الحصارُ قد يتخذ أشكالاً متعدّدة. فالهروب من الحربِ والمجاعة والأوبئة لم يكن يوماً قراراً إرادياً، كما أنّ الوقوف أمام دورية الجيش زمنَ الحربِ كان دائماً أهون من تركِ الوطن. هنا في اسطنبول، تشتدّ التّناقضات لكن المأساة واحدة. مأساة مغلفة بملحِ البحر، الذي يرتبطُ هنا بالحلمِ والسّفر وبعقيدة العودة. الشّارع القديم الذي يؤدّي إلى البحر يسكنهُ قليل من النّاس، غالبيتهم قدمَ إلى إسطنبول زمن الحرب. وعندما تشتدّ الحرب في بلدٍ ما، يصيرُ اللّجوء واقعاً يفرضُ نفسه على "الفارّين" من الحصار. وما أشدّ الحصار عندما يكون مفروضاً بالقوّة والغصبِ وعندما يصيرُ قدراً حتمياً، وما أشدّ التّعايش معه ومع المُحاصرين. المساء في اسطنبول حالمٌ، لكنّه في شهر رمضان يصبحُ فيّاضاً بالحنين، يصيرُ الموج المتسلّل من ضيق الأزقّة القريبة من بوابة البحر في متناول اليدِ، خفيفاً ومالحاً. وعند اقترابِ المغيب، يخرجُ الحالمون والمقصيون والمضطهدون والفارون من الحرب والعالقون معاً للتّسلية، بعضهم يلعبُ النّرد تحت أسقف قديمة، وآخرون يتأمّلون فوضى سحابٍ عارٍ يتجوّل في سماءٍ بعيدة. البيوتُ خشبيةٌ تقي من البرد وحبّات الثّلج التي تتسلّل بخفّةٍ لتجد بعضها في فناء المنزل. تقاومُ السّقوط الحرّ من أعلى السّقف، رائحة العطور المحلّية تصنعُ عرشاً من الحنين، زهرة "توليبا" التي لطالما زيّنت عرش السّلطان عبد الحميد أصبحت اليوم رمزاً للجمهورية التّركية. تحرصُ "إليف" وهي امرأة طاجيكستانية، قدمت إلى اسطنبول قبل أكثر من عشرين سنة، على مواجهة "كورونا" بالغناء والرّقص. مع اقتراب المغيب، تطلّ من نافذتها المفتوحِ نصفها على الأفق البعيد علّها تحظى بقليل من نسيم المساء. تروّض سيجارتها برشاقة، ثمّ تمضي في رحلة تأمل. لقد مرّ وقت طويل على القرار الصّعب؛ لحظة ترك الوطن بعدما اشتدّ الجوع وهانَ الجسد، لكنها وجدت في اسطنبول ما هو أشدّ من ذلك، الوحدة والنّسيان. لا تطبّقُ تركيا حظر التّجوال إلا خلال عطلة نهاية الأسبوع، أمّا باقي الأيام فهي عادية وروتينية وتشهدُ خلالها بعض المناطق في اسطنبول ازدحاماً كبيراً، كما أنّ غالبية المواطنين الأتراك لا يضعون الكمامات إلا نادراً، وذلك لمّا يلجون الأسواق التّجارية الكبرى، على الرغم من أنّ معدّل الإصابات تجاوز سقف 110 آلاف. في الأسواق والمحال التّجارية، يشتدّ الاكتظاظ على الأكلات المحلية التقليدية والحلويات التي تزيّن الطّرقات والممرّات الضّيقة. هنا، في سوق العطارين، وسطَ اسطنبول، يمتزجُ الزّيتون بالجبن والتّمر والبسطرمة وحلويات البقلاوة. والملاحظ أنّ جائحة "كورونا" كانَ لها تأثير كبير على عرض باقي المنتجات. ولم يألف الأتراك غياب "المسحراتي" عن حارات اسطنبول والبلدات المجاورة خلال شهر "الصّيام"، بحيث غابت معهُ أجواء رمضان في عاصمة العثمانيين كما يقول كثيرون. والملاحظ أنّ الأتراك يولون اهتماماً خاصاً للمساجد خلال شهر رمضان، ومع دخول أوّل ليلة منه تضاء جميع منارات المساجد عند صلاة المغرب بإضاءات مختلفة وألوان حالِمة.