لم تكن جان دارك، مجرد أيقونة بالنسبة للفرنسيين الطامحين إلى الحرية بما أنها حاربت الاستعمار الانجليزي داخل فرنسا في وقت من الأوقات، ولكنها كانت كذلك لبعض الفقهاء المغاربة الذين جمعوا بين الوظيفة الدينية والوظيفة السياسية إبّان عهد الحماية الفرنسية بالمغرب، ونتحدث هناك بالأساس، عن الفقيه عبد الواحد بنعبد الله، الذي أسهب في الحديث عن السيرة الذاتية لهذه المرأة المناضلة أمام مجموعة من التلميذات المغربيات القريبات من رجال الحركة الوطنية، وذلك في يوم من أيام يناير 1952 بإعدادية مولاي إدريس بفاس التي كانت الإقامة العامة الفرنسية هي المشرفة عليها، وكان بنعبد الله واحدا من المدرسين فيها. جان دارك التي عاشت خلال القرن ال15، مثّلت بالنسبة للفرنسيين "أم الأمة الفرنسية" رغم أنها لم تعش إلا 19 سنة بعد إحراقها حية من طرف سلطات الاستعمار الإنجليزي سنة 1431، فقد قامت هذه الفتاة، بمحاربة الانجليز في الشمال الفرنسي خاصة في مدينة أورليانز، واستطاعت أن تلتقي بالملك الفرنسي شارل السابع وتقنعه بمحاربة الاستعمار فيما عُرف بحرب المئة سنة، إلا أنها سقطت في أيدي البورجينيين -فرنسيين مناوئين لحكام أورليانز- الذين باعوها للإنجليز، ليتم اتهامها بالإلحاد والارتداد عن الدين المسيحي، وكانت عقوبتها أن أُحْرِقَت حية. وبعد 461 عاما على إعدامها، تم إسقاط تهمة الإلحاد عنها وسمّتها الكنيسة الكاثوليكية بالقديسة جان دارك. استشهاد بنعبد الله بهذه المُقاوِمة الفرنسية، لم يأت من فراغ، فقد كانت جان دارك، من أكثر الداعين إلى الحفاظ على الدين المسيحي وعلى الملكية الفرنسية، وهي من ألهمت ساكنة فرنسا بالمقاومة المسلحة قصد طرد الانجليز، لذلك أراد بنعبد الله أن تؤثر قصتها على التلميذات المغربيات وأن يتشبعن بثقافة المقاومة حتى ولو كان النموذج قادما من بلاد المستعمر. ورغم كونه فقيها متشبعا حتى النخاع بالثقافة الإسلامية، فحديثه عن جان دارك، أكد أن الحركة الوطنية في ذلك الوقت، كانت منفتحة على الثقافات العالمية وعلى تفكير عصري يستفيد من كثير من النماذج الغربية إن ثبت أن لها علاقة بالنضال ضد سلطات الحماية الفرنسية، لذلك فالوجود الفرنسي بالمغرب، ورغم كل سلبياته، فقد مكّن المغاربة من معرفة ثقافات أخرى والانفتاح على تجارب تساعدهم على الفهم الحقيقي للأوضاع. عندما بلغ سلطات الحماية خبر إسهاب بنعبد الله في الحديث عن رمز أمتهم، غضبوا كثيرا على 'اقتحام' تاريخهم، وقرروا معاقبة الفقيه المغربي لأنهم لم يتعودوا أن يستشهد مسلم ما ب"عذراء أورليانز" كي يؤجج الروح الوطنية في بلاده، هكذا حكم المقيم العام الفرنسي آنذاك، الجنرال غيوم، على بنعبد الله بسنة ونصف سجنا نافذا، وتم اقتياد الأستاذ المغربي إلى السجون بتهمة الإساءة إلى فرنسا، فرغم أن فرنسا ادعت أنه لا تريد من وجودها في المغرب إلا حماية مؤسساته، إلا أن واقع ممارساتها، أكد أن وجودها هو نوع من الاستعمار الذي كان سائدا في ذلك الوقت. اعتقال بنعبد الله في وقت نمت فيه الحركة الوطنية وصارت المطالبة بالاستقلال على كل لسان حر، أجّج مشاعر الغضب لدى الكثير من الوطنيين، الذين احتجوا على ما قام به الجنرال غيوم، ومن بينهم علال الفاسي، الذي كان في ذلك الوقت، منفيا بالقاهرة، حيث كتب رسالة إلى بابا الكنيسة الكاثوليكية، يقول لها فيه، حسب ما نشرته مجلة زمان: "إن المقيم العام الفرنسي بالفرنسي، والذي يصوّر نفسه كاثوليكيا، يسيء بشكل كبير إلى الديانة المسيحية عندما يقوم بالتضييق على المسلمين بالمغرب، فقد سجن أستاذا مغربيا، بسبب أنه تحدث عن جان دارك، رغم أن الاستشهاد بهذه الأخيرة يعتبر مثالا فصيحا لصدق الإيمان الذي تحث عليه جميع الشرائع السماوية. لقد أساء غيوم إلى الثقافة الفرنسية والكولونيالية وعليه أن يُعاقب لذلك. سيكون من العدل، لو تتدخلون، من أجل وقف التضييق على المسلمين من فرنسيين يقولون إنهم ينتمون لكنيستكم". لم يجب البابا على رسالة علال الفاسي، لكن الوطنيين لم ينتظروا تدخله لمباشرة احتجاجاتهم ضد اعتقال بنعبد الله، حيث خرج الكثير من مواطني مدينة فاس احتجاجا على قرار إدانته، وتنامى الشعور العدائي ضد السلطات الفرنسية في الإعداديات والثانويات، لتجد الإقامة الفرنسية نفسها مجبرة على إطلاق سراحه بعد مرور أربعة أشهر على سجنه، حيث كتب الكاتب المغربي مصطفى بوعزيز في مقال له بمجلة زمان عن نفس الموضوع:" قضية بنعبد الله أعطت بُعدا عالميا للمقاومة المغربية لأجل الاستقلال، كما قسّمت الرأي العام الفرنسي وجعلت فئة واسعة منه تتضامن مع المغاربة وتتخلى بالمقابل عن تأييدها لممارسات الإقامة العامة بالمغرب".