يعارض منهج التقليد، بل يعارض كل الثقافات التقليدية السابقة الأخرى، إنها في الموسوعات الأكاديمية هي ذلك الوعي المتجدد بمتغيرات الحياة / هي تلك المستجدات الحضارية المتوالية / هي الانسلاخ من الماضي، ومن هيمنة أفكاره ومنجزاته والانخراط الشامل في العصر الحديث بقيمه الثقافية والحضارية.
والحداثة في هذه المفاهيم ليست ظاهرة مقصورة على فئة أو طائفة أو نخبة أو جنس معين، فهي استجابة حضارية للقفز على الثوابت، وتأكيد مبدأ استقلالية العقل الفاعل تجاه التجارب والإنجازات السابقة في كل المجالات ولدى كل الشعوب.
إن مرتكزات الحداثة الغربية في نظر العديد من الباحثين(1) تمثلت في ظواهر كبرى بارزة للعيان هي: الثورة العلمية والتقنية الهائلة التي غيرت جذريا نظام المعارف وحورت وقلبت الوضع الإنساني نفسه بما وفرته من أدوات تحكم وتسيطر على الوسط الطبيعي/ الدولة المدنية الحديثة بنظمها المؤسسية وعقلانيتها البيروقراطية وشرعيتها المجتمعية في مقابل الدولة الاستبدادية الفردية / هي المثل والقيم الإنسانية التي شكلت القاعدة الفكرية والإيديولوجية لمسار الحداثة من حيث هي إعلاء لشأن الإنسان وتكريس لحريته الذاتية.
والواقع أن هذه الظواهر الثلاث تتلخص فلسفيا في منطلقين أساسيين هما:
النموذج الرياضي-التجريبي: أي إعادة بناء المعارف والعلوم على معيار القابلية للتحقق التجريبي، واعتبار الطبيعة من هذا المنظور مخزون طاقة يستغل لتكريس سيطرة الإنسان، وبالتالي تحويل المعرفة إلى وظيفة نفعية أداتية ليست في ذاتها مقولة علمية، وإن كانت المصادرة الميتافيزيقية التي يقتضيها معيار "اليقين العلمي" كما بين ذلك الفيلسوف الألماني هايدغر.
مفهوم "الذاتية" الذي اعتبره هيغل مفتاح فهم العصور الحديثة. ويعني هذا المفهوم تكريس مرجعية الذات ومحوريتها في مسار المعرفة من حيث هو تأمل وتفكير للوصول إلى اليقين عبر حركية داخلية تتم ضمن الوعي نفسه، سواء اعتبرت مفاهيم الوعي أفكارا تنتمي عضويا إليه أو ترد إليه عبر التجربة، أو هي مركب منهما.
ويعني هذا المفهوم في ما وراء هذه التحديات الأنطولوجية تكريس حرية الإنسان في تجسيد إرادته "المطلقة" في بناء وعيه واختيار مؤسساته وإدارة حرياته الشخصية.
ومن الواضح أن هذا الإطار المرجعي- القيمي للحداثة أصبح اليوم-في الظاهر على الأقل- ملكا مشاعا بين الأمم والثقافات، فالجميع يتحدث عن امتلاك ناصية العلوم والتقنيات شرطا للتقدم والتحديث والنمو، والدول كلها تتبنى قيم الحريات العامة وحقوق الإنسان واحترام إرادة المواطن، حتى ولو كانت الجذور الفلسفية والنظرية لهذه المفاهيم تظل غائبة ومسكوتا عنها (2).
-2-
والسؤال الذي مازال يطرح نفسه بقوة على عالم اليوم: ما هي الحداثة؟ هل هي مشروع تحديث يقوم أساسا على العلم والتقنية، في رؤية عقلانية تتغلب فيها الثقافة على الطبيعة ويصبح الإنسان فيها مركزا للكون ومصدرا للقيم؛ أي تلك الرؤية التي أحدثت قطيعة بين الإنسان وماضيه، عن طريق ضبط عقلاني للتطور العلمي-التقني، أم الحداثة هي سلسلة عمليات للتحديث تقوم على فعاليات تراكمية يدعم بعضها بعضا، وتتجه نحو نمو علمي وفني وسياسي واقتصادي، "في درب العقلنة التي اختص بها الغرب"، الذي يربط وجوده "رابط داخلي" لم يكن عرضيا، والذي أنتج بدوره علمنة الثقافة وعقلنتها، بالتوازي مع نمو المجتمعات وقواها المنتجة وزيادة إنتاجية العمل وتمركز السلطات السياسية، وكذلك تشكيل الهويات الوطنية ومبادئ حقوق الإنسان(3)؟.
بدأت الحداثة، حسب هيغل، مع عصر الأنوار، بفعل أولئك الذين أظهروا وعيا وبصيرة، باعتبار أن هذا العصر هو "حد فاصل" أو "مرحلة نهائية في التاريخ" في هذا العالم الذي هو عالمنا. ويفهم من هذا أن الحداثة استمرارية الزمن الحاضر في أفق الأزمنة الحديثة التي تشكل تجددا مستمرا(4).
وفي الواقع، كان هيغل أول فيلسوف طور مفهوم الحداثة ووضع مدلولا للعلاقة الداخلية القائمة بين الحداثة والعقلانية، واستخدام هذه العلاقة ضمن سياق تاريخي للدلالة على الأزمنة الحديثة، واعتبارها مفهوما زمنيا يعبر عن القناعة بالزمن المعاش والمرهون بالمستقبل والمنفتح على الجديد الآتي، الذي يتضمن وعيا تاريخيا جديدا يفصل بين الزمن القائم الذي يعاصره، والذي يبدأ مع عصر الأنوار والثورة الفرنسية وحركات الإصلاح الديني التي جاءت لاحقة لذلك.
يعني هذا في نظر العديد من الباحثين المختصين (5) أن الفكر الغربي يتميز منذ عصر النهضة إلى الآن بكونه لا يتوقف عن مساءلة مقوماته وأساليب اشتغاله، الأمر الذي جعل من النقد مكونا من مكونات النظر إلى الذات والأشياء والزمن. حتى إن عصر الأنوار كرس هذا الإجراء الفكري وأعطاه بعده العقلي. ومنذ بدايات ما يسمى الحداثة الفكرية وهذه الحداثة لا تكف عن محاسبة نتائجها بأساليب تسترشد بمقاييس العقل والعلم لأن الفكر الفلسفي الغربي، منذ ديكارت إلى الستينيات من القرن الماضي، استبعد عموما كل الملكات الإنسانية الأخرى من أهواء وخيال واعتبرها مصدرا للخطأ وعنصرا مشوشا على المعرفة الحقة.
هكذا يمكن النظر للحداثة من جهتين متكافئتين، يمكن النظر إليها كانفتاح لحقل إمكاني، أي لحقل من الممكنات التاريخية انطلاقا من تمازج وانصهار الروحين: العلمية والتحررية السياسية، ويمكن النظر إليها كتجربة ثقافية خصوصية في فهم وتأويل هذا الانفتاح وفي تأسيس عالم تاريخي جديد انطلاقا من هذا التأويل(6). وفي هذه الحالة يمكن القول إن الحداثة كتجربة خصوصية غربية لم تستنفد هذا الحقل الإمكاني الناشئ من تمازج الروحين العلمية والتحررية، وليست الإمكانية الوحيدة داخله. وهذا التمييز الذي قمنا به بين هاتين الدلالتين غير المتكافئتين للحداثة يفتح مسلكين كبيرين للتفكير:
إعادة النظر الجذري في الحقل الإمكاني آنف الذكر، وفي ممكناته التي استنفدت خارج إكراهات التأويل الخصوصي الثقافي الغربي له.
وأما المسلك الثاني فيتمثل في إعادة تشكيل الوعي الفلسفي للأزمنة الحديثة بذاتها، وفي الفحص النقدي لفعلها التأسيسي المؤطر لمساراتها اللاحقة والمتمثل في تأويل تمازج الروحين العلمية والتحررية، وفي النظر في هذه المسارات وفي مفضياتها ومآلاتها التاريخية وفي المطالب التي انتهت إليها.
-3-
عربيا، يعود ظهور مصطلح الحداثة إلى مطلع القرن الثامن عشر، مع ظهور القوافل الاستعمارية الأولى على الخريطة العربية، التي أشعرت الأمة العربية بأنها متخلفة عن الركب الحضاري الإنساني، والتي حفزت همما عربية عديدة ونخبا عربية عديدة لمواجهة القوافل الغازية من جهة، والدعوة إلى الانخراط في العصر الحديث والاستفادة من منجزاته وصنائعه وقيمه الحضارية. وما انفكت هذه النخب والهمم منذ محمد عبده وحتى الآن، وطوال قرنين من الزمان، تناضل من أجل الخروج من أزمات التخلف، والانخراط في العهد الحضاري الجديد، مع التمسك بالهوية العربية / الإسلامية.
في كتابه "العرب والحداثة...دراسة في مقالات الحداثيين" يضع الدكتور عبد الإله بلقزيز أفكار هؤلاء، وسمات خطابهم، ومدى عقلانيته، ونقاط ضعفه وقوته، موضع تساؤل في محاولة جادة لإعادة كتابة تاريخ الحداثة في الفكر العربي المعاصر. وفي هذا الإطار، يميز الكاتب بين طورين رئيسين مر بهما+ الفكر الحداثي العربي، الأول: يتمثل في نشأة خطاب الحداثة إبان القرن التاسع عشر، وانتهاء منتصف القرن العشرين. والثاني: يطلق عليه طور النضوج الفكري للحداثيين العرب، الذي يتميز على خلاف الطور البدائي الأول بسريان النزعة العقلانية في شتى مفاصله الفكرية، وهو يبدأ من النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الآن. وقد اقتصر المؤلف في كتابه هذا على تحليل الطور الأول ويأمل التعرض للطور الثاني في جزء آخر يأمل في إصداره قريبا.
تتوزع اهتمامات المؤلف ما بين رصد الأطوار التي مر بها الحداثيون العرب، وما بين تحليل الخطابات السائدة تجاه الحداثة، وبديهي أن ينصب النقد في مجمله على خطاب الأصالة المناهض للحداثة، والذي وافق ظهوره بروز تيارات الإحيائية الإسلامية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
في سياق نقده لهذا التيار، يرى المؤلف أن مثل هذه الدعوات تعد بمثابة تراجع الوعي العربي من حالة اليقظة والتفاعل التي دشنها الإصلاحيون الإسلاميون الكبار، وعلى رأسهم كل من رائد التجديد في الدنيا والدين الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمان الكواكبي، إلى حالة التراجع الحضاري والتقوقع حول الذات والتذرع بإيديولوجيات الهوية والأسلمة، مع الانصراف الكامل عن الممكنات الأخرى والتي، حسب الكاتب، يمكن أن تؤدي وظيفة الممانعة الايجابية دونما تغريم المجتمع والثقافة بغرامة الانكماش والانكفاء والتشرنق على الذات. وفي كل الأحوال، يؤكد الكاتب ارتفاع المنسوب الإيديولوجي لدى الفريقين، حيث ذهبت إيديولوجيا الأصالة إلى "التشنيع على مدنية الآخر وثقافته واصمة إياها بالجاهلية، كما انتقلت من الدفاع عن الهوية في وجه الأجنبي إلى الهجوم على دعاة المعاصرة باسم الجهاد".
وفي مقابل ذلك، تحول الاهتمام بالحداثة من صعيد الإطار النظري إلى مستوى الإيدولوجيا، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام إفقار معرفي لفكرة الحداثة نفسها في السياق العربي، حتى بالنسبة للداعين لها، ومن ثم باتت الحداثة في مجملها عبارة عن مجموعة من الأفكار النخبوية التي تتخندق في خطاب النخبة الثقافية دون أن تجد لها رصيدا مؤازرا بين القطاعات الجماهيرية العريضة، ما اضطرها، في النهاية، إلى الانكفاء على الذات والاكتفاء بموقع الدفاع في وجه تيار الإحياء والتقليد المتجدد. على الرغم من أن خطاب الحداثة، بحد ذاته، ليس خطابا برانيا أو مفروضا من الخارج، حتى لو أرجعنا نشأته إلى الاحتكاك بأوروبا، إضافة إلى أن المطلوب حاليا وفي كل وقت مضى ليس التغريب أو "التغربن"، وإنما القيام بنقد تركيبي لخطابي الماضوية الزمنية (خطاب التيار الإحيائي) والارتحال إلى الغرب (خطاب التغريب) وعندها فقط، يبدأ تاريخ الحداثة العربية في احتلال الموقع الذي يليق به.
وفي الواقع، لم يدخل مفهوم الحداثة الساحة العربية من باب الفكر أو الإنتاج النظري، اللهم إلا لدى القلة من الرواد الأوائل ممن كانوا مستعدين لتحمل أعباء السير في الاتجاه المعاكس. فمن اللافت للنظر في هذا الإطار أن الحداثة طرقت الأبواب العربية من المدخل الأدبي والفني في حقول المسرح والشعر والرواية والسينما والموسيقى، ولم تستطع أن تؤلف تيارا عريضا على صعيدي الفكر والسياسة. وربما لهذا السبب لازال سؤال الحداثة مطروحا على الوعي العربي (7).
غير أن الكاتب يرجع هذا الأمر لسببين، أولهما: تجذر التيار التقليدي بقوة في المجتمعات الإسلامية، واندفاعه المتجدد الذي يتغذى من أعراض أزمة الدولة الوطنية الحديثة، بما تشمله من ظواهر الإقصاء والتهميش الاجتماعيين، فضلا عن فشل البرامج التنموية، والتصدعات الحادة في منظومة القيم. وثانيهما: هشاشة الحداثة العربية ذاتها وعدم قدرتها على الاستيعاب التام لفلسفة مثيلتها الغربية القائمة على تغليب عنصري العقلانية والنزعة الإنسانية، بما يعني تنزيل العقل منزلة السلطة المرجعية المعرفية والأخلاقية بصفة خاصة.. الممانعة الثقافية اللاحقة أو البعدية، حيث ارتد المجال الاجتماعي إلى تجديد أصوله المحلية بعد انتصار الحداثة في تلك المجتمعات، إذ شهدت مصر وإيران منذ السبعينيات، بصفة خاصة، عودة الإيديولوجيات الرافضة لمضمون الحداثة بعد أن كانتا مركزين مهمين من مراكز الحداثة الثقافية الإسلامية. وبالمثل، حدث تراجع للحداثة الثقافية إبان عقد ثمانينيات القرن المنصرم في كل من: تونس وتركيا وباكستان وإندونيسيا، مع تزايد وتيرة تأثير الحركات الصحوية الداعية للتمسك بالتراث الحضاري الإسلامي ونبذ كل ما يمت بصلة للحداثة (8) بمفاهيمها وقيمها الغربية.
-4-
من خلال الصياغات المتعددة لهذه الكلمة البسيطة والمشعة بالآمال (الحداثة) يبدو أن العديد من الكتاب والباحثين والأكاديميين العرب مازالوا لا يفرقون بين "الحداثة" و"التحديث"، ومازالت الكتابات النقدية والإعلامية تخلط بينهما، مع أن الفرق بينهما واسع وشاسع.
إن الحداثة كما يحددها علماء اللغة، وعلماء النقد الأدبي هي الوجه الآخر للأصالة، بينما التحديث هو قلع الجذور الحضارية واستبدالها بالنموذج البديل..وهو نفسه المصطلح الذي استعمله المصلحون في بداية هذا القرن في المشرق والمغرب للتعبير عن احتياج الأمة إلى التجديد والتنمية والتحديث، للخروج من عهد "التخلف" الماضي إلى عهد "التقدم" الجديد، وهو أيضا المصطلح نفسه الذي مازلنا نعاني من بقايا مؤثراته في شتى المجالات حتى زمننا الراهن، على المستوى السياسي كما على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فلا حداثة إذن بدون جذور حضارية، ولأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالأصالة، لا يمكنها أن تبقى في زوايا المتاحف التاريخية، فهي في حاجة مستمرة إلى التفاعل مع الحاضر والخروج بنماذج مناسبة للفكر والسلوك كما للحياة والحضارة والفنون.
ولأن "الحداثة" ارتبطت دائما بالتجاذب وبالمثاقفة وبالأخذ والعطاء، كان خوف العديد من مفكرينا التقليديين ومن قادتنا السياسيين من أن تصبح الحداثة بوابة للغزو الفكري والحضاري عموما، وكان من حقنا دائما أن نخشى على حضارتنا من الغزو، وأن نعمل باستمرار على مكافحته.
ولا شك أن فعالية وحيوية التحرك ضد الغزو، من شأنها إحالة هذا الغزو إلى عنصر إيجابي في حداثة حضارتنا وثقافتنا وشخصيتنا، فالأمر كان ولازال يتوقف على المواقف التي نتخذها من أنفسنا والعالم، أكثر مما يتوقف على القوة الغازية، سواء منها التي تحملها لنا روح المثاقفة الحديثة، أو روح التكنولوجيا الحديثة؛ فاستسلامنا للعجز وخوفنا من ممارسة حقنا في التجديد والإصلاح بوعي ومسؤولية، وعدم قدرتنا على مجابهة الواقع بالواقع والفكر بالفكر والنظام بالنظام والوعي بالوعي، كان ولازال أكثر فتكا بنا وبأصالتنا من أي غزو.
ولأننا أمة أصيلة في تراثها وفي حضارتها وفي قيمها الاجتماعية والثقافية، فإن حداثتها لا بد وأن تطمح بإشهار أصول ماضيها في وجه حاضرها، وإعطاء ذلك الماضي الأصيل حضوره الواضح على فضاء الحاضر الحديث.
إن الحداثة هنا تعني بكل وضوح إضافة أصول الماضي على أصول الحاضر وإعطاء ذلك صيغة موضوعية، تميز علاقة الماضي بالحاضر...وعلاقة الحاضر بالمستقبل.
لا أحد يستطيع أن ينكر الهوة القائمة باستمرار بين الأجيال، ولا أحد يمكنه ذلك، لكن الأمم الحريصة على تراثها وعلى أصالتها لا تعتبر "التراث" و"الأصالة" مختومين بالتمتع؛ فالإنسان هو تراثه وأصالته، ولكن مع ذلك يبقى من شروط بقائه، تفاعله، انفتاحه على نفسه وعلى العالم؛ فما يؤدي إلى حفظ شخصيته وصيانة روحه وقيمه يبقى ويصبح تراثا، وماعدا ذلك يصبح زبدا ويذهب أدراج الرياح.
من هنا تصبح العلاقة بين الأجيال مرتبطة بالوعي والنضج والحرص على استمرارية الإنسان وتراثه الماضي وتراثه الحاضر، كما تصبح العلاقة بين الحداثة وما قبلها محكومة بنفس الضوابط التي تحكم العلاقة بين جيل وآخر.
إن أصحاب الحداثة في القصيدة..وفي اللوحة، وفي القطعة الموسيقية، كما في السياسة والاقتصاد والمجتمع لا يمكنهم أن يستخرجوا أعمالهم الحديثة كما يستخرج الساحر الأرنب من كمه، إنهم يرتبطون بشروط إنسانية وجودية، لغة وحضارة، وتربية وعلوما وتكنولوجيا، ولا يمكنهم التنكر لهذه الشروط. فالإبداع الفني كما الإبداع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي لا يأتي من فراغ ولا من خواء، إنه نتاج معرفي / إنساني/ مجتمعي / حضاري، يخضع لأحكام الإنسان المبدع ولمجتمعه وقيمه وثقافته ومعاييره الذوقية والجمالية. لكن هذه الأحكام والمعايير ليست ثابتة، فهي مثل الإنسان متحركة، متطورة، متحولة من جيل إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى ثقافة.
فلا توجد حداثة لكل العصور، كما لا توجد قصيدة أو لوحة لكل الأزمنة، ولا موسيقى لكل الأجيال، فلكل عصر فنونه واختراعاته وصنائعه، ولكل جيل إبداعاته، ولكل زمن حداثته، ولكن هناك حوار خفي يربط بين الإبداعات والأجيال والأزمنة، / بين التراث الماضي والتراث الحديث..وهو حوار حقيقي يقوم على مبدأ التناوب والمغايرة والتأصيل، يعطي للانتماء الحضاري / الانتماء الإبداعي معناه وجوهره بعيدا عن الخلط بين الحداثة والتحديث.
1- السيد ولد الباه / هل الحداثة مشروع حضاري غربي – جريدة الشرق الاوسط 11 يونيو 2002 / ص 22
2- السيد ولد الباه / المرجع السابق
3- ابراهيم الحيدري / الحداثة كمشروع لم يكتمل بعد – جريدة الحياة (لندن) 3 ماي 19999 / ص 21
4- ابراهيم الحيدري / المرجع السابق
5- نور الدين افاية – في مفارقات الحداثة / جريدة العلم 17 شتنبر 1999 / ص 12
6- حسن بن حسن / الحداثة لم تستنفذ الحقل الامكاني الناشئ من تمازج الروحين العلمية والتحررية – جريدة الاحداث المغربية 5 فبراير 2005
7- نفس المرجع
8- نفس المرجع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.