كلّما حصد غدرُ "الانقِتَالِيِّين" أرواحا بريئة، يتجدّد التقاطب بين واسِمِي الإسلام بتوفير ظروف الغلوّ والتشدّد التي تمهّد للعنف العمَلي، وبين مُبرّئِي تلقّي الناس لهذا الدين جملة وتفصيلا، وإلقاء اللوم على قراءات "أفراد متطرّفين مستلبين". وفي سياق إنساني كِيلَت فيه للإسلام اتهامات عديدة، وأصبحت سِمَته الأساس في بعض المجالات التداولية، تزداد حاجة المؤمنين وغير المؤمنين إلى وقفات صادقة مع النفس، تفكّ عن الكثير من المفاهيم والتصوُّرات والاعتقادات ما شابها من قيود العادة، والانغلاق، والتسليم المقلِّد دون إعمال لواجب محاولة الفهم، ونعمة التفكير وأمر "استفتاء القلب".. في خضمّ هذه التطوّرات أصدرت الرابطة المحمدية للعلماء دفاتر جديدة تروم "تفكيك خطاب التطرف"، وتخوض غمار وضع مفاهيم تُوُوطِئ على التسليم باستيعاب معانيها ونهاياتها المنطقية ما تيسّر من الزمن على طاولة التشريح.. وفي سلسلة جديدة، تحاول جريدة هسبريس الإلكترونية قراءةَ "دفاتر تفكيك خطاب التطرف" من أجل تقديمها للجمهور العريض الذي تعنيه وتمسّ تصوّراته ورؤيته للعالم وعمله فيه، ومن أجل فتح باب النقاش حول مضامينها التي تهم كل الأطراف باختلاف تمَوقعاتهم السياسية والثقافية والعقدية؛ لأن مسألة العيش المشترك تتجاوز الأفراد والجماعات، لتمسّ وحدة المصير وطبيعة المستقبل الذي نريده. شروط أخلاقية ينطلق الباحث خالد ميار الإدريسي، في دفتره المعنون ب"الدولة "الإسلامية".. قراءة في الشروط وبيان تهافت الخطاب المتطرِّف"، من مسلَّمة هي أن شكل الدّولة لم يكن هاجسا في مرحلة الدعوة النبوية، بل كان الهدف الأسمى هو "ربط العباد بخالِقِهم، وتحقيق التّوحيد، وتأسيس ميثاق الأخوّة الإنسانية"؛ وبالتالي مجتمعُ يثرب، وشكل التّنظيم اللّاحقِ لأمور المسلمين، هو اجتهادٌ وسعيٌ إلى تطوير أدائهم في تدبير شؤونهم والتعامل مع غيرهم، مشيرا إلى أن هذه الفترة لم تعرف حزازة في دمج آليات تنظيمية وعسكرية كانت لدى غيرهم مثل الدّواوين والخندق.. ويرى الأكاديمي ميار الإدريسي أن الهاجس الأكبر للتّدبير السياسي عند المسلمين هو "تحقيق المقاصد الكلية التي أمر بها الشّرع، وحمَل المكلّفين على مراعاتها وضمان الأمان في ما بينهم ولغيرهم، بأشكال التّنظيم التي يجتهدون في استنباطها من الأصول الشرعية والخبرات الإنسانية"، ثم يردّ على من يتّجه إلى "اعتبار التدبير النبوي الشريف لأمر المسلمين شكلا من أشكال "الدولة""، استنادا إلى مؤشّر القيادة النبوية التي اجتمعت فيها الدعوة والسلطة السياسية، واستمرار الدولة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإعطاء رواتب الجند، ومؤشّر تنظيم الضرائب، وضرب النّقد، مع اعتبار "صحيفة المدينة" دستورا لهذه الدولة النبوية، بالقول إن هذا التنظيم الذي يمكن الاصطلاح عليه بالدولة لم يكن غاية بالأساس، ولم ينبن على المفاضلة مع الغير، بل كان يعرف حماية أخلاقية لجميع الناس. ويستنتج ميار الإدريسي أن مرتكزات التدبير الأخلاقي للاجتماع الإسلامي لا تقوم فقط على الاستدلال الشّرعي على حقّ إعلان قيام "دولة إسلامية"، بل على شواهد التدبير العملي واليومي والمستقبلي للشأن الإنساني ككلّ، ويضيف أن "الدولة الأخلاقية الحديثة المطالبَ بتحقيقها"؛ لا يمكن أن تكون أخلاقية إلا إذا ارتكزت على مشروعية تدبيرها للمطالب القديمة والجديدة للإنسان في الاجتماع المعاصِر، ثم يتحدّث عن تحدّي تكييفها حسب الاجتهاد الشّرعيّ الذي لا يفرِّط في أخلاقية الدولة كما هو مشتمل عليه في القرآن الكريم والسنّة النبوية. ويذكر الكاتب أن مشروعية "الدولة الأخلاقية الإسلامية" لا تنفصل عن الأخذ بمؤشّرات الرّخاء البشري المعقول والمؤمِّنِ للحدّ الأدنى للكرامة الإنسانية، ويذكّر في هذا السياق بأنّ "المرتكزات الأخلاقية للتدبير" تقوم أوّلا على "النية الأخلاقية المجرّدة من كلّ الأهواء والمطامع الذاتية وصرفها إلى تحقيق مراد الله، والترشيد العقلاني والقابلية للقياس، بعيدا عن الشّعارات المتوسّلة للمقولات الدينية"؛ مشدّدا على أن هذا التدبير الأخلاقي الداخلي هو الذي يمكن أن يضمن توهّجا للدولة الإسلامية في زمن تتلاشى فيه الحدود بين ما هو داخلي وما هو خارجي، عن طريق ضمان الضروريات والحدّ المعقول من الكماليات لكافة القاطنين والمقيمين من المسلمين وغيرهم. حديث مستأنف يربط خالد ميار الإدريسي تجديد النقاش حول إمكانية إقامة "الدولة الإسلامية" أو تجديد "الخلافة الإسلامية" بسياقات إقليمية ودولية يمكن اختزال معالمها في بروز الدولة الفاشلة، مذكّرا في هذا السياق بأن الدول المنتمية إلى العالم الإسلامي من أكثر الدول المصنّفة في خانة "الأكثر فشلا" في المؤشّر العالمي. ومن بين السياقات التي يربط بها ميار الإدريسي تجديد النقاش حول إمكانية إقامة "الدولة الإسلامية" الولوجُ إلى عصر "مجتمع المخاطر العالمي"، الذي تواجه فيه جلّ الدول مخاطر من صنع كافّة الفاعلين في العلاقات الدولية، مثل الهجرة القسرية، والإرهاب، وانتشار الأسلحة، وتكاثر وانتقال الأمراض، التي تعجز الدول الضعيفة والمنفردة عن مواجهَتِها لوحدها دون تضافر الجهود العالمية، إضافة إلى ولوج عصر "ما بعد العَلمانية" الذي يعرف التفكير في إدماج الدين في السياسات العمومية، مع ابتكار منظورات جديدة للتدبير العمومي للدين، وتصاعد موجات الإلحاد الجديد، في الآن نفسه، خصوصا بعد أحداث 11 من شتنبر 2001. ومن السياقات التي أوردها الباحث تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، وانتشار العنف العالمي والحروب غير المتكافئة، والتفكّك القيمي واتّساع منطق التلذّذ المفرط والترويج لنماذج السعادة الزائفة، إلى جانب تحوّل "الربيع العربي" إلى شتاء قارس وما رافق ذلك من سيادة حالةِ الإحباط، ثم تولّي "الحركات الإسلامية" مقاليد الحكم في بعض دول العالم الإسلامي، مع احتدام النقاش حول صبغة "الدولة" بين الإسلاميين والعَلمانيين، في إطار يعرف الترويج لفكرة "الشرق الأوسط الجديد"، كما يشهد صراعا جيوسياسيا وجيواقتصاديا على آسيا الوسطى، وتكاثر الحركات القتالية "الجهادية" وتناحُرها على مشروعية الإعلان عن "الدولة الإسلامية"، وتراجع "تنظيم القاعدة"، مع استغلال الفضاء الرقمي في التحريض الديني، والحرب على الإرهاب وخلق وحوش الارتزاق الحربي الديني، وصناعة "داعش" واعتمادها جيوسياسية الرعب، وتشكيلها تحالفات مع الجماعات القتالية.. "الدولة المتطرّفة" يرى خالد ميار الإدريسي أنّ النقاش سيبقى محتدما بين أطراف متعدّدة في تحديد مفهوم أو صفة "إسلامية" الدولة، وهو الخلاف الحادّ الذي يؤدّي أحيانا، وفق الكاتب، إلى طرح نماذج لمشاريع متطرّفة في إدارة الدولة ومنحها صفة الإسلامية أو ادّعاء "الخلافة الإسلامية"، ثم يسترسل قائلا: "إن هواجس إقامةِ "دولة إسلامية"، استجابةً لفئات عريضة من المتديِّنين في العالم الإسلامي والمطالبين ب"استرجاع العِزّ"، أدّت إلى طرح نماذج متطرّفة في تدبير "الدولة" لا تراعي المقاصد الشرعية للإسلام، ولا تحترم حتى الأخلاق العامة المتّفق عليها بين كافة الناس..فهي تدبير غير عقلاني وغير موافق لروح الشّرع، ومنتهك للكرامة الإنسانية، وغير معتبِر للمآلات الشرعية". وينفي الباحث أن يكون المقصود بمشروع "الدولة المتطرّفة" إدانة صفة "إسلامية الدولة"، ويضيف مفسّرا أنّ فيه إدانة لكل مشروع يدّعي هذه "الإسلامية" وهو بعيد عنها، مؤكّدا في هذا السياق أن الدولة الحقيقية المتوائمة مع روح الشّرع هي التي ترتكز في تدبيرها على الأخلاق الشّرعيّة المرعيّة في سنة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وباقي السلف الصالح، ثم أشار إلى أن الخروج عن الإطار الأخلاقي للتدبير لا يزيح فقط صفة الإسلامية، بل يزيح حتى الصّفة الإنسانية. ويؤكّد ميار الإدريسي أنّ المتمعّن في قيام تجارب "الدول المتطرّفة" لا يمكن أن تخفى عنه فداحة البطش وسوء معاملة الناس وترهيبهم وإهانتهم والتّمثيل بقتلاهم، وهو ما عدّه إستراتيجية للقيادة لا أخطاءَ محاربين، بخطاب يرى ألّا مجال للسلم والحوار والدعوة بالتي هي أحسن، بل يقتل خارج القانون، ويختطِف ويعتقل ويعذِّب، وينتهك في القطاعين الإعلامي والطبي، ويحاصر، ويفجّر، ويضيّق على ساكنة المناطق الواقعة تحت سيطرته، ويبني إستراتيجيته، كما هو حال تنظيم "داعش"، على الارتزاق الحربي، في تدبير سيّئ "مردّه الرّكون إلى الهوى، والتطلّع إلى التَّسَيُّد على الناس، وليس فقط الخطأ والجهل في تقدير الأمور". من دار الكفر والإسلام إلى "دار العطاء الإنساني" يتعيّن الانتقال، حسب الدفتر السابع المنشور ضمن سلسلة "الإسلام والسياق المعاصر"، من براديغم التنافس الشّرس إلى براديغم التعاون المستمرّ، لأن الواقع العالمي حالا ومآلاً سيفرِض منطق تضافر الجهود الدولية لمواجهة التحدّيات الكبرى التي ستواجِهُها البشرية. ويشدّد المصدر نفسه على أن غطرسة بعض الدول مهما بلغت فإنها لن تستطيع الاستمرار في الاعتداء على شعوب العالم؛ لأن عالما قوامه التضامن الإنساني لبقاء العنصر البشري آخذٌ في التشكّل، وهو ما يطالب الدولة الإسلامية بإرساء قواعد جيوسياسية التعارف الإنساني المتوائمة مع روح الإسلام. ويعرّف الباحث هذه الجيوسياسية بكونها "بحثا مستمرا عن فرص التعاون الإنساني، وتبادل المنافع، وتفادي مخاطر الصّدام والاحتقان والهلاك"، دون أن يعني ذلك حتما "عدم الأخذ بأسباب النهوض الحضاري"، بل يرافقها "السعي القوي والدائم إلى تطوير كفاءات التدبير، وكفاءات استيعاب المعارف العالمية، وتوقّع واستشراف المآلات العالمية". ويذكر ميار الإدريسي أن "جيوسياسية التعارف الإنساني" لا تتأسّس على مفهوم دار الإسلام ودار الكفر، لأن هذا التقسيم أضحى غير ممكن على مستوى المجال الجغرافي؛ فالإسلام موجود في كلّ بقاع الدنيا، وهو قابل للتمدّد والانتشار دون مواجهة جيوسياسية؛ وهو ما تقوم معه "جيوسياسية التعارف الإنساني" بالانتقال من "نحن والغرب" إلى "نحن والإنسانية جمعاء"، ومن "دار الكفر ودار الإسلام" إلى "دار الدعوة والاستجابة" أو "دار العطاء الإنساني"، دون أن يكون ذلك بالعنف والقهر والغدر والخيانة والجهل والغباء وتمكين الغير من مبرّرات تمزيق العالم الإسلامي بدعوى الهمجية وعدم التحضّر، مستحضرا في هذا السياق الإمام الشافعي الذي اعتبر الدنيا كلها في الأصل دارا واحدة، واعتبر تقسيمها إلى دارَين أمرا طارئا.. ويشدّد الكاتب على أن سؤال استمرار جيوسياسية الرعب للدولة والدّويلات المتطرّفة لن يدوم إلا إذا تضافرت جهود دول العالَم الإسلامي في مواجهة التطرّف والإرهاب، وانخرطت بشكل حقيقي في تنمية شاملة، وأرست قواعد إدارة الحكم الجيّد، وتضامنَت في صياغة منظومة تربوية وتعليمية قائمة على الاعتدال وتشجيع روح الإبداع، وابتكار سياسات اجتماعية ناجِعة تكفلُ كرامةَ الجميع.