بركة: انقطاعات مياه الشرب محدودة .. وعملية التحلية غير مضرة بالصحة    الملك محمد السادس يؤكد للأمير تميم تضامن المغرب مع قطر    بنعلي: الحكومة تشتغل على تطوير البنيات التحتية للسيادة الطاقية المغربية    تداولات بورصة البيضاء تنتهي بالأحمر    إيران ترد بقوة على اغتيال عالمها النووي    بين الآلي والإنساني .. "إيسيسكو" تناقش الجامعة في زمن الذكاء الاصطناعي    "إعلان ترامب" يسكت إسرائيل وإيران    ارتفاع الحرارة يثير مخاوف كيبيك    الهلال السعودي يتواصل مع النصيري    الأهلي يتعادل ويغادر مونديال الأندية    الدرك يقتحم "فيلا الماحيا" في الجديدة    إيران وإسرائيل تطويان صفحة الحرب!    عاجل.. ترامب يعلن الاتفاق على وقف كامل وشامل لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران    ترامب: إسرائيل وإيران وافقتا على "وقف تام لإطلاق النار"    أشرف حكيمي يتألق ويقود باريس سان جيرمان لثمن نهائي كأس العالم للأندية بتتويج فردي مستحق    مفتش شرطة يشهر سلاحه لتوقيف شقيقين في حالة سكر هددا الأمن والمواطنين    شقيق مروان المقدم يدخل في اعتصام وإضراب جديد عن الطعام أمام بوابة ميناء الحسيمة    الحسيمة تترقب زيارة ملكية خلال الأيام المقبلة    جمعية تطالب بمنع دخول السيارات والدراجات إلى الشواطئ بعد حادث الطفلة غيثة        أوروبا الغربية تستقبل موسم الصيف بموجة حرّ مبكرة وجفاف غير مسبوق    تعليق مؤقت لحركة الملاحة الجوية في البحرين والكويت كإجراء احترازي في ظل تطورات الأوضاع الإقليمية    نظام أساسي جديد لموظفي الجماعات الترابية    فرنسا تجدد التأكيد على أن حاضر ومستقبل الصحراء "يندرجان بشكل كامل في إطار السيادة المغربية"    مصرع سائق دراجة ناريةفي حادث اصطدام عنيف بضواحي باب برد    الذهب يرتفع وسط الإقبال على أصول الملاذ الآمن مع ترقب رد إيران    27% من القضاة نساء.. لكن تمثيلهن في المناصب القيادية بالمحاكم لا يتجاوز 10%    حموشي: المديرية العامة للأمن الوطني تولي أهمية خاصة لدعم مساعي مجابهة الجرائم الماسة بالثروة الغابوية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    بوريطة يستقبل وزير الشؤون الخارجية القمري حاملا رسالة من الرئيس أزالي أسوماني إلى الملك محمد السادس    توقيع اتفاقية شراكة إطار بين وزارة الشباب والثقافة والتواصل والوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات لتعزيز الإدماج السوسيو اقتصادي للشباب    دعاية هزيلة.. بعد انكشاف مقتل ضباط جزائريين في طهران.. نظام العسكر يُروج وثيقة مزورة تزعم مقتل مغاربة في إسرائيل    ياسين بونو يتوج بجائزة رجل المباراة أمام سالزبورج    بنعلي: لن نتوفر على دينامية في البحث العلمي في الطاقات المتجددة بدون تمويل مستدام        كأس العالم للأندية.. "الفيفا" يحتفل بمشجعة مغربية باعتبارها المتفرج رقم مليون    إشكالية التراث عند محمد عابد الجابري بين الثقافي والابستيمي    بسمة بوسيل تُطلق ألبوم "الحلم": بداية جديدة بعد 12 سنة من الغياب    صديق المغرب رئيس سيراليون على رأس المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا ( CEDEAO)    الشعباني: "نهائي كأس العرش ضد أولمبيك آسفي سيكون ممتعا.. وهدفنا التتويج باللقب"    مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج تنظم المعرض الفوتوغرافي "أتيت من نظرة تَعْبُرُ" للفنان المصور مصطفى البصري    نقابيو "سامير" يعودون للاحتجاج على الموقف السلبي للحكومة وضياع الحقوق    "تالويكاند" في دورته الرابعة.. تظاهرة فنيّة تحتفي بتراث أكادير وذاكرتها    رأي اللّغة الصّامتة – إدوارد هارت    وسط ارتباك تنظيمي.. نانسي عجرم تتجاهل العلم الوطني في سهرة موازين    هذه تدابير مفيدة لتبريد المنزل بفعالية في الصيف    موازين 2025.. الفنانة اللبنانية نانسي عجرم تمتع جمهورها بسهرة متميزة على منصة النهضة    موازين 2025 .. الجمهور يستمتع بموسيقى السول في حفل المغني مايكل كيوانواكا    كأس العالم للأندية 2025.. ريال مدريد يتغلب على باتشوكا المكسيكي (3-1)    موجة الحر في المغرب تثير تحذيرات طبية من التعرض لمضاعفات خطيرة    دراسة تكشف وجود علاقة بين التعرض للضوء الاصطناعي ليلا والاكتئاب    وفاة سائحة أجنبية تعيد جدل الكلاب الضالة والسعار إلى الواجهة    ضمنها الرياضة.. هذه أسرار الحصول على نوم جيد ليلا    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع الأستاذ أحمد القادري الدبلوماسي الأديب
نشر في هسبريس يوم 27 - 03 - 2021


يقول أحد الشعراء:
مَوْرِدُ الموت واضحُ المنهاج ليس حيٌّ من الحِمّام بناجِ
وسواءٌ لديه ثاوٍ بقْفْرٍ أوْ بقصْرٍ مُشيَّدِ الأبراج
على الرغم من الإيمان بأن الدنيا دار غرور وخدع، ومنزل زور وطمع، فإننا نستلذها وننغمس في فلكها، وننبهر بأضوائها، بعيدا عن كل المنغصِّات والمثبِّطات، وكأن في عباءتها راحة وسعادة، واطمئنانا ورضا. وقد لخصَّ أستاذنا عبد الكريم غلاب رحمه الله حبنا للحياة بمؤلف عنوانه: "نحب الحياة"، فالمرء يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلا، لكنها قد تصدمنا من حين لآخر بما يفسد علينا تلك الحياة الهنيئة المطمئنة، فتفاجئنا وتَفْجَأنا بمصير وإن كنا نؤمن به فإننا نراه بعيدا، ألا وهو الموت الذي يحول بيننا وبين ما استطعمناه من رغد العيش الآمن ولذائذه، فهي أي الموت أمر لازم، وحكم جازم لا مفر منه، يشمل النبيل والخامل، والشريف والعاقل، تخبط خبط عشواء كما قال الشاعر زهير بن أبي سلمى:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تُمته ومَنْ تُخْطئْ يُعمَّر فيهرم
لكن قد نعزِّي النفس بما يتركه رحيل كل عزيز أو صديق أو أستاذ كريم من كتابات ودراسات تأسِّياً بقول الشاعر ابن دريد في مقصورته في الحكم والأخلاق الكريمة:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
لكن، هل يعمل بهذه الحكمة كل من آمن بها وصرف جزءا من وقته وفكره لإنعاش ذاكرته بتخليد ما يُذكّر الأجيال به وبما يتركه من كتابات ومدونات وليدة قراءات ودراسات؟ قد تكون سجلا للاتعاظ والاعتبار!، وقد تكون خلاصة تجارب وأفكار! إنه أمر لا يشغل فكر إلا القليل، إذ نجد كل من أبحر في عالم مهني أو حرفي أو في مسؤولية مّا لا يشغله غير عمله ونجاحه فيه، فلا يلتفت إلى القراءة كغذاء للروح وبلسم لكل داء قد يعتريه وهو يقوم بمهمته، أو إلى مغازلة القلم ليحبّر ما يدور في خلده من مشاعر وعواطف في حياته مع أسرته وأصدقائه أو ما يعانيه من متاعب ومشاكل وهو يقوم بعمله تنفيسا عن المضايقات أو الحزازات التي تعترضه حقا أو باطلا.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك من تشغله القراءة ومتابعة الإصدارات والمؤلفات إذ يجد فيها ضالته ومتعته، كما يقول المتنبي:
وأعز مكان في الدجى سرج سابح وخير جليس في الأنام كتاب
ولا شك في أن كل من كان له تكوين أكاديمي متميز سيرشف دون شك من لِبَان تلكم المؤلفات والإصدارات ما يغذي فكره وينمي مداركه في أوقات فراغه، فالقراءة كما سبقت الإشارة غذاء الروح كما يقولون، وإن كان له شغف بالكتابة فلا شك أن تلكم القراءات ستحفِّزه على الكتابة والتحبير حسب توجهاته وميولاته.
وعن هذا الحديث المابعد كما سبقت الإشارة إلى البيت الشعري (وإنما المرء حديث بعده)، سيكون حديثي عن رحيل قامة دبلوماسية وأدبية، لم تشغلها الحياة ولا العمل الدؤوب عن لحظات يخلو فيها إلى نفسه ليترك لنا ما يخلد ذكره بما خطَّه قلمه، وأبحرت به عوالمه وهو في عِزِّ نشاطه وعمله بالكتابة والتدوين والقراءة والتحبير.
من هذه الفئة من المسؤولين الأستاذ أحمد القادري الأكاديمي الذي كرع من علوم اللغة العربية وآدابها الشيء الكثير، كما نهل من الآداب الفرنسية ما تؤكده أعماله في الترجمة وغيرها، فهو حاصل على شهادات في الآداب واللغة العربية وفي الحقوق من جامعة بوردو في الستينيات، مستفيد من دروس ومحاضرات جامعة السوربون بباريس، وهو خريج ثانوية مولاي يوسف في الخمسينيات، ما أهله ليتقن اللغتين معا في صفائهما وإشراقتهما، دون أن أغفل الإشارة إلى تلمذته بمدرسة النهضة وأحد روادها في صحبة روحية مع عمه الأستاذ أبي بكر القادري كما يقول: "فقد بذرت هذه المؤسسة في جيلي عناصر الأصالة المغربية العربية الإسلامية وأذكت في نفوسنا جذوة الشعور والاعتزاز بكرامتنا" ( مؤلفه مع هؤلاء/ 6 )، كما أنه في طليعة الشباب السلوي المثقف الذي شارك مع رفاقه بثانوية مولاي يوسف في مظاهرات 1944 بتوجيه من المناضل المهدي بن بركة.
كان الأستاذ أحمد القادري شغوفا بالمطالعة والقراءة ما نمّى مداركه وحفّزه على مطالعة أمهات الكتب الأدبية ودواوين الشعراء العرب، كالمتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري، ومؤلفات الجاحظ وابن خاقان وابن حيان التوحيدي وابن شهيد وغيرهم، وكان كذلك قارئا للإنتاجات الفرنسية كالرواية والقصة، من ذلك قراءاته لمؤلفات بلزاك وستاندال، كما كان لديوان التأملات ل لامارتين: (تأملات شعرية، تأملات شعرية جديدة) حضور في ذاكرته. ففي هذا الديوان يعرض لامارتين تجاربه الرومانسية، وهي أشبه ما تكون بمذكرات شخصية.. مثل هذه القراءات دعته إلى تفتيح أعين الشباب على مثل هذه المؤلفات عربيها وغربيها من خلال الانخراط في العمل الإعلامي، فعمل على تقديم برنامج أدبي بالإذاعة المغربية يُعنى بالإصدارات والمؤلفات المختلفة سمَّاه "حديث الكتب"، وفيه ينتقي ما يراه مغريا للطلبة والشباب للقراءة والمطالعة سواء باللغة العربية أو الفرنسية، كما كان له برنامج إذاعي حول "التربية السياسية"، التي تُربِّي في القارئ روح المواطنة والعمل من أجل ارتقاء الوطن، مستشفا ذلك من قراءاته ومن مرحلة حياته الطلابية التي كان فيها مناضلا وطنيا، كما كان يعنى بنشر مقالات أدبية وثقافية بجريدة العلم ومجلة الإيمان والرسالة ودعوة الحق وغيرها ( 1955 1966 ).. ولعل شغفه بالقراءة والكتابة ساعده على تأليف كتابين حول حياته كدبلوماسي "من ذكرياتي كقنصل في وهران وقنصل عام في أمستردام" 2011، و"مع هؤلاء: أبحاث ومذكرات" 2001، كما قام بترجمة قصة "سوسنة في الوادي" للكاتب هنري د. بلزاك إلى اللغة العربية، وقد شُغف بها، باعتبارها من أهم القصص الفرنسية، ومن أحب القصص الفرنسية إليه، وصدرت سنة 2007 بالرباط.. ونوه بهذه الترجمة الأستاذ أحمد اليابوري (وهو من مجايليه وأصدقائه) فقال في رسالة إليه: "ذكرتني ترجمتك لسوسنة في الوادي بالتماعات كنت أرصدها دائما في أسلوب كتابتك، لكنها اتشحت في هذه الترجمة الجميلة بأبهى حللها الفنية والأدبية والفكرية".
اشتغل الأستاذ القادري وهو بعد طالب بتدريس مادة الحساب لتلاميذ المرحلة الابتدائية بمدرسة النهضة باقتراح من عمه أبي بكر القادري، وكانت مفاجأة سُرَّ بها وتهيَّب الموقف خوفا من مغبة الإخفاق، لكن المغامرة كُللت بالنجاح، ومن ثمّ نمَّتْ فيه هذه التجربة الرغبة في المطالعة واكتساب المعارف أنّى وجدها؛ وعلى الرغم من حصوله على شهادات جامعية تخول له الالتحاق بأي وظيفة في التعليم أو غيره فقد ظل وفيا لمدرسة النهضة التي سيقضي بها عشر سنوات أستاذا لمادة اللغة العربية والترجمة التي اقترحها لتكوين تلاميذ المدرسة تكوينا مزدوجا كغيرهم من تلاميذ ثانوية مولاي يوسف بالرباط، فيطلعون على المؤلفات الفرنسية وعلى دواوين الشعراء الذين حبَّبوا إليه هذه اللغة التي تفوَّق فيها، كما ساهم في تسيير شؤونها الإدارية بحزم وهدوء، وكان له دور في تربية الذوق الفني عند التلاميذ بتدريبهم على أداء بعض النوبات الموسيقية الأندلسية للمشاركة بها في حفلات آخر السنة الدراسية؛ ولعل ذلك الاهتمام يعود إلى ولعه بالموسيقى العربية والموسيقى الأندلسية بوجه خاص، وساعدته على ذلك ذائقته الفنية، فهو يحسن العزف على آلة العود، وهذا يذكرني بالأستاذ محمد زنيبر الذي كان مغرما بالموسيقى الأندلسية وبارعا في العزف على آلتي العود والبيان.
ويقرر الأستاذ أحمد القادري سنة 1966 الالتحاق بوزارة الشؤون الخارجية ليقضي بها زهاء اثنتين وعشرين سنة، (1966 1988 ) كنائب لمدير إدارة الشؤون القنصلية والاجتماعية، ثم قنصلا بوهران ومسؤولا عن الشؤون القنصلية العامة بهولندا، ثم قنصلا بمدينة لييج ببلجيكا، وسيتوج عمله بهذه الوزارة عند مغادرتها بدرجة وزير مفوض (فاتح يناير 1989).
وعلى الرغم من متاعب العمل القنصلي ومشاكله المتعددة، فقد كان يسعد بالقراءة والاستماع إلى مشاكل المغاربة بهذه الديار، وإلى الحديث عن علاقاته مع سفراء المغرب هناك، والمواقف التي كان ينزعج لها من تصرفاتهم. لم يكن القادري موظفا عاديا عليه إنجاز مهمته فقط، بل كان عينا لاقطة لكل الظروف التي عاشها مع المسؤولين المغاربة وغيرهم من مسؤولي البلاد التي يعمل فيها، متأملا وملاحظا، ومسجلا ما يعكّر صفو مزاجه من التصرفات المزعجة لمسؤولين وإداريين، لكن بصبر وهدوء وانضباط وحسن تقبّل، إلى أن أتيحت الفرصة للتعبير عن ذلك في مؤلفيه الوثيقتين في ما بعد.
ولعله أفادنا وأمتعنا عندما أصدر مؤلفيه السابقين عن مراحل حياته في وزارة الشؤون الخارجية، وهناك سيتعرف على كثير من الشخصيات المغربية التي كانت تقوم بمهمات سياسية وغيرها، وسيتحدث عن أنشطته في القنصلية وعن علاقاته بشخصيات وازنة مغربية وجزائرية، وعن الوفود التي كانت تزور وهران لمهمات سياسية أو لحضور مؤتمرات وغيرها. في أسلوب سلس واضح يطلعنا الكاتب على سلوك بعض المسؤولين وعلى عجرفتهم وسوء تصرفاتهم وما خفي كان أعظم، إلى غيرها من المواقف المربكة؛ فترات استقبال الوفود أو توديعها، وما يدبّره الحاقدون من مكايد لكل مسؤول نزيه، وعامل التملق والتزلف الذي يسيء إلى كل مسؤول شريف... كل ذلك كان يؤلمه ويرى فيه خروجا عن آداب السلوك الإنساني وما دعا إليه القرآن الكريم من تشبث بالقيم الخلقية في أسمى معانيها إلى غير ذلك، وأهم موضوع تناوله كان عن قضية صحرائنا وعرضها على محكمة العدل الدولية في لاهاي، وعن الوفود المغربية والفرنسية التي واكبت جلسات محكمة العدل الدولية، وكذلك عن وفود الصحافيين المغاربة والأجانب الذين حضروا لمتابعة أشغال المحكمة، إلى أن صدر اعترافها بوجود "علاقة بيعة قانونية بين المغرب والصحراء عند سقوطها تحت الاستعمار الإسباني"، وهو في تلك المرحلة متابع للأحداث ومواكب لحضور الوافدين المغاربة والأجانب، مستقبلا ومهتما بضيافتهم في بيته، حريصا على توفير إقامة جيدة لهم بتقدير واهتمام.
وبكثير من الحرقة والألم يتحدث القادري عن واقع المغاربة المهاجرين وعن حياتهم الصعبة في المهجر وعن مشاكلهم مع السلطة، وعن شكاواهم للسيد القنصل عن ظروف حياتهم ولا مبالاة وزارتهم بهم كشريحة اجتماعية اضطرتها الظروف إلى الهجرة لكسب لقمة العيش، هدفهم أن يجدوا الآذان الصاغية للإنصات إليهم وتحريك ملفاتهم وغير ذلك، فكان يفتح باب مكتبه للإنصات إليهم واقتراح الحلول لهم كي يتخلصوا من الخوف الذي يشعرون به وعن الجزع من مواقف الدولة التي هاجروا إليها، فيخفف عنهم وينجز بعض ما يستطيعه كقنصل لبلده، إما بالاتصال مع الوزارة المغربية المعنية أو مع سلطة البلد المضيف، وهو هولندا أو بلجيكا.
ومن الأحداث التي كانت تضايقه وعبّر عن ذلك بكثير من الكياسة اضطراره إلى تلبية دعوات رسمية ولقاءات سفارات صديقة عربية وأجنية، واحتفالات جمعيات أدبية وغيرها، فهو كدبلوماسي عليه أن يستجيب لكل دعوة وجهت إليه؛ "فالضرورة تقتضي أن يلبي أي دعوة لحضور المناسبة بدافع ما تفرضه عليه الوظيفة من لباقة ومجاملة"، كان يتضايق من ذلك لكنه لا يستطيع الفكاك منه.
يذكر القادري عشقه للغة العربية وقراءاته المتنوعة لأدبائها ومؤرخيها فقد تزود كما يذكر بزاد معرفي كبير، ودبّج مقالات كثيرة في مجلات مغربية كدعوة الحق والإيمان والرسالة وجريدة العلم، من ذلك ما كتبه عن ابن شهيد وابن حزم، وعن علال الفاسي في زيارته لوهران، وعن كريستوف كولومب، وعن إدريس بنسعيد في وساطته بين إسبانيا وبطل الريف الخطابي، كما كتب عن ابن عميرة المخزومي وغيرهم.
يقول عن مؤلفه "مع هؤلاء: أبحاث ومذكرات": "فصول متنوعة جمعتها بين دفتي هذا الدفتر الخاص، تشير إلى بعض اهتماماتي وانفعالاتي وارتساماتي، يطيب لي أن أعرضها على العموم كالطفل الذي يعرض لعبه على الأنظار، آملا من الأعماق أن تجد لها قراء يكونون لي بمثابة رفقاء يصاحبونني بعض الوقت".
وعن عشقه لبلزاك يقوم بترجمة روايته "سوسنة في الوادي"، وهي أهم القصص الفرنسية في رأي النقاد اللامعين، كما أنها أحب قصة إليه لهذا الكاتب، يقول عنها: "رواية سوسنة في الوادي قصة غرامية، قصة بسيطة مؤثرة لامرأة طيبة تفنى وتذبل وتموت ولا تنساق مع حبها الأليم لرجل شاب تهيم به". امتازت هذه الترجمة بالدقة في تناول الأحداث وتسلسلها والتفوق في نقل الحوارات التي قد تكون شائكة في النص الفرنسي؛ لكن المترجم كان بارعا في ترجمة الرواية، إذ يحس القارئ بأنها لكاتب عربي، ويعود ذلك إلى تفوقه في اللغة الفرنسية والعربية؛ فكان يحسن نقل الصور والأفكار كما أرادها صاحبها لكن بلغته المشرقة الصافية. وقد صدرت هذه الترجمة بالرباط سنة 2007.
وقد استمتعتُ بقراءة مؤلفاته التي كان يزوِّدني بها فور إصدارها مَمْهورةً بإهداءات تشِفُّ عن نبل صاحبها وتقديره لأي بحث أو عمل أدبي يُثرِي الساحة الفكرية أو الأدبية في المغرب، مؤكدا أن كتاباته ومؤلفاته ما هي إلا وليدة قراءات وازنة لأهم المؤلفات العربية والفرنسية، كما أنها تأملات في الحياة والناس ينشرها تعبيرا عن مشاركته في لبنات بناء هذا الصرح الثقافي في المغرب.
تميزت كتاباته بأناقة في التعبير؛ سلاسة أسلوب، ووضوح فكرة، إشاراتها واضحة، ومبانيها عذبة سائغة، أفصحت عمَّا يحمل قلمه من رؤى وآراء وهو يخوض تجربة دبلوماسي ناجح وكاتب أنيق.
يتميز أحمد القادري كما عرفته بأخلاق سامية؛ يقرن العلم بالتواضع، فهو رجل خلوق، هادئ الطبع، عفّ اللسان، حسن العشرة، يستقبلك دائما بوجه بشوش وترحيب كبير، يحسن الإنصات إلى مجالسيه وحوارهم، يفيدك بأحاديثه المتنوعة في السياسة والاجتماع والأدب بلغة راقية، فلا تملك غير تقديره والإعجاب بشخصيته في كل وقت وحين.
وافته المنيَّة بعد حياة حافلة بالعطاء في ظروف صعبة نعيشها جميعا، هي ظروف الجائحة، ظروف الحجر الصحي والالتزام به، فلم يحظ كما كُنَّا نأمل بوداع يليق به وبشخصيته ومكانته كي نؤدي بعض الواجب المستحق، وليس لنا غير حسن العزاء، وخير الجزاء للفقيد والترحم عليه، والدعاء له بأن يتقبله الله تعالى قبولا حسنا، وأن يغفر له ويعفو عنه ويُكرم نُزُلَه ويوسِّع مُدْخَلَه ويؤنس وحشته ويطيِّب مضجعه، وأن يرزق أسرته وذويه وأصدقاءه الصبر الجميل والتجمّل بالثبات والرضا بقضاء الله تصديقا لقوله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت"، فكلنا إلى فناء، مهما مدّ الأجل في النماء.
كانت وفاته يوم الإثنين 20 جمادى الأولى 1442 / 4 يناير 2021 ودفن بمقبرة حي الرياض بالرباط، رحمه الله وأحسن إليه، إنا لله وإنا إليه راجعون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.