انتهت الحكاية في مصر لكي تبدأ من جديد..لقد تدخل الجيش وتحفظ على محمد مرسي، وكلف رئيس المحكمة الدستورية بإدارة شؤون البلاد بشكل مؤقت إلى حين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.. وبمجرد الانتهاء من تلاوة البيان عمدت أجهزة الأمن إلى محاصرة "ماسبيرو" "مقر الإذاعة والتلفزيون المصري" وأوقفت بث القنوات التابعة للإخوان المسلمين ك"الحافظ" و"مصر 25" و"الناس"، ولم تنس "الجزيرة" طبعا التي اقتحمت مكتبها واعتقلت العاملين فيها..وفي الطريق بين هذا المكان وذاك، وهذا الإجراء أوذاك، لم تنس قوات الأمن المصرية اعتقال بعض من قيادات الإخوان المسلمين وإصدار أوامر بضبط وإحضار آخرين بلغ عددهم صبيحة يوم أمس 300 فردا، ناهيك عن وضع الرئيس رهن الإقامة الإجبارية، ومنع كبار الإخوان والجماعة الإسلامية من مغادرة البلد... كل هذا تم باتفاق وتنسيق بين قوى المعارضة المتمثلة في "جبهة الإنقاذ الوطني"، والمؤسسة العسكرية، ووزارة الداخلية.. أما تعليق كاتب هذه السطور الذي كان مع ثورة 30 يونيو طوال الأسابيع القليلة الماضية فألخصه في عنوان واحد "إنها ديكتاتورية من نوع آخر هذه التي تطل برأسها من مصر مرة أخرى".. ما يحدث الآن في مصر "كلام فارغ"، وديكتاتورية تتاجر بالحداثة ضد ديكتاتورية كانت تتاجر بالدين.. حقيقة يمكنني القول أني أشعر بالكثير من الإحباط، والخذلان، والخزي إزاء هذا الذي يحدث في مصر، لأن الأمور ما كان لها أن تسير إلى ما سارت إليه اليوم من قمع ومنع لطرف سياسي آخر كل مشكلته أنه تيار معارض يملك السلطة...الحداثة والديمقراطية لا علاقة لهما بهذا الذي يصير في مصر.. فالديمقراطية لا تتجزأ ومبادئها لا تتغير، وصوتها لا يقمع إلا إذا كانت حداثة أو ديمقراطية ليبرالية مزيفة لم يفهم أصحابها في مصر شيئا من مفاهيمها النبيلة التي قادت الغرب إلى مجد الحضارة كما نراها اليوم في أعرق ديمقراطيات أوربا وأمريكا. الديمقراطية لا تعتقل المعارضين، ولا تحجر على الإعلام، ولا تكمم الأفواه، ولا تسحب البساط من طرف سياسي يمتلك السلطة لتسلمها لطرف سياسي آخر لكي يستولي عليها..الديمقراطية لا تتاجر بالحداثة لكي تركب عليها من أجل إخراج الصادقين إلى الشارع، كما أن الديمقراطية لم يسبق لها أبدا أن سكنت لا قصورا ولا ثكنات عسكرية.. فالديمقراطية امرأة طاهرة لم يمسسها أحد من الإنس دون الجان إلا وحولها إلى جنة من أجل الجميع.. أقول الجميع... الديمقراطية كائن مسكين في العالم العربي.. إنها أشبه بلعبة أو دمية في أيدي غير أمينة لا تعرف كيفية استعمال أزرارها.. الديمقراطية في بلدان التخلف العربي "وسيلة" لا "غاية" توصل البعض إلى الحكم ليرمونها في أقرب "سلة للمهملات" بعد فراغهم منها..الديمقراطية تشبه كثيرا مراكب طارق ابن زياد، أوصلته إلى الأرض الجديدة فأحرقها وكأنها لم تكن.. كان كاتب هذه السطور في نقاشاته المحمومة مع مؤيدي مرسي الذين كانوا يدافعون عن شرعية صناديق الاقتراع بصفتها من أهم الآليات الديمقراطية كان يقول أن الديمقراطية ليست عبارة عن صناديق اقتراع، ولا حتى انتخابات نزيهة جدا.. فالديمقراطية ممارسة فعلية للسلطة بطريقة ديمقراطية.. وكنت أذكرهم بكل الذين صعدوا إلى الحكم بطريقة ديمقراطية جدا قبل أن يحرقوا الديمقراطية ويؤسسوا لديكتاتوريتهم وشموليتهم القمعية، ولعل أدولف هتلر أبلغ مثال في هذا الصدد وهو الذي صعد بحزبه إلى حكم ألمانيا عبر صناديق الاقتراع ليتحول إلى أسوأ ديكتاتور عرفته البشرية.. نفس الأمر حصل مع محمد مرسي، أول رئيس منتخب لمصر..لقد استعمل هو وجماعته التي تحكم من خلفه الديمقراطية للوصول إلى الحكم بطريقة شرعية اسمها صناديق الاقتراع، ولكنه شيئا فشيئا بدأ يحول نفسه إلى ديكتاتور منقح من خلال الاستيلاء على أهم المناصب الحساسة في الدولة وتوزيع الغنيمة على أعضاء جماعته مقصيا أقرب المتحالفين معه كحزب النور السلفي الذي حاز ربع المقاعد البرلمانية (أي نصف عدد القاعد التي حصل عليها الإخوان). هنا غضب المصريون..صحيح أن الوضع الاقتصادي كارثي، وحالة المواطنين على المستوى المعيشي مزرية، ولكن هذه الأمور لم تكن هي السبب الرئيس في خروج الناس إلى الشارع وميلاد حركة تمرد..لقد كانت الديكتاتورية الجديدة هي السبب... لقد أحس جزء من المصريين أنهم استبدلوا ديكتاتورا بديكتاتور آخر... حركة تمرد أخرجت الناس إلى الشارع فاستولت عليهم "جبهة الإنقاذ الوطني" المعارضة للإخوان، وها هي الآن تركب عليها باتفاق مع المجلس العسكري ليس لإرساء القواعد الديمقراطية في مصر وإعادة الامل للمصريين في القضاء على الشمولية، بل لكي تستولي هي على السلطة، وترمي الديمقراطية التي ستوصلها إلى الحكم في أقرب "سلة للقمامة"، والدليل على ذلك أنها شرعت في تكميم أفواه الإخوان منذ الآن وتطبيق أولى تباشير الديكتاتورية والاستبداد الذي سيحمل ماركة مسجلة أخرى هذه المرة يتاجر بها في صفوف المساكين اسمها "الحداثة" بعد ماركتين سابقتين، استعملتا ببشاعة، أي،"الدين" بالنسبة للإخوان" و"القومية" بالنسبة لنظام مبارك وما قبله. أما الضحايا في كل هذا الهراء فهم متعددون ولكن أبرزهم طبعا هم "المصريون أنفسهم"، و"الديمقراطية المسكينة"، و"الحداثة المفترى عليها"، و،يقينا، مصر... ذلك البلد المسكين. https://www.facebook.com/abdelkrim.elquamch