وجدة .. انخفاض الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك    لحسن السعدي يترأس اجتماع مجلس إدارة مكتب تنمية التعاون    بيت مال القدس تستعرض حصيلة 2025 وتعلن أولويات عمل 2026    تقلبات جوية وأجواء باردة تهم عدة جهات    الكاف يعلن عن شراكات بث أوروبية قياسية لكأس أمم إفريقيا    توقيف الأستاذة نزهة مجدي بمدينة أولاد تايمة لتنفيذ حكم حبسي مرتبط باحتجاجات "الأساتذة المتعاقدين"    موجة البرد : مؤسسة محمد الخامس للتضامن تطلق عملية إنسانية للأسرة بالحوز    أسماء لمنور تضيء نهائي كأس العرب بأداء النشيد الوطني المغربي    العاصمة الألمانية تسجل أول إصابة بجدري القردة    كالحوت لا يجتمعون إلا في طاجين !        البورصة تبدأ التداولات على وقع الأخضر    الشرطة الأمريكية تعثر على جثة المشتبه به في تنفيذ عملية إطلاق النار بجامعة براون    حمد الله: "الانتقادات زادتني إصرارا على التألق.. والله جلبني لهذه الكأس في سن ال35 ليعوضني عن السنين العجاف مع المنتخب"    تقرير: المغرب من أكثر الدول المستفيدة من برنامج المعدات العسكرية الأمريكية الفائضة    "الصحة العالمية": أكثر من ألف مريض توفوا وهم ينتظرون إجلاءهم من غزة منذ منتصف 2024    زلزال بقوة 5.7 درجات يضرب أفغانستان    رئاسة النيابة العامة تقرر إلزامية الفحص الطبي للموقوفين تعزيزا للحقوق والحريات    نقابة المكتب الوطني للمطارات تضع خارطة طريق "لإقلاع اجتماعي" يواكب التحولات الهيكلية للمؤسسة    رئاسة النيابة العامة تؤكد إلزامية إخضاع الأشخاص الموقوفين لفحص طبي تعزيزا للحقوق والحريات (بلاغ)    "فيفا" يعلن تقاسم السعودية والإمارات المركز الثالث في كأس العرب    جلالة الملك يهنئ أعضاء المنتخب الوطني المغربي الفائز ببطولة كأس العرب    ملك الأردن يقرر منح الجنسية للمدرب جمال السلامي وهذا الأخير يؤكد استمراره مع "النشامى"    استمرار تراجع أسعار النفط للأسبوع الثاني على التوالي    حمداوي: انخراط الدولة المغربية في مسار التطبيع يسير ضد "التاريخ" و"منطق الأشياء"    الرباط تحتضن مقر الأمانة الدائمة للشبكة الإفريقية للوقاية من التعذيب    نادي الإعلام والدراسات السياسية بكلية الحقوق المحمدية : ندوة علمية لمناقشة الواقع الإعلامي المغربي    كيوسك الجمعة | ودائع الأسر المغربية تتجاوز 959 مليار درهم    ترامب يوقف برنامج قرعة "غرين كارد" للمهاجرين    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    انخفاض الذهب والفضة بعد بيانات التضخم في الولايات المتحدة    هياكل علمية جديدة بأكاديمية المملكة    "الكان" يربك حسابات الأندية الأوروبية    إدارة ترامب تعلّق قرعة "غرين كارد"    المحافظة العقارية ترفع رقم المعاملات    فرض رسوم التسجيل في سلك الدكتوراه يثير جدلاً دستورياً وقانونياً داخل البرلمان    انخفاض جديد في أسعار الغازوال والبنزين بمحطات الوقود    البرلماني رفيق بناصر يسائل وزير الصحة حول العرض الصحي بمدينة أزمور والجماعات المجاورة    شبهة تضارب مصالح تُقصي إناث اتحاد طنجة لكرة اليد من قاعات التدريب    معدل ملء حقينة السدود يناهز 33٪    الدولة الاجتماعية والحكومة المغربية، أي تنزيل ؟    أسفي بين الفاجعة وحق المدينة في جبر الضرر الجماعي    الحكومة تُغامر بالحق في الصحة: إصلاح بلا تقييم ولا حوار للمجموعات الصحية الترابية    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    السعودية تمنع التصوير داخل الحرمين خلال الحج    المهندس المعماري يوسف دنيال: شاب يسكنه شغف المعمار .. الحرص على ربط التراث بالابتكار    منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    7 طرق كي لا يتحوّل تدريس الأطفال إلى حرب يومية    سلالة إنفلونزا جديدة تجتاح نصف الكرة الشمالي... ومنظمة الصحة العالمية تطلق ناقوس الخطر    متحف اللوفر يفتح أبوابه جزئيا رغم تصويت موظفيه على تمديد الإضراب    خبراء التربية يناقشون في الرباط قضايا الخطاب وعلاقته باللسانيات والعلوم المعرفية    الموت يفجع أمينوكس في جدته    مركز وطني للدفاع يواجه "الدرونات" في ألمانيا    الرباط تحتضن مهرجان "أقدم قفطان" .. مسار زي مغربي عابر للأجيال    التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريق إلى "مَاتْشُو بِيتْشو" .. قلعة العمالقة بالبيرو تناطح السحاب
نشر في هسبريس يوم 08 - 04 - 2019

زيارة "قلعة ماتشُو بيتشُو" ليس بالأمر الهيّن اليسير؛ فالصّعود إلى هذه البناءات الأثرية الشّاهقة صعبٌ، ومتعبٌ، ومحفوفٌ بالمخاطر. لقد واجهتنا ونحن في الطريق إلى هذه القلعة الشّامخة أدغال كثيفة، وأشجار متداخلة، وأحجار كثيرة مدبّبة، وانعراجات، والتواءات، ومنعطفات، ودروب وعرة، ومسالك ضيّقة وسط جبال وآكام، ومرتفعات .
مدينة "كوسكو"، المجاورة لماتشُو بيتشُو، تقع على ارتفاع شاهق يصل إلى 3400 متر على سطح البحر؛ وهو ما يجعل منها أعلى البناءات التي أقامها الإنسان في هذا الشقّ النائي من العالم.
والطريق إلى مَاتشُو بيتشُو يبدو وكأنّه طريق إلى عنان السّماء لمعانقة السّحاب، وحول هذه البناءات الأسطورية المحيّرة يمتدّ نهر "أوروبامبا" يحيط بها من جميع الجهات، وكان علينا أن نقطع هذا النّهر المنهمر من أعالي القمم، ماؤه صافٍ بلّوريّ، كأنّه زجاج سائل مذاب، والضّباب يغطّي المكان من كلّ جانب .
قلعة ماتشُو بيتشُو (التي سبق أن زارها في القرن ال17 الموصليّ الكلدانيّ أوّل رحّالة عربي الى العالم الجديد) ظلّت مُخبّأة تحت جُنح الزّمن، ومتوارية خلف الضباب الكثيف، ووسط الأدغال المُوحشة، هكذا ظلّت حتى يوليوز 1911 عندما اكتشفها لأوّل مرّة عن طريق الصّدفة الأمريكي "هيرام بنغهام" مع فريق أثري من جامعة بالي الأمريكيّة.
أخبرنا مرافقنا - الذي قدم معنا من عاصمة البيرو ليما – بأنّه بعد مرور سنة على هذا الاكتشاف المثير، أيّ في عام 1912 بدأت الحفريات في هذه المنطقة التي لم يرها أحد منذ ما يقرب من خمسمائة عام، ثم بدأت الزّيارات العلمية المتواترة، والمتوالية لدراسة مختلف الآثار التي وجدت بها، ونوعية التّربة، والنبات والمعادن إلخ.
وفي عام 1934، قرّرت الدّولة البيروفية دعم هذه العمليات، والقيام بمسحٍ شاملٍ للمنطقة والبدء بترميم آثارها. وعلمنا فيما بعد أنه لم يتمّ الاكتشاف التاريخي في الواقع لهذه القلعة الغريبة إلاّ في بداية الأربعينيات من القرن الفارط، عندما اكتشف "بول فيخوس" الطريق المؤدّية إليها داخل شِعب، وأخاديد خفيّة بين جبال وادي أروبامبا، وكانت هذه الطريق هي ذاتها المُستعمَلة من طرف شعوب الإنكا للصّعود إلى قمّة هذه "القصبة" المعزولة، وهذه الطريق في حدّ ذاتها تعتبر مثالاً رائعاً لمدى التفوّق الذي أدركه الإنكا وأجدادُهم في هندسة شقّ الطرق وسط المسالك الصعبة، والمناطق الجبلية الوعرة، وقد شقّت هذه الطريق بشكلٍ يتلاءم مع الوسط الطبيعي المحيط بها حتى تصل إلى قمّة ماتشو بيتشو بعد صعود حوالي 3000 درجة بكدٍّ وجهدٍ منقطعي النظير.
مدينة النّساء
هذا كما علمنا كذلك أنه عندما بدأت عمليّات الحفر في هذه القلعة الحصينة كانت مفاجأة علماء الآثار كبيرة ومحيّرة؛ فمن مجموع 280 هيكلاً بشرياً عُثر عليها 34 فقط منها كانت للرّجال، والباقي للنساء.! ويتساءل الباحث البيروفي لويس كونتريراس عن سرّ هذه البناءات الغريبة، ولماذا عُثر تحت أديم الثّرى على هذا العدد الهائل من هياكل النساء؟ ويجيب عن تساؤله قائلاً إن هذا الأمر هو ليس الوحيد في تاريخ الحفريات الأثرية بالبيرو، فقد عثر كذلك في مقابر شبيهة بتلك التي تمّ العثور عليها في مقابر ماتشو بيتشو في مدينة ساحلية تُسمّى "باشاكا ماك"على هياكل بشرية للنساء أكثر بكثير من هياكل الرجال. ويرجع سبب ذلك حسب كونتريراس نفسه إلى أنّ كلاّ من "ماتشو بيتشو" و"باشاكا ماك" هما مدينتان لإقامة الشعائر والطقوس، ولم تكونا للإقامة والسّكنى من لدن العوام.
وهكذا كان يقطنها لهذه الغاية النّبلاء، وكبار رجال الدّولة، وكان هؤلاء محاطين بالنّساء الخدم اللاّئي يُطلق عليهنّ بلغة الإنكا (أكلاكونا) أيّ (النّساء المختارات ). وكان عليهنّ المكوث هناك حتى الممات، حيث يتمّ دفنهنّ في المكان نفسه الذي كنّ يقمنَ فيه. وكانت حياتهنّ وثيقة الصلة بهؤلاء النبلاء والحكّام من أباطرة الإنكا في كوسكو. وكان عدد المقيمين في هذه القلعة حسب المؤرّخين بين 400 و800 شخص. وهذا ما يفسّر وجود هذه النسبة الكبيرة من النّساء بالقياس إلى العدد القليل من الرّجال من بين الهياكل البشرية التي تمّ اكتشافها في مدينتي ماتشو بتشو وباشاكاماك.
وحسب بعض المؤرّخين المتخصّصين في تاريخ البيرومثل فاكس هول، وبول ديفيث، ولويس فالكارسيل وسواهم فإنّ تاريخ هذه القلعة يعود إلى أزيد من 3000 سنة، وهي لا تبعد عن العاصمة السياسيّة والدينيّة للإنكا كوسكو سوى بمسافة 112 كيلومترا.
وفي الطريق الممتدّ بين كوسكو وماتشو بيتشو تواجهنا أماكن للاستجمام والرّاحة، وهي طريق صعبة، ومتعبة، وملتوية، ولا بدّ أن هذه المحطّات كانت مراتع يستريح فيها الزوّار، وهي أماكن مُحاطة بالجداول والأشجار، ولا تؤدّي هذه الطريق سوى إلى ماتشُو بيتشُو.
عصر ماتشُو بيتشُو
هذه المعالم الأثرية التي تُبهر الناظر بضخامتها، وعلوّها، وإتقانها، وهندستها المعمارية الفريدة أدركتْ أوجها في القرن الخامس عشر، فعندما وصل الإسبان إلى البيرو كان الإنكا يعيشون آخر أيام عزّهم، ومعظم الموجودات التي عثر عليها في هذه القلعة، من أوان وفخاريات وخزفيات ومعادن وأحجار منحوتة، بل حتى طبيعة البناء نفسه يعود حسب علماء الآثار إلى عهد الإنكا بالذات.
وهذه الدّور، والقصور، والبناءات الغريبة المتداخلة، والمتشابكة، والمشدودة إلى بعضها في إتقانٍ بديع، وكأنّ كلّ حجرةٍ من أحجارها، وصخرةٍ من صخورها تعانق الأخرى عناقاً أبديّاً مُدهشًاً، بطريقة تتداخل فيما بينها دون أيّ ملاط إنّها مثل أهرامات مصر بالجيزة أو سقارة، ما زالت تعتبر لغزاً مُحيّراً بالنسبة إلى العلماء حتى اليوم.
وتشقّ القلعةُ الأزقة الضيّقة، والدّروب الطويلة التي تفضي برمّتها إلى وسط الحِصن، وهكذا حتى نصل إلى السّاحة الرئيسيّة لماتشو بيتشو التي تُسمى "شاوبيباتا" وأعلى، وأجمل، وأفخم بناءاتها تُسمىّ "واكاباتا " ويليه مبنى أوسنو"، حيث يوجد ما يطلق عليه بالسّاعة الشمسيّة المسمّاة "انتيواتانا".
وبعد عدّة قصور نصل إلى قصرٍ فخمٍ كبير آخر يُسمّى ب"القصر المُدوّر". ومن بعيد تتراءى لنا دور صغيرة، متناثرة، قليلة الأهمية بالنسبة لعظمة القصور الأخرى الشّاهقة.
وعلى الجانب الشّرقي من القلعة، وجدنا خمسة قصور أخرى أهمّها قصر "التجاويف" الذي يُعدّ من أكبر القصور داخل هذه القلعة الحصينة، ثم وصلنا في الأخير إلى "الصّخرة الجليلة" التي وقف يوماً مّا المؤرّخ البريطاني المعروف أرنولد توينبي مبهوراً أمامها.
وإلى جانب هذه البناءات، خارج الأسوار المتداخلة وصلنا إلى مكانٍ نطلّ منه على هذه القلعة الغريبة، وتمتد أمامنا أراض شاسعة كان الإنكا يستعملونها للفلاحة. وحتى تاريخ قريب كانت هذه الأراضي تُزرع من طرف أحفادهم. كما تكثر في الهضاب، والسّهوب، والمرتفعات المحيطة بالقلعة حيوانات اللاّما والألبكة.
وللقلعة باب كبير يُغلق من الداخل بواسطة رافدة مصنوعة من جذع شجرة متينة، ثم تليها أبواب أخرى تُغلق بنفس الطريقة التي يُغلق بها الباب الرئيسي، ثم تراءت لنا دور صغيرة كانت تُستعمل كإقامة للزّوار المتوجّهين للهيكل الكبير. وفي تنسيق بديع تنتشر عدّة طرق تفضي إلى مختلف البناءات الموجودة داخل الحصن. ومعظم هذه الطرق تحيط بها منابع الماء. بل هناك طريق يطلق عليها اسم "طريق الينابيع".
وتوجد داخل الهيكل الكبير "واكاباتا" حجرة الشمس التي تُسمّى "انتيواتانا" التي هي في شكل عين الأفعى، والطريق المؤدّية إليها هي ذات التواءات في شكل جسم أفعى كذلك. وإذا نُظر إليها من علٍ تبدو بالفعل، وكأنّها أفعى عملاقة تتوسّط المكان. وحجرة الشّمس عند الإنكا كانت مثلما هو الشأن عند الأزتيك وسيلة لمراقبة الزّمن، وحسابه كما لو كانت ساعة شمسية؛ ذلك أنّ أشكال الظلال التي كانت تحدثها عندما تتسّرب أشعة الشّمس من النوافذ تجعلهم يحسبون بدقّة مختلف مراحل الحوْل وفصوله.
وهيكل "واكاباتا" ذو أبنية ملتوية ومتداخلة كلها تفضي إلى الباحة الكبرى التي تتوسّط الهيكل. ويبدو أنّه كان المكان الرئيسي لتقديم القرابين حيث يتوسّط مذبح كبير، وهو ذو هندسة معمارية جميلة تثير الانتباه. ولهذا المبنى نوافذ ثلاث تطلّ على مكان شروق الشمس. ولا بدّ أنّ هذه النوافذ كانت وثيقة الصّلة بالعادات الخاصّة بطقوس الشمس. وقد عُثر في هذا المكان على عدّة أوان فخارية دقيقة الصّنع.
عاصمة أمريكا الأثرية
منذ حوالي سبعين سنة أصبحت كوسكو العاصمة الأثرية لأمريكا، أيّ بعد أن اكتشف هيرام بنغهام قلعة ماتشو بيتشو، ومنذ ذلك الوقت أصبحت مدينة كوسكو المجاورة لها مقصد الزوّار، والسيّاح من مختلف أنحاء العالم، فى كلّ مكان بهذه المدينة تشمّ روح حضارة الإنكا .
وتبذل السّلطات البيروفية جهوداً كبيرة لتغيير وجه المدينة، فبعد أن كانت أطلالاً مُهملة، ها هي ذي اليوم تقف إلى جانب أكبر عواصم العالم القديم مثل مدينة أثينا التي تمّ توأمتها بهذه المدينة بالذات، كما أعلنت اليونسكو أنّ كوسكو هي تراث للإنسانية جمعاء. وقد أصبحت مدينة نظيفة، وكلّ حجرة أو صخرة من جدرانها تنطق بالتاريخ، وقد شيّدت فيها، كما كان الأمر على عهد الإنكا، حدائق غنّاء، وشقّت بها العديد من السّواقي والجداول، وشيّدت أماكن للرّاحة والاستجمام، وتُعنى المدينة بالثقافة والإبداع، وقد أصبح حيّ "سان بلاس" بهذه المدينة معرضاً دائماً في الهواء الطلق يتسابق الفنّانون من أجل عرض أعمالهم الفنية فيه، فضلاً عن المتاحف التاريخية في المدينة التي تزخر بالعديد من نفائس الماضي التي تُصنع من كل ضربٍ من ضُروب المعادن وما أكثرها في بلد مثل البيرو.
وقد دشّن بهذه المدينة شارع كبير يحمل إسم إحدى الشّخصيات التاريخية عند الإنكا؛ وهو "باشكوتيك" الذي أمر بتشييد قلعة ماتشو بيتشو الأسطورية، كما أقيم في المدينة مجسّم كبير لهذا القائد الإنكي.
ولقد كان للتراجع الاقتصادي الذي عاشته البيرو خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفارط، ولحالة الإرهاب التي عانت منها بسببها البلاد، وتفشّي وانتشار عدوى الكوليرا آثار وخيمة على السّياحة في هذه المدينة، إلاّ أنّ المياه عادت إلى مجاريها من جديد مع الانفتاح الذي تعرفه البيرو في الوقت الراهن بعد عودة استتباب السّلم والأمن بها.
وتنظّم في المدينة في 24 يونيو من كلّ عام تظاهرة ثقافية فلكلورية كبرى يطلق عليها "إنتي رايني" (يوم الشمس)، حيث تزدان شوارع المدينة وأزقتها بمختلف مظاهر الزّينة، وتجول فيها الفرق الشعبية التقليدية التي ترتدي أجمل الملابس المزركشة التي تعكس بشكلٍ أو بآخر إشعاع حضارة أجدادهم الإنكا.
ومن العجب أن تواجهنا في عاصمة الإنكا أسماء أماكن عربية، وقد مزجت بلغة السكّان الأصليين بعد أن وصلتهم عن طريق الإسبان مع لغتهم "القشتالية" التي هي مدينة للغة العربية بالعديد من الكلمات التي دخلتها واستقرّت فيها وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها. وهكذا نجد في هذه المدينة أسماء مثل: الريّان، والصّوان، والقبّة، والطلائع، والبِرْكة، والبالوعة، والجُب، والبحيرة إلخ. وكلها أسماء أطلقها الإسبان على المعاني نفسها التي تعنيها في لغتها الأصلية، بعضها تُنطق على أصلها، وبعضها الآخر طرأ عليها تحريف طفيف.
أسطورة القائد الإنكا
يَحكي لنا التاريخ قصصاً وحكاياتٍ حول هذه القلعة الحصينة المعلقة في عنان السّماء خاصّة القصص التي لها صلة بوصول الإسبان والمواجهات التي كانت لهم مع الإنكا. ومثلما حدث مع حكام الأزتيك في المكسيك، فقد نكّل الإسبان كذلك بآخر حكّام الإنكا في البيرو، وطوردوا في كل اتجاه.
ويروي لنا الكاتبُ الأورغوائي الكبير إدواردو غاليانو، في كتابه القيّم (مذكّرات النار)، أن أحد حكّام الإنكا الذي كان يُدعى مانكو انكا ثار ضد الرّجال ذوي الوجوه الملتحية (الإسبان)، فاعتصم في مدينة كوسكو ومعه جيش عظيم، وأضرم النيرانَ حول المدينة، وأمطرت السّماءُ رماحاً، ونبالاً، وسهاماً حادة على رؤوس الإسبان، إلاّ أنّ الجوع أوهن المُحاربين، وأنهك الطّوىَ المُعتصمين، وبدأ جيش مانكوانكا ينسحب شيئاً فشيئاً على امتداد نصف العام.
ويتقدّم قائد الإنكا ويقتحم الجمع، يقطع الوادي الكبير لنهر "أوروبامبا" ثم يغيب في قمم الضّباب الكثيف، فالطرق القديمة التي شقّها أجداده الإنكا بين أخاديد الجبال سبق له أن قطعها من قبل وهو يعرفها جيداً، إنها الطريق المؤدّية إلى القمم في أعالي ماتشُو بيتشُو. ولم يعرف الإسبانُ أين اختفى هذا القائد الإنكي الذي حارب الدّخيل حتى آخر رمقٍ في حياته. هذا الرّجل سبق له أن حكم هذه الأراضي الشّاسعة مترامية الأطراف، والذي خاض المعارك الضارية ضدّ المعتدين، والغزاة من كلّ نوع، والذين لم يعرفوا قط في ذلك الإبان الدهاليز، والمتاهات التي تقود إلى "المدينة السريّة". الإسباني دييغو منديس وحده أمكنه الوصول إلى هذا المكان الخفيّ خلف المُرتفعات، إذ جاء هارباً بعد أن غرز سيفه في حنجرة القائد الاسباني الشهير الذي دخل هذه البلاد وهو فرانسيسكو بيسارّو الذي كان قد رحّب به مانكوانكا، وآواه، وأكرم وفادته، إلاّ أنّ بيسارّو بعد ذلك مِثل بروتوس خدعه وغرز خنجرَه في ظهر مانكو أنكا الذي ظلّ أتباعه وأنصاره يتغنّون مُتحسّرين: سنشرِبُ في جماجم الغادرين / من أسنانهم سنصنع قلائدَ لنا / ومن عظامهم سنصنع ناياتٍ / ومن جلودهم طبولا / ثم بعد ذلك نغنّي ونرقص..
كما يحكي لنا غاليانو أنّ نهر أوروبامبا الذي يوجد على أطراف جبال ماتشُو بيتشُو يبدو نائماً، ولكنه ليس ميّتاً، يبدو هادئاً، ولكنه ليس ساكناً، وهو مُزبد يرغي. منذ قرون وهو يلهث وينفث أنفاسه القوية على الأحجار المحيطة به، وهذا البُخار الكثيف المتصاعد منه يغطيه لحافٌ سميك من الأدغال. وظلّ السرّ دفيناً في آخر معاقل الإنكا بين جبالٍ من ثلج لا وجود لها على الخريطة، حتى جاء العالم الأثري الأمريكي هيرام بينغهام الذي قاده طفل صغير من أهالي المنطقة بين شعاب الجبال، والغابات المُوحشة، والأدغال المتداخلة إلى المدينة التي ترقد في صمت أبدي رهيب.
قلعة العمالقة
سبق للمؤرّخ البريطاني ذائع الصّيت أرنولد توينبي أن زار البيرو عام 1956 وفي مؤلفه "من الشرق إلى الغرب" يصف لنا مروره بالعديد من بلدان العالم ومنها البيرو، وهو القائل: "أن تلتقي وجهاً لوجه مع أحد، أن تتأمّل منظراً بأمّ عينيك، يفوق بكثير مجلدات من النّصوص، والصّور، والخرائط".
وقد ظلّ توينبي مشدوهاً ممّا رأى في بلاد الإنكا، وكان ماتشو بيتشو أغربَ ما وقعت عليه عيناه، فأطلقَ على هذه المدينة اسم "قلعة العمالقة"، وقال عن الإنكا: "كان عمر مملكتهم قصيراً، إلاّ أنّ كلّ ما شيّدوه كان للأبد".
ويتساءل توينبي: ما هو ماتشُو بيتشُو؟ ويجيب بأنه بالمعنى الحرفي يعني "القمّة الكبرى" إلاّ أنه يطلق اليوم على هذه القلعة الإنكية الشّاهقة الواقعة بالفعل بين قمّتين واحدة كبيرة، وأخرى أصغر منها التي لم يصلها قطّ المستكشفون الإسبان حتى جاء ذلكم العالم الأمريكي المحظوظ وأخرجها إلى النّور "كحسناء نائمة". ويضيف توينبي: "إلاّ أنه لا هيرام بنغهام ولا الأثريون الآخرون أمكنهم تحديد تاريخ القلعة أو استكناه مهمّتها، فهل كانت قلعة لردّ هجومات الشعوب الهندية المُغيرة من غير الإنكا؟ أم كانت حصناً اعتصم فيه آخر الإنكيّين بعد اندحار إمبراطوريتهم وأفول شمسها على يد الإسبان؟ أم كانت قلعة منيعة، أو ثكنة عسكرية حصينة؟. ويشير توينبي: أنه اتّضح له أنّ هذه القلعة كانت مكاناً لتقديم القرابين، وهي تضمّ مختلف الأساليب المعمارية عند الإنكا". ويسترسل في وصف هذه القلعة قائلاً: "إنّ الناظر من أعالي بناءات ماتشُو بيتشُو يرى أمامه بساطاً أخضر لا متناهيّاً، ثم يبدو له النّهر مترامي الأطراف يحيط بقلعة ماتشو بيتشو التي تغدو شبيهة بشبه جزيرة محاطة بغلالة من ضبابٍ كثيف".
ويضيف: "منظر غروب الشّمس من هذا المُرتفع الشّاهق لا يمكن وصفه، وربما كان شروقها أجمل وأروع بكثير لولا انحدار الضّباب في الليل على القلعة دانياً مُسِفّاً". ويصف توينبي زيارته لهذه القلعة ويقول: "وسط منعرجات ملتوية صرنا ننزل المنحدر في حذر. كانت الهوّة سحيقة وعميقة، ولم تصطدم عربتنا الحديدية بأيّ شيء، الضحيّة الوحيدة التي سقطت صريعة أمامنا كان باشقاً يتأهّب للانقضاض على حمامة برية"، ويضيف واصفاً مغامراته في أرض الإنكا: "ومررنا بعدّة ينابيع مائية كانت بمثابة أماكن للرّاحة عند الإنكا. ومنذ ذلك الوقت لم يتغيّر أيّ شيء في هذا المكان السّاحر".
وأمّا نحن.. فبعد أن وقع نظرنا على كوسكو، وبعده على ماتشُو بيتشُو، راعنا ما رأيناه.. توقفنا قليلاً لنستردّ بعض الأنفاس.. ونتنفّس الصّعداء.. ومثلما كان يفعل قدماء الإنكا.. ومثلما فعل أرنولد توينبي نفسه عام 1956 جلسنا قليلاً في مكانٍ يُسمّى "ككنكو".. فرّكت عينيّ، وعندما فتحتهما رحت أشقّ طريقي مع الرّفاق بين الأخاديد، والشروخ، والمتاهات، والمنعرجات وبين أحجار صلدة.. ولم أصدّق نفسي، إذ كأنّني كنت أوجد في قلب "جازيلي كايا" أمام الصّخرة المخطوطة التي كانت ذات مرّة المكان المبجّل عند الحيثيين؛ ففي الأناضول وفي البيرو نجد الأشكال الغامضة نفسها التي تحفل بالغرائبية وتبعث على التساؤل والعُجْب، والتي تثير في قلوب الناظرين إليها أحاسيس، ومشاعر من الرّعب والرّهبة، والدّهشة والذهول، والانبهار، هذه "الصّخرة" هي دليل تشابه، وتقارب، وتماثل، وتثاقف، وتداني الطبيعة البشرية على الرّغم من بعد المسافات، ونأي الأماكن والأزمان.. إنّها من عجائب ماتشو بيتشو... قلعة العمالقة..!.
*كاتب، وباحث، ومترجم، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم -بوغوطا- كولومبييا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.