داخل قسم بمدرسة ابتدائية، وسط حي "شماعو"، التابع للدائرة الانتخابية تابريكت بمدينة سلا، وجد المكلفون بفرز أصوات الناخبين في الاستحقاقات التشريعية، عشية الجمعة 25 نونبر 2011، ورقة انتخابية، كَتَبَ عليها واحد من الذين أدلوا بأصواتهم، الجملة التالية: والله لا فْرَحْتُو بْصَوْتي يا الشفارة. الجملة الغاضبة لم تكن تعبيرا معزولا ولا منفردا يعبر عن السخط، فقد سبق لعدد من المواطنين و الهيئات المهتمة بتخليق الحياة السياسية أن عبروا عن امتعاضهم من استمالة أصوات الناخبين عن طريق الأوراق النقدية بدل الأوراق المذهبية و البرامج الحزبية التي تعد العملة الشرعية الوحيدة و المطلوبة للتنافس في "سوق" الانتخابات أمام نوايا تخليق رسمية لم تجد ترجمتها كاملة في الواقع. حرمت الغش على نفسي.. في مثل هذه الأيام و بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لانطلاق المسيرة الخضراء ، وجه الملك الراحل الحسن الثاني خطابا، قال فيه "..ما ينتظرنا هو جهاد النفس، وكبت الشهوات، والابتعاد تماما عن كل ما من شأنه أن تشم فيه رائحة التدليس أو الغش". الخطاب الذي كان يدعو فيه العاهل المغربي، ذات جمعة من سنة 1992، الى تخليق العملية الانتخابية استعمل فيه تعبيرا دالا و مليئا بالرمزية من خلال صياغة لغوية شبيهة بأحد الأحاديث النبوية القدسية، قائلا "إنني حرمت الغش على نفسي، وجعلته حراما بينكم.. فحرام عليكم أن تحاولوا الغش، أو أن يحاول أحد منكم الغش في مسؤولية كمسؤولية الانتخابات، لا من الناخب ولا من المنتخب، لان عاقبة هذا الأمر سترجع على الجميع." مر خطاب الملك ومعه مرت عملية انتخابية مليئة بالخروقات و الرشاوى، بشهادة أحزاب عديدة وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الاستقلال، التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وهي الأحزاب المشكلة لتكتل معارض كان يحمل إسم "الكتلة"، تحت سمع وبصر وزارة الداخلية، المشرفة على العملية والتي كانت توصف بأم الوزارات آنذاك. انقضت أزيد من عشرين سنة فأتى الملك محمد السادس الى قبة البرلمان، في يوم جمعة أيضا، من أجل افتتاح الدورة التشريعية الثالثة من الولاية التاسعة للبرلمان، شهر أكتوبر الماضي. خص العاهل المغربي للتدبير الجماعي بمدينة الدارالبيضاء حيزا مهما من كلمته و انتقد المنتخبين معتبرا أن أداءهم هو السبب الرئيس في بقاء العاصمة الاقتصادية " فضاء للتناقضات الكبرى إلى الحد الذي قد يجعلها من أضعف النماذج في مجال التدبير الترابي". عدد من المحللين وجدوا أن مؤخذات رئيس الدولة وغيرها من الاشكالات التي تعانيها الجماعات الترابية مرده نخب حزبية فاسدة وصلت الى مراكز القرار الانتخابي بفضل المال لا بفضل الكفاءة مع تسجيل ملاحظة أساسية مفادها أن الولاة، و الذين يعينون في كبريات المدن المغربية باشراف مباشر من القصر، يتحملون جزء من المسؤولية في عدم القدرة على الإجابة على أسئلة الديمقراطية و التنمية داخل هذه الوحدات الترابية. رشاوى أم مهن إنتخابية؟ الفساد الانتخابي في المغرب أشبه بالهواء، نعلم حقيقة وجوده لكننا لا نراه، يقول أستاذ مكلف بتكوين الملاحظين الانتخابيين بأحد ورشات التكوين، شهر نونبر 2011، كما أن قياس الفساد الانتخابي بلغة الأرقام ليس أمرا هينا طالما أن المساهمين فيه ليسوا بالمتعاونين أو ممن يدلون بالمعلومة للصحفيين، غير أن المنظمة العالمية للشفافية، وهي هيئة ذات تاريخ محترم في مجال محاربة الفساد، تعتمد ثلاثة معايير تقوم بتحديثها سنوياً لقياس الفساد أولها مؤشر إدراك الفساد، القائم على آراء الخبراء حول أحوال البلدان الفاسدة، والبارومتر العالمي للفساد، القائم على استطلاعات مواقف المواطنين وتجربتهم مع الفساد، واستقصاء أراء دافعي الرشا الذي يبحث في استعداد الشركات الأجنبية لدفع الرشاوي. هسبريس حاولت ملامسة الموضوع الشائك مع بعض المنتخبين، على بعد سنة تقريبا من الانتخابات الجماعية، وفق تصريح التقنوقراطي محمد حصاد، وزير الداخلية الجديد.جل المستجوبين رفض الحديث و بعضهم قال إن أياديه كانت دائما بيضاء والقليل منهم قبل الخوض في الموضوع مشددا على الحفاظ على سرية هويته. شغل ع.ب رئاسة أحد أكبر المقاطعات بالدارالبيضاء لولاتين كاملتين و بالإضافة لمسؤوليته في مجلس محلي ترأس إحدى أهم اللجان داخل مجلس النواب، ممثلا لحزب الحركة الشعبية. في لقائه بهسبريس اعترف رئيس المقاطعة أنه استعمل المال من أجل شراء ذمم الناخبين في الانتخابات الجماعية و التشريعية بداية تسعينيات القرن الماضي "كنا نشتري الأصوات بدون أدنى مشكل وكان مسؤولو الإدارة الترابية ووكلاء الملك يتسامحون.." ع.ب قال إن طرق الإرشاء أصبحت تتطور مع مرور السنوات و تطوير الدولة الطفيف للقوانين الزجرية في مدونة الانتخابات "أصبحت أشغل 500 فرد من دائرتي الانتخابية طيلة الحملة الانتخابية بمبلغ 200 إلى 300 درهم لليوم و عندما يسألني أحدهم أجيبه أن هذه مهنة انتخابية لا تشوبها شائبة.. غير أني أحرص على تشغيل المسجلين في اللوائح التابعة لدائرتي معتمدا على الأسر الأكثر فقرا وعددا داخل سجلات الناخبين" يقول المستجوب. بمناسبة انتخابات 25 نونبر 2011 تقدم مقاول شاب، يشغل رئاسة مجلس محلي بأحد أقاليم الجنوب الشرقي إلى الاستحقاقات التشريعية حيث فاز بمقعد نيابي باسم حزب التجمع الوطني للأحرار. عن سؤال لهسبريس حول الرشوة في الانتخابات يقول النائب الجديد "جل المرشحين الفائزين فازوا باستعمال المال إلا مرشحي تنظيم حزبي واحد والمحظوظون الذين وضعت أسماءهم في مقدمة اللوائح الوطنية للشباب و النساء.." الشاب الذي أمضى سنتين في الغرفة الأولى ينكر استعماله للمال بشكل مباشر غير أنه يعترف باستعمال ميزانية ومشاريع مجلسه المحلي لإغراء من صوتوا لصالحه ومعاقبة القرى التي لم تكن في صفه، وفق ما أدلى به لهسبريس. فساد بأرقام رسمية بين النوايا المعلنة في خطاب الملوك والساسة عموما وممارسات الكثير من المنتخبين الذين جعلوا من الفساد السياسي طريقا سالكا لعضوية المجالس. تحاول النصوص القانونية ضبط هذه الآفة التي تغذيها عوامل مرتبطة بالفقر والأمية وثقافة مطبعة لا تنظر الى الرشوة كجريمة. مكنت السلطات ملاحظي المجلس الاستشاري لحقوق الانسان (المجلس الوطني حاليا) و النسيج الجمعوي من تتبع العملية الانتخابية الأخيرة بالمغرب و أجبر المرشحون على الإدلاء بتقرير حول النفقات المحدد سقفها سلفا كما تضمن القانون الجنائي و مدونة الانتخابات قوانين زجرية رادعة للرشوة.. غير ان معظم المبادرات التشريعية في هذا المجال بقيت قاصرة بشهادة مؤسسات رسمية ومنظمات غير حكومية. الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، رأت أن من نواقص سياسة مكافحة الفساد الانتخابي بالمغرب اعتبار المشرع للرشوة، في المدونة الانتخابية، جنحة بسيطة لا تستلزم، رغم خطورتها، سوى الاكتفاء بعقوبة حبسية من 6 أشهر إلى سنة وغرامة تتراوح بين 5آلاف و 20ألف درهما. تشخيص الهيئة الذي أجري، بعد الانتخابات الجماعية الأخيرة و الذي يحمل عنوان "مكافحة الفساد الانتخابي والسياسي بالمغرب" خلص إلى أن ممارسة الفساد الانتخابي ظلت سلوكا ملازما لكل المحطات الانتخابية منذ 1997 إلى غاية 2009، حيث تراوحت معالمه بين أفعال الرشوة والترحال الحزبي واستعمال الأموال القذرة واستخدام الممتلكات العمومية والتلاعب في البطائق الانتخابية والتدخل غير المبرر للسلطة. أبو درار ورفاقه لا يقفون عند الحد، بل يقدمون معطيات يعتبرونها مظاهرا لاستفحال هذا الفساد و النموذج هو الانتخابات الجماعية ل2009، التي توصلت بمناسبتها الهيئات القضائية بما مجموعه 900 شكاية فساد انتخابي، إضافة إلى إصدار 56 قرارا من طرف المجلس الدستوري ما بين 1997 و 2009 يخص إلغاء مجموعة من العمليات الانتخابية على خلفية ما شابها من تجاوزات ذات صلة بأفعال الفساد. الهيئة أكدت في نفس التقرير على الطابع المستمر للتجاوزات المتعلقة بالمناورات التدليسية وشراء الذمم وتوزيع الأموال والهدايا لاستمالة الناخبين عبر المحطات الانتخابية، الأساسية 2002،1997 و2009. بالمقابل تم تسجيل تراجع ملحوظ في التجاوزات ذات الصلة بالإشراف على العملية الانتخابية كتوقيت الاقتراع، اللوائح، المحاضر و مكاتب التصويت بين استحقاقي 1997 و2007. الملاحظة الأخيرة لم تنفيها "ترانسبرانسي – المغرب" في تقرير أنجزته المنظمة غير الحكومية حول الانتخابات التشريعية لسنة 2007 و المنشور على الموقع الرسمي للمنظمة بتاريخ 12 شتنبر من نفس السنة. في المغرب يطرح عدد من الفاعلين الحزبيين، هذه الايام، أسئلة حول الانتخابات الجماعية، المفترض تنظيمها سنة 2015، غير أن الغائب الكبير في كل هذا "اللغط" هو سؤال النزاهة الذي لا تجيب عنه القوانين، وحدها، مهما بلغت أهمتيها. فهل يفيد النخب الممثلة في المجالس المحلية، الآن، طرح سؤال التخليق بالإلحاح المطلوب؟