حموشي يعين عبد الهادي السيبة مفخرة سيدي بنور نائبا لوالي أمن بني ملال        استيراد الأبقار بالمغرب يلامس سقف 150 ألف رأس والحكومة تتجه لإصدار قرار جديد    مضامين غير دستورية في "المسطرة المدنية" .. ووهبي يرحب بالمراجعة    تداولات بورصة البيضاء تنتهي بالأخضر    حقينة سدود المغرب تواصل الانخفاض رغم التحسن النسبي في معدل الملء    طيران مباشر يربط الأردن بالمغرب    فرنسا تعلق إعفاء جزائريين من التأشيرة    تحطم مروحية يقتل وزيرين في غانا    وفيات سوء التغذية تزيد بقطاع غزة    هل يُضفي الذكاء الاصطناعي الشفافية والمصداقية على الانتخابات المغربية؟    قرعة الأبطال و"الكاف" بدار السلام    "إعارة بلا شراء" للضحاك مع الرجاء    تنظيم جديد للسفر من "طنجة المتوسط"    تقلب الجو يوقف الصيد بمياه بوجدور    ضمنهم جزائريون وباكستانيون.. السلطات المغربية توقف "حراگة" بالشمال    دعم السينما يركز على 4 مهرجانات    خبيرة غذائية تبرز فوائد تناول بذور الفلفل الحلو    تكريم كفاءات مغربية في سهرة الجالية يوم 10 غشت بمسرح محمد الخامس    ماكرون يرفع سقف المواجهة مع الجزائر ويدعو حكومته لنهج أكثر صرامة    مصرع شخصين واصابة ثلاثة اخرين بجروح خطيرة في حادثة سير نواحي الناظور    بادس.. ذاكرة شاطئ يهمس بحكايا التاريخ        نشرة إنذارية: موجة حر وزخات رعدية قوية مصحوبة بالبرد وبهبات رياح مرتقبة من الأربعاء إلى الأحد بعدد من مناطق المملكة        رئيس الفيفا جياني إنفانتينو: دعم الملك محمد السادس جعل المغرب نموذجاً كروياً عالمياً    المغرب... تضامن مستمر ومتواصل مع فلسطين بقيادة الملك محمد السادس    دقيقة صمت في هيروشيما إحياء لذكرى مرور 80 سنة على إلقاء القنبلة الذرية عليها    حين ينطق التجريد بلغة الإنسان:رحلة في عالم الفنان التشكيلي أحمد الهواري    النجمة أصالة تغني شارة «القيصر» الدراما الجريئة    توقيف أفارقة متورطين في تزوير جوازات سفر وشهادات مدرسية أجنبية ووثائق تعريفية ورخص للسياقة    نتنياهو يتجه نحو احتلال قطاع غزة بالكامل    نشوب حريق في شقة سكنية بمدينة الفنيدق    حزب الله يرفض قرار الحكومة اللبنانية تجريده من سلاحه    قراءة ‬في ‬برقية ‬الرئيس ‬الأمريكي ‬دونالد ‬ترامب ‬إلى ‬جلالة ‬الملك ‬    أكلو : إلغاء مهرجان "التبوريدة أوكلو" هذا الصيف.. "شوقي"يكشف معطيات حول هذه التظاهرة    عدد ضحايا حوادث السير يرتفع بالمدن فيما يسجل انخفاضا خارجها خلال شهر يوليوز    نقل جندي إسباني من جزيرة النكور بالحسيمة إلى مليلية بمروحية بعد إصابته في ظروف غامضة    أشبال الأطلس يستعدون للمونديال بمواجهتين وديتين ضد منتخب مصر    المديرية العامة للأمن الوطني تطلق حركية الانتقالات السنوية    طفل يرى النور بعد ثلاثين عامًا من التجميد    غزة.. انقلاب شاحنة مساعدات يخلف 20 قتيلا ومستوطنون يهاجمون قافلة معونات قرب مخيم النصيرات    الموثقون بالمغرب يلجأون للقضاء بعد تسريب معطيات رقمية حساسة    "وصل مرحلة التأزم البنيوي".. 3 مؤسسات رسمية تدق ناقوس الخطر بشأن أنظمة التقاعد    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تعقد اجتماعاً حاسماً لدراسة تعديلات قانونية وهيكلية    الذهب يتراجع متأثرا بصعود الدولار    بطولة فرنسا: لنس يتوصل لاتفاق لضم الفرنسي توفان من أودينيزي    «أكوا باور» السعودية تفوز بصفقة «مازن» لتطوير محطتي نور ميدلت 2 و3    بين يَدَيْ سيرتي .. علائم ذكريات ونوافذ على الذات نابضة بالحياة    بنما تعلن من جديد: الصحراء مغربية... ومبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هي الحل النهائي    نحن والحجاج الجزائريون: من الجوار الجغرافي …إلى الجوار الرباني    اتحاديون اشتراكيون على سنة الله ورسوله    بجلد السمك.. طفل يُولد في حالة غريبة من نوعها    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    الأطعمة الحارة قد تسبب خفقان القلب المفاجئ    دراسة كندية: لا علاقة مباشرة بين الغلوتين وأعراض القولون العصبي    بنكيران يدعو شبيبة حزبه إلى الإكثار من "الذكر والدعاء" خلال عامين استعدادا للاستحقاقات المقبلة    "العدل والإحسان" تناشد "علماء المغرب" لمغادرة مقاعد الصمت وتوضيح موقفهم مما يجري في غزة ومن التطبيع مع الصهاينة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة المغاربة إلى الحج
نشر في هسبريس يوم 01 - 06 - 2019


مكة تحب المغاربة
بُعْد الشّقة ووحشة الطريق ومخاطر الرحلة وتوفير المؤونة الكافية عوامل كانت تزيد تُلهِب شوق المغاربة إلى البيت العتيق، وتُذكي في حسهم حب الكعبة والوقوف على قبر الرسول عليه السلام..بمقدار بعدهم كان حنينهم، فسهل الصعب ودنى النائي وطويت الأرض؛ وكانت للحج نكهة بمقدار ما افترشوا الأرض والتحفوا السماء..من آلاف الأميال تحمل إليهم النسائم عبق الكعبة عندما تمخر نوقهم عباب الصحراء، اشتاقت الكعبة إلى معانقتهم كما اشتاقوا إليها. وإذ يحدو الحادي النوق ربما انتهى اسم المصطفى في الحُداء إلى آذانها فأطربها وزادت سرعة سيرها أن وعت حمل الضيوف فوق سنامها.
ابن بطوطة: مضيت في طريقي دون رفيق يؤنسني أو قافلة ترافق دربي، تدفعني إلى ذلك رغبة مكتوبة في القلب لزيارة الديار المقدسة.
كان يحملهم الشوق إلى أم القرى على أجنحته فيُنسيهم حرارة الشمس الحارقة والمخاطر المتوقعة. تشتد العزائم عندما تستجيب الروح لنداء آتٍ من عالم الخلود من قبل الوجود لتملأ فراغاً طال به الانتظار، تجيب عن أسئلة ليس لها من قبل ولا من بعد جواب إلا هناك. كلما زادت المشقة زادت المتعة وكلما زاد البعد زاد الشوق إن ذكرت مكة وبطحاؤها وزمزم والمقام والمحصب من منىً والحطيم. البقاع التي عانقت فيها الأرضُ السماء. كأنك لستَ راحلا بل عائداً إلى منزل لك في الأصل به كان الميلاد وإليه المنتهى أو كانت روحك تسكنه أو طافت به لمئات المرات؛ فهي رحلة الروح قبل الجسد اللاهث اليوم وراءها وهي صائلة متمردة تسبق الجوارح إلى أصلها، هناك تتدفق قوة كالسيل العرم يعجز الجسد عن ملاحقتها تارة ويسايرها أطواراً فلا يملك إلا الخضوع لها طوعاً وكرهاً.
فإذا كانت النفوس كباراً * تعِبتْ في مرادها الأجسام.
الرحالة العبدري: لا يخلو فكر من تصورها ولا خاطر من توهمها.
هي أول مكان عُبد فيه الله وأقسم به مراراً في القرآن: لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ [سورة البلد آية 1] أحبها وحبَّبها وحرَّمها وباركها وجعلها مثابة للناس وأمناً وسكناً.. من كل فج عميق ترحل إليها الأرواح في كل صلاة وتُشد إليها الرحال عبر الزمن، تهوى إليها الأفئدة وتُشحن بذكرها وفيها تسكب العبرات وترتوي ضمأى المهج وتتساوى الخلائق من جميع المستويات والأقطار وتتلاشى الفوارق بين الإنسان.. الآصرة الروحية بين المسلمين، بها يستكمل الدين وبها اكتمل، كانت من قبلُ مقدسة..بها ولد المصطفى وبُعث وشاهدت عرصاتها وحي السماء ينزل به الأمين جبريل، ضمت في جنباتها رفات آلاف الأنبياء. من قريض الرحالة ابن الطيب الفاسي المحدث المسنِد اللغوي الأديب دفين المدينة [11101117ه]
يا كعبةَ الله كم من عاشق قتلا شوقاً إليك ورام الوصلَ ما وصلا
يُمسي ويُصبح محزونا ومكتئبا ويهجر الأهل والأوطان والطللا
لولاك ما سرَتِ الركبان من طرب كلا ولا قطعت سهلا ولا جبلا
باعوا النفوس رخيصا في هواكِ وما تغلوا النفوس بوصل منك إن حصل
مَرقد المصطفى
كان قصد زيارة الرسول في المدينة يولِّد طاقة هائلة تزود الرحلة الطويلة في انتظاراللحظة الفارقة للسلام على الرسول بدون واسطة وهو حي في قبره: السلام عليك يا نبي الله السلام عليك يا خيرة الله من خلقه...وهم يستشعرون رده للسلام وسروره بمقدمهم مستحضرين قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا[النساء 64] كان مالك بن أنس يستحي أن يركب في مدينة رسول الله، كان يقول: لا أركب في المدينة.. فيها جثة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مدفونة.
حسان:
بطيبة َرسمٌ للرسولِ ومعهدُ * منيرٌ، وقد تعفو الرسومُ وتهمدُ
ولا تنمحي الآياتُ من دارِ حرمة * بها مِنْبَرُ الهادي الذي كانَ يَصْعَدُ
ووَاضِحُ آياتٍ، وَبَاقي مَعَالِمٍ * وربعٌ لهُ فيهِ مصلى ًومسجدُ
عرفتُ بها رسمَ الرسولِ وعهدهُ * وَقَبْراً بِهِ وَارَاهُ في التُّرْبِ مُلْحِدُ
ظللتُ بها أبكي الرسولَ، فأسعدتْ * عُيون، وَمِثْلاها مِنَ الجَفْنِ تُسعدُ
أطالتْ وقوفاً تذرفُ العينُ جهدها * على طللِ القبرِ الذي فيهِ أحمدُ
وداع القافلة
ابن بطوطة: حَزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وَصَباً، ولقيت كما لقِيا نَصَباً.
العبدري: إن المسافر عندما يخرج من الأقطار مدينة فاس لازال إلى الإسكندرية في خوض الظلماء وخبط عشواء لا يأمن على ماله ولا على نفسه ولا راحة في غده، إذ لم يرها في يومه وأمسه يروح ويغدو لحما على وضم يُظلم ويُجفى ويُهتضم تتعاطاه الأيدي الغاشمة وتتهاده الأكف الظالمة، لا منجد له ولا معين ولا ملجأ يعتصم به المسكين.
كانت القرية تخرج عن بكرة أبيها لتوديع قافلة الحجاج بأهاريج من الأمازيغية والعربية تترجم هيامهم إلى الأرض الطاهرة، وداعاً يترك في القلب لهفة وفي العين دمعة. إذْ كان في الوداع قليل من أمل في العودة، فالذاهب مفقود والعائد مولود. المدة القياسية العادية للحج حسب الرحالة العياشي، وهو أكثر من اهتم بالتواريخ: ثمانية أشهر، قد تصل إلى سنة بل سنتين لمن ضاع به الطريق ووصل متأخراً عن الحج فمكث في مكة ينتظر الموسم القادم دون معرفة الأهل عنه من موت أو حياة. أما من رام طلب العلم مع الحج فلا أجل لعودته إلا إن يدرك الغاية. لهذا يصعب ضبط المدة التي كان المغاربة يقضونها في حجهم. أما الطرق فلم تكن آمنة بسبب الحروب وانفلات الأمن واللصوص المتربصين بقوافل الحجاج على الخصوص لسلبهم ونهبهم. ومن الحجاج من جرفتهم السيول فلقوا حتفهم أو هلكوا في البحر أو كانوا عرضة لرمال الصحراء المتحركة فقضوا أو برياح عاتية جردتهم من كل شيء وشتت جموعهم كما تحكي كتب الرحلات. لقد أسقط الفقهاء فريضة الحج لفترات، لما ترتبت عليها من مفاسد. اشتهرت بذلك فتوى ابن رشد لأهل الأندلس والعلماء الشناقطة بإسقاط الحج. كما عانى المغاربة من ضريبة المكس الذي فرضته الدولة العبيدية الفاطمية، حيث يُحبس من لم يملك المبلغ حتى يفوته الحج، إلى أن أسقط الناصر صلاح الدين تلك الضرائب والمكوس الظالمة كما أثبت ابن جبير وهو يثني بذلك عليه.
نبوغ مغربي Travel Literature تدوين الرحلة
كراتشكوفسكي المستشرق الروسي: لقد أحرز المغاربة درجة السبق في أدب الرحلات.
لازالت الرحلة المغربية تقدم للباحث مادة معرفية دسمة تزيد قيمتها كلما تقادم العهد بها، فعندما يبحث الحجازيون اليوم في تاريخ بلدهم فإن أول ما يؤمونه من مصادر الاعتماد هو ما خطته يراعة المغاربة خلال رحلاتهم للحج حول أهل الحجاز وثقافتهم وعاداتهم وتفاصيل حياتهم. يأخذ الباحث ذلك بثقة إذ كُتب بصدق وأمانة أثناء رحلة إيمانية، مع دقة في الوصف لتفاصيل الحياة، كأنهم يحملون عدسة للتصوير عندما يضعنا الرحالة ابن جبير الأندلسي أمام وصفه الدقيق لتمثلات الرحلة، كأنك تراها سرداً ورصداً. والرحلات كمٌّ هائل منه ما تم تحقيقه وما لم يعثر على أسماء أصحابها. رحم الله المؤرخ المغربي وكتبه في الصديقين النابغة العالم عبد الهادي التازي الذي خاض ذلك البحر واستخرج لنا من درره أنفسها.. انظر كتابه: رحلة الرحلات، رحمه الله وكتبه في الصديقين.
طرق الرحلة
اعتمد أجدادنا طريق البر الصحرواي عبر مصر، وكان ركب مصر ينتظر وصول المغاربة. الطريق الثاني طريق الشام التي سلكها ابن بطوطة 726ه 1326م ومرض بها، تجنبها المغاربة طيلة وجود الصليبيين ببلاد الشام. والطريق الثالث هو إبحار من سبتة انتهاء بالإسكندرية، بعدها إما إبحار عبر النيل أو عبر مرفأ عيذاب نحو بلاد الحجاز. وطريق البحر بدورها عرضة للقرصنة وهيجان البحر. وبعد الخروج من مصر تنتظر الحجاج أرض مقفرة موحشة معطشة يسيرون فيها أربعين يوماً. كل هذه التحديات والمخاطر كان يضعها الأجداد يومئذ في الحسبان فيزيد بالبعد شوقهم بدل أن تخور عزائمهم، ليَقِينهم بشهيد الحج.
رحلةالحج مدرسة
مفهوم الرحلة يتضمن التدوين وإلا كانت سفراً أو تنقلا، إن صحبها التدوين تحولت إلى مصدر للمعرفة ومرجعية اجتماعية سسيولوجية ثقافية تاريخية جغرافية دينية تربوية ومثيرة في الوقت ذاته، تخلق مفارقة وتصنع حدثاً..كانت تمثل هرماً قمّته الحج ولها عناصر مكونة لقاعدة الهرم فتُعطَى الوسيلة -الرحلة- حكم الغاية التي هي حج البيت فتتحول كل خطوة في الرحلة إلى جزء من الحج..كما تقول الشيعة: كل أرض كربلاء*..وكل يوم عاشوراء؛ فمن قضى في سبيل الحج بعث شهيداً ملبياً، فتجربة الحج ومعانقة الحرم وزيارة المصطفى يعيشونها منذ لحظة انفصالهم عن الأهل.
بتونسَ يمرون بجامعة الزيتونة فيلتقي مَن بالقافلة من الفقهاء والعلماء بزملائهم بها، فيحضرون مجالسهم يتبادلون الأخذ. أما النزول في مصر فالأزهر كان يفرش الأرض لعلماء الغرب الإسلامي من العدوتين احتضاناً وترحيباً؛ كما يقصد أهل التصوف رجالاتهم لأخذ صحبة الرسول بالسند كما تؤخذ الرواية.
حرص المغاربة خلال الرحلة على توثيق سند الموطإ بالسند العالي عبر السلسة الذهبية، فرواه عشرات منهم بأسانيدهم المتصلة، وإن كان أشهرهم يحيي بن يحيي الليثي فإن غيره كثير. وثبت بالتواتر عنايةُ الإمام مالك بالطلبة المغاربة الوافدين عليه بالاهتمام بهم وإجلاسهم إلى جنبه وسؤالهم عن أحوال البلد حتى قال الطلبة عن شيخهم: "شغله المغاربة عنا".. كان يتتبع أحوال الأمة لما عاصره من التحولات كسقوط الأمويين وإحلال العباسين محلهم وقيام دولة الأدارسة في المغرب.. كان إذا طُرح عليه سؤال من أهل المغرب أمر طلبته المغاربة من أهل السبق بالإجابة عن سؤال تعلق ببلدهم [انظر كتاب الإمام مالك والموطأ والمدونة بعيون مغربية الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي، صدر حديثاً].
كانت رحلة الحج مصدراً للعلم والإلهام والانفتاح والتلاقح مع الآخر، كما كانت تُحدث تحولا جذرياً في الأخلاق والخيارات والقرارات وربما استوطن أحدهم بلداً مر بها فوجد بها نفسه مثل ما حصل لأَعلام من رجال التصوف المغاربة، حيث مكثوا بمصر بعد عودتهم من الحج، كالشاذلي وأبو العباس المرسي وأحمد البدوي والدسوقي وغيرهم.
أورد ابن جبير، وقد توفي بالإسكندرية في شهر شعبان 614ه/ 1217م، أن صلاح الدين خصص مرافق مسجد ابن طولون مأوى للمغاربة وخصص لهم خبزتين في اليوم للفرد. يثبت ابن جبير أن اهتمام الناصر بالمغاربة والأندلسيين يعود لما يكابدونه لطلب العلم والحج..إن الرحالين المغاربة على كثرتهم يستحيل الإلمام بأسمائهم وأعمالهم، منهم: الناصري المؤرخ المتوفى 1897م وابن رشيد الفهري السّبتي 1259 - 132م الحضيكي السوسي المتوفى 1189ه، والعبدري المتوفى 700ه وأبو يعقوب البادسي 1334- 1242 ه وابن عثمان المكناسي المتوفى 1799 والشريف الإدريسي السبتي المتوفى 559- 1166، وعبد الواحد بن علي المراكشي، الملقب بمحيي الدين المتوفى 1186-1250م، وابن سعيد المغربي المتوفى 1214 – 1286، وابن جبير المتوفى في شعبان 614-1217 وابن بطوطة المتوفى 1377م، وعلي بن محمد التمكروتي المراكشي المتوفى بها 1003ه 1594م.
إن رحلة أفوقاي الموريسكي إلى الحج خلال القرن السابع عشر تختزل أمة في رجل ما كنا سنعرفه لولا تدوينه للرحلة؛ فأثناء عودته من الحج مر بمصر والتقى بعلماء الأزهر وقص عليهم قصته فنصحه العلامة على الأجهوري، شيخ علماء المالكية بالأزهر، بكتابة رحلته فكتب بعد العودة كتابه: رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب، ليُخرج للعالم قصته المثيرة: إخفاؤه لدينه وعمله في الكنيسة والترجمة وخروجه المتخفي إلى المغرب ثم التحاقه بالعمل ببلاط الملك المنصور الذهبي وإيفاده إلى هولاندا وجامعة ليدن. "حصل ابن بطوطة في دمشق وحدها على ثلاث عشرة إجازة، ممن أجازه زينب بنت الكمال المقدسية" [تحفة النظار في غرائب الأمصار تحقيق عبد الهادي التازي ص 84] وفي بغداد حضر مجالس أبي حفص القزويني وأخذ إجازات من أصفهان [ نفس المصدر] ولاه ملك الهند القضاء، وعند عودته إلى المغرب عمل في سلك القضاء أيضاً. في بغداد اعترض على لحن الإمام في النحو.
قداسة مغيبة
استلمنا القطعة الباقية من الجذع الذي حن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
[رحلة ابن بطوطة ج 1ص 349 تحقيق عبد الهادي التازي]
يصف ابن بطوطة قبل أكثر من سبعمائة عام - وهو الذي حج سبع حجات ومكث في مكة ثلاثة أعوام يطلب العلم- يصف الجو الروحاني لمكة، الذي يأسر اللب، ونظافة أزقتها وكرم أهلها وجمال نسائها اللائي يطفن في المساء ويبقى عبق المسك بعد طوافهن. ويصف الرحالة الحضيكي السوسي في مدونته الرحلة الحجازية عدداً هائلا من المآثر والمزارات التي أصبحت أثراً بعد عين منها حجرات أمهات المؤمنين والبيت الذي ولد في الرسول ودار الأرقم ودار خديجة التي كان يتعبد فيها الرسول ومولد فاطمة الزهراء، وبها قبر القاسم ابن الرسول عليه الصلاة والسلام ودُور الصحابة ومساجد كثيرة حملت أسماء لأحداث ترتبط بالقرآن ونزوله. كانت مواضيع تستحب زيارتها لاستجابة الدعاء فيها، كما كانت تبرز بَساطة وزهد الرسول وصحبه وإن لم يرتبط بها فرض أو واجب لكن ارتبط بها الإشعاع الروحي والهوية الحضارية. وقد حافظت كل الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة على ذلك التراث الذي يمثل ذاكرة أربعة عشر قرناً لأمتنا إلى العهد الحالي أن دمرت بحجة سد الذرائع ومحاربة الشرك أو لإحلال مرافق أخرى محلها.
وأنت تقرأ الرحلات تفتقد قداسة مكة المغتصَبة المغيَّبة التي بقيت فقط مداداً بين ثنايا سطورها، حيث تتعرض المدينة الروحية لصبغة رأسمالية استهلاكية تسويقية تأكلها وتحولها إلى مدينة ذكية تُقحَم في حلبة المنافسة مع ناطحات السحاب العالمية لاستقطاب أكثر الزائرين. تعتمد هندسة التوسيع جانب الإبهار بدل اعتماد المعمار الروحي فيصدم الحاج عندما تلفت انتباهه الأبراج الشاهقة وتصغر الكعبة أمام وابل من الأبراج الخشنة، حيث يتسنى للأثرياء أن يصلوا من الفنادق لأنها من الحرم حسب الفتاوى الجاهزة دون أن يحققوا المساواة بين المسلمين ومعايشة جُهد الحج.[ يستحسن العودة إلى كتاب: من مكة إلى لاس فيكاس- أطروحات نقدية في العمارة والقداسة د. علي عبد الرؤوف].
أخيراً
كانت رحلة المغاربة إلى الحج بسبب بعدها تمثل تبتلاً ورهانيةً وإثراء أعطت للحج معنىً وصيرته مدرسة ومرجعية لباب من أبواب المعرفة، وتحفة نادرة يزيد جمالها كلما تقادم عليها الزمن.. لم يكن مجرد فريضة يثاب على فعلها ويعاقب على تركها يُختزل في إحرام وطواف وسعي وووقوف؛ بل تسامى حبهم فكان السهم الذي يخترق القِفار، وإلا ففتاوى إسقاط الحج على المغاربة كانت متوفرة لكنهم لم يعبؤوا بها بل آثروا التحدي ليصنعوا المفارقة في جبين الزمن، وليترجموا البعد الحضاري للعقيدة الإسلامية وركن العلاقات الدولية ويجعلوا منه المنطلق إلى استكشاف الآفاق: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت 20] لقد كان المحطة الأولى لابن بطوطة إلى باقي القارات في رحلة ستستغرق تسعاً وعشرين عاماً. كما كان الحج متنفساً لأجدادنا المدجنين والمورسكيين الذين جار عليهم الزمن في أرض غربت بها شمس الإسلام وكانت الرحلة إلى الحج وحدها هي الملاذ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.