الإمارات تجدد دعمها الكامل لمغربية الصحراء خلال جلسة أممية: خطة الحكم الذاتي أساس الحل النهائي    اعمارة: أنماط التشغيل الجديدة تواجه تحديات غياب التأطير القانوني والحرمان من الحماية الاجتماعية    ردا على ترامب.. خامنئي يؤكد أن "إيران لن تستسلم ولن تقبل أن يفرض عليها سلاما أو حربا"    وهبي: حان الوقت للإقرار التشريعي بمساهمة المرأة في الثروة الأسرية        أردوغان: "نتنياهو تجاوز هتلر في جرائم الإبادة"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    توقيف سيدة بمحطة القطار بطنجة وبحوزتها أكثر من 3000 قرص مخدر وجرعات من الكوكايين    برقية تهنئة من جلالة الملك إلى رئيس جمهورية السيشل بمناسبة العيد الوطني لبلاده    لقجع: 85% من أنشطة المغاربة تشتغل خارج القانون    المغرب ‬يواصل ‬تموقعه ‬بقوة ‬على ‬الخريطة ‬العالمية ‬لصناعة ‬الطيران    الحكومة تدافع عن الوكالة الوطنية للدعم الاجتماعي وتؤكد أنها مؤسسة عمومية مستقلة    احتجاجات مرتقبة أمام وزارة التعليم بسبب الإقصاء من الأثر الرجعي للترقية خارج السلم    الريسوني: من الواجب على المسلمين مساندة إيران في مواجهة العدوان الإسرائيلي    الجيش الإسرائيلي يعلن بدء موجة هجمات جديدة في منطقة طهران    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الافتتاح على وقع الانخفاض    شكوك حول مشاركة مبابي في مباراة ريال مدريد الافتتاحية بكأس العالم للأندية    الصفقات الجديدة تدعم صفوف مانشستر سيتي قبل مواجهة الوداد في مونديال الأندية    المغرب ‬خامس ‬قوة ‬اقتصادية ‬في ‬إفريقيا: ‬مسار ‬تحول ‬ونموذج ‬إقليمي ‬صاعد    بعد أزمة القطيع.. مطالب لمجلس الحسابات بافتحاص أموال وبرامج جمعية مربي الأغنام والماعز    جهة "سوس-ماسة" تسهم ب9.5% من التجارة الخارجية للمغرب وتستهدف تعزيز موقعها التصديري    حجز 8 أطنان من المخدرات بشاطئ أكلو    "أزطا أمازيغ" تنتقد سياسات الدولة وتدعو لاحترام التنوع والعدالة الثقافية    كأس العالم للأندية 2025.. تعادل فلومننزي البرازيلي وبوروسيا دورتموند الألماني دون أهداف    مسؤولو حسنية أكادير يفشلون في الحفاظ على الركائز بعد رحيل الشماخ    الشرعي يدرب "لويسترلو" البلجيكي    "واتساب" ينفي نقل بيانات مستخدمين إلى إسرائيل    مجازر الاحتلال تتواصل.. إسرائيل تقتل 32 فلسطينيا بغزة بينهم 11 من منتظري المساعدات    الرباط.. المحكمة الإدارية تنظر في طلب افتحاص صندوق تقاعد المحامين بمراكش    ارتفاع أسعار النفط في التعاملات الآسيوية    إضراب مفتوح ووقفة احتجاجية لعمال النظافة بشركة أوزون بالفقيه بن صالح بسبب تأخر الأجور    العثور على شاب مشنوق داخل شقة بالحسيمة في ظروف غامضة    تحول "OpenAI" إلى الربحية يشعل الخلاف مع "مايكروسوفت"    من الحرير إلى الشراكة الذكية.. المغرب والصين ينسجان مستقبلًا بحكمة حضارتين    الخليج يحث على التهدئة بين إيران وإسرائيل ويؤكد دعم مساعي الاستقرار الإقليمي    فياريال الإسباني يتعاقد مع لاعب الوسط موليرو لخمس سنوات    التصعيد الاسرائيلي – الإيراني: تأكيد خليجي على ضرورة وقف إطلاق النار ودعم جهود السلام في المنطقة    مشروع سكني بالغرب يجلب انتقادات    كأس العالم للأندية .. قمة إنجليزية مغربية وصدام إسباني سعودي    تأجيل محاكمة محمد بودريقة إلى الأسبوع المقبل بطلب نافيا "أكل الشيك"    عائلة بودراجة تتوعد بالمتابعة القضائية    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    فاطمة الحمامصي… مسار نسائي رائد يُكرَّم في طنجة    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    برنامج "مدارات" يسلط الضوء على مسيرة المؤرخ والأديب الراحل عبد الحق المريني    في المغرب .. الفاشلون يطاردون المتفوقين عبر ساحات التنمر الإلكتروني    طنجة الدولية.. اختبار فرضيتي التحول والتفاعل    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    موازين 2025… أزمة توزيع المنصات تثير استياء الجمهور    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    نصائح ذهبية لحماية المسنين من ارتفاع الحرارة    "أرواح غيوانية" يُكرّم رموز المجموعات الغيوانية ويُعيد أمجاد الأغنية الملتزمة    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        فقدان حاسة السمع يرفع خطر الإصابة بالخرف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انفلات ومسافة إبداعية رُؤَى على دُروب المُمْكنات
نشر في هسبريس يوم 10 - 03 - 2020

هذا هو صاحبي يواصل عمله من الصباح إلى حدود منتصف الليل... وفي أسبوع آخر من الليل إلى المساء...ثم يعود مهرولا إلى بيته، متجنبا الوجوه الزرقاء والأقنعة الصفراء...وهو يخطو بخطوات واسعة كمن يأكل الطريق... وحيدا يمشي في أفكاره، لا يرتاح ولا يهدأ له بال.. حتى يفتح باب بيته...ثم يدلف ليلقي بجسده المنهوك على السرير...غير مكترث بشيء، على الرغم من المصائب التي انهالت عليه دفعة واحدة، والتي لا تأتي فرادى كالمعتاد، فالمعاناة والمكابدة نفسها، اليوم كما الأمس والأيام الماضية، لا شيء يتغير، هو الذي قاسى من عثرات العمل، ومن عثرات الطريق، ورعشة البرد القارس، والنظرات الحاقدة...لذا كان ينام بملابسه وجواربه وحذائه...الكلل والضجر أكلا منه الكثير، لم يعد يعيرُ اهتماما لشيء، يغمض عينيه، يظهر اللامبالاة، يستقر داخل حالته، كأنه منقطع عما حوله، لا يعنيه شيء... لربما طفت على سطح مخيلته تلك الأفكار التي تناسلت من غضب وجور الأيام...ولم يَبُح بشيء...
صاحبي مثل أخي التوأم، كان يهوى السفر، ولم تكن هوايتُه القراءة ولا الكتابة، فهو لم يخط حرفا أوخطا ولن يفعل... ولن يكتبَ شيئا، ولن يحكي أية قصة، ولا يستطيع أن يتبنى أي رؤية سردية، ولا أعتقد بأنه سيبني موقفا، أو سيكتبُ سطراً على حين غرة، وهو مثلُ أبيه الذي لم يكتب خاطرة في حياته بل ولا رسالة، لو سألت زوجته لفضلت الموتَ على كتابة رسالة، فهي أمية عمياء، ولا أحد يكترث، لقد بدأت الكتابة بالتشتت والضياع لهذه الأسرة الصغيرة...فحتى الأطفال الآخرون غادروا المدرسة مبكرا نحو المراعي والمروج، وهكذا مرة أخرى يُقتل الطفل في أحضاني... أم الذي كان طفلا سواي، إنني أتساءل ولست أهدي، مجرد تساؤل ولستُ أدري..؟
ثم ها أنذا أفتحُ عيني حين أفتحها على كثير، ولكن لا أرى أحدا، حتى صاحبي غادرَ ولم ينبس ببنت شفة، ولم يترك رسالة أو كلمة، ثم اقشعر بدني ورحلتُ...
سألت عنه في المستشفيات والشوارع وفي قاع المدينة والزنازن والمقابر... وكم سألت وسألت.
إنه الانتكاسُ والتخاذل بعينه حينَ لا نعبر، أو نَبُوح عما يختلج ويعتملُ في دواخلنا...أو نقل كلمة.. أو حين ننهي حياتنا الإبداعية لمجرد تفاهة، ونحنُ على مسار البداية؟ لكن، ليتك إذ تكتب يا أخي...تكتب عن القبح والجمال، وعن قبح العالم وعن القيم النبيلة والانسانية التي افتقدناها...اكتب كل ما يعن لك، اكتب عن غصص صدرك التي لن يعرفها أحد إن أنتَ لم تكتب، وعن رؤاك التي لن يصدقها أحد، قد نمضي فلا يعرفنا أحد، اكتب وابتسم بلا تصنع...بُح بمكنونك...قل كلمتك وغادر...
أما أنا فسأواصلُ الحفر يا صاحبي عميقا في ذواتنا، بمزيد من الإكبار والعناد، والتنقيح واللقاح لواقعنا وهمومنا، وسأَتَصيدُ الدهشة والغرابة الممزوجة بملوحة الحياة، وسأواصل الحفر لأجل سفر بعيد، وسنركب سفينة الخلاص، بزرع الآمال والأحلام السعيدة، وبعيون حالمة على دروب الممكنات... سأواصل البحث عن كُوات نور، وضوء وفرح هارب.. في عوالم دروب مفتوحة على جراحاتنا المتجددة.. حيث ملح الحياة... وسنشق درب الأمنيات والأحلام ونغلق مآسي الحياة...
لكم كانت أمي -رحمها اللهُ – تُجادلني وتُحذرني من كثرة التعلق بالأحلام، وكان صديقي في غير ما مرة يتشبث بالأحلام، لقد قال لي يوما "إن الناس أمراء عندما يحلمون ومتسولون عندما يستخدمون العقل والحكمة" كما أنني لم أنس قول أحد الأصحاب " أن الإنسان الذي يتوقف عن الحلم يفقد قدرته على أن يستمر في الحياة، وأن الحلمَ الأجمل هو أن تحلُم مع الآخرين، وأن ترى حلمَهُم في حلمك، وأن تفهم أنهم يطمحون إلى ما تطمح إليه" أجل، لكن ولربما صار الواقعُ لا يتسعُ لأحلامنَا، غيرَ أنني موقنٌ بأن الحُلم كما نُريده يكون....
الآن تذكرتُ ما كان يردده صاحبي في الأيام واللحظات الأخيرة قبل أن يغادر، وكان يصيحُ في تخاذل...، ربما طفت على سطح مخيلته الأفكار ذاتها كالمعتاد، كان يقول كلاما متناغما مدويا ومسترسلا كالقذائف، وكأنهُ انفجرَ أخيرا، وكنتُ أصر أنا على ملاحقة ما يقول بكل اهتمام... وكأنني صرت أجتره للمواقف المفاجأة...
كلماتهُ "... أنا لا أحب أحداً، فأحبابي ماتُوا من زمن، بعتهم في المزاد وبالعلن، بعتُهم بلا ثمن، وبلا كفن. أنا مقرف مثلكم، لأننا نعرف ملامس الأفعى، فإنها وإن لانت، فهي تتقلب مثل الأحباب، والأصحاب، والحبال، والزمان، كأي شيء فيه حركة، وفيه "دغل" مثل الحارة، والسيجارة، وكربطة عنق، كأسوار مدينة قديمة، كموسيقى صاخبة، كالوردة الذابلة، ومثل المال، كجناح ذبابة تعبث بها نملة، ككل شيء يورث الإحساس بالملل.
... أنا مقرفٌ، ومقرفةٌ الأيامُ التي جمعتنا، كم هي مقرفةُ كل الحقائق، تبا لكل الآمال، ولكل ماض، وكل آت، لا شيء غير الوهم، فلا ثقة بيننا، إني أحذرك مني ومنك، ومن كل شيء، وأعرف بأنك منافق ومخادع، ومع ذلك أتعامل معك، لأنني ليس لي عنك مهرب، فأنت كالهواء كالنار كالماء وكالتراب. أركلك أشربك أتنفسك ولكن، أحترق حين أتعامل معك! ويا له من تعامل، مستحيل هذا التعامل مع البشر!؟
... أظهر، تختفي، أتسامى، تراوغ، وأموت مسالما في جنون، لي أنخابي معتقة، مضخما بقلق بال، فما أضيعني! يأكلني الاغتراب حتى أقسى التيه، يؤلمني الاجترار، فأجر أقدامي نحو الهاوية! قريبان نحن بعيدان، حبيبان نحن غريبان، مال يجمعنا، فقر يفرقنا، مصلحة تلمنا، غرور يشتتنا، فنضيع...فتعالى لنفرغ عزلتنا، ثم نقفزُ في رحيل الوقت، ومروق المسافات، ففي الغموض ستتمرد سحنات وجوهنا وتصيرُ على هيأة سراب. ثم ها أنذا أترك ظلي يسبقني، يرسم لي الطريق، فأتبعه.
.... ليست هناك سوى الأبواب والوجوه والعيون والأقنعة، وليس لنا قلب واحد، بل قلوب شتى، مثل الواجهات الزجاجية اللامعة المتفرقة هناك، وكأوجه الناس، وكأيام الأسبوع..! ولأنني أحبك سرا وجهرا، فمن الجنان أهديك كل الورد، وأعرف بأني سأزين واجهة ما، لكنني في النهاية: لامحالة إلى القمامة! وأعرف بأنه مهما يمر من ظلام، فالأرض تتسع لكل السعادة، تكني أتساءلُ باستغراب يا صاحبي فبربك! من بدَّلَك؟ من شتَّتَ أمَلَك؟ من قتلَك؟ ألا ما أكفَرك! ولن أُهملَك، ليتسنى للزمان أن يُعلمك! ألاما أعجلَك! ومع كل القَتامة إنك سعيد ومتفائل، ولأنك كالعنبر والسكر، وكالكحل للعيون، ممتد، ممتد، مسافات، فلنقطع الصلات، ماذا عساني أن أفعل!؟ إني أحبك!
كانت هذه كلماته
منذُ أن قالَ صاحبي كلمتهُ ودَّعَ وغادر، ولم يظهر له أثر...كان قد خرج ولم يعد...سألتُ لحظة الساعة المعلقة وسط الصالة، والتي توقفت عقاربها بُرهة، ثم سألتُ عنه في المحطات وسألتُ الغد...ولم يأت. بحثت عنهُ في الدروب في الأزقة والزوايا، في الثلة المتراصة في "الموقف" وفي الغابات، وفي شوارع المدينة المزدحمة، في الممرات وجنب الطرقات، والحدائق وفي الدهاليز، فوق الأرض وتحتها، بحثتُ طويلاً طويلاً طويلاً... في الصياح والعويل والفحيح والنقيق، سألتُ عنهُ الأيامَ الماضية التي لم أظفر منها بشيء، وسألت عنه العائدات المقبلات التي لن أترك فيها شيء، والتي هذه بدايتها، سألت كل غريب ومقيم، سألت كل قادم وسائح وجائل، قيل بأنه لم يمر من هنا، سألتُ وسألتُ سألتُ... وفي خاتمتها لم أظفر بجواب، لا أحد استطاع أن يكشف لي عنه، ولم يجبني إنسان، كلهم غابوا...ثم راحوا إلى المقبرة....وتساءلتُ مرة أخرى، أواهُ...قد مات...ومات الطيبون.
لم أعد أسمعُ الآنَ غيرَ صوته يناديني أينما صوبت نظراتي أو توجهت، تُدوي كلماته في دواخلي مثل الرعد، وتدور كالزوبعة في رأسي... الذي وضعتهُ بين كفي يدي، وكأني أبحثُ عن الخلاص، أبحثُ عمن يوقف هذا الضجيجَ المختلطَ من الأصوات تنادي وتتناهى في سويداء قلبي...غير أن هذا ما تبقى من شدوي وحنيني، وما تبقى من فكري وصرخة روحي، ولم أستطع أن أتطهر أو أتخلص، فقد بقي هناك شيء ما يجثم على صدري... ثم ها أنذا أبحثُ عن من يوقف هذا الضجيج المختلط من الأصوات في ذهني، وقد ازدادت حرائقي التهابا...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.