"كان" السيدات.. الناخب الوطني يكشف تشكيلة المنتخب المغربي لمواجهة مالي    الحسيمة.. انقلاب سيارة تقودها مهاجرة بهولندا ببوكيدان يخلف إصابات    رياض مزور يكشف التحول الصناعي نحو الحياد الكربوني    وليد كبير: بيان خارجية الجزائر ضد الاتحاد الأوروبي ليس أزمة عابرة.. بل تعرية لنظام يحتقر المؤسسات ويخرق القانون الدولي    بعد 14 سنة من الغياب.. يوسف العربي يعود رسميا إلى "الليغ 1"    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    أخنوش : التنظيم المشترك لكأس العالم 2030 عامل تسريع لتحول استراتيجي للمغرب    مجلس المستشارين يعقد جلسة عامة سنوية يوم الثلاثاء المقبل    جمعية أبناء العرائش بالمجهر تتضامن و تنتقد تغييب المنهج التشاركي في تنفيذ مشروع الشرفة الأطلسية والمنحدر الساحلي بمدينة العرائش    إشارة هاتف تقود الأمن إلى جثة الطبيبة هدى أوعنان بتازة    انطلاق الموسم الصيفي لصيد الأخطبوط عقب فترة راحة بيولوجية    التنظيم المشترك لكأس العالم 2030 عامل تسريع لتحول استراتيجي للمغرب (أخنوش)    أخنوش: التنظيم المشترك لمونديال 2030 عامل تسريع لتحول استراتيجي للمغرب    ميناء الحسيمة : انخفاض طفيف في كمية مفرغات الصيد البحري خلال النصف الأول من العام الجاري    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    390 محكوما ب"الإرهاب" بالمغرب يستفيدون من برنامج "مصالحة"    نادي الهلال السعودي يجدد عقد ياسين بونو حتى 2028    البيت الأبيض يكشف: ترامب مصاب بمرض مزمن في الأوردة الدموية    بأمر من المحكمة الجنائية الدولية.. ألمانيا تعتقل ليبيا متهما بارتكاب جرائم حرب وتعذيب جنسي    اتحاديو فرنسا يرفضون إعادة إنتاج "الأزمة" داخل الاتحاد الاشتراكي    حرارة الصيف تشعل أسعار الدجاج وتحذيرات من الأسوأ    إحداث أزيد من 6200 مقاولة مع متم ماي الماضي بجهة الشمال    سقوط من أعلى طابق ينهي حياة شاب في طنجة    كيف يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الكتاب والأدباء والإعلاميين وصناع المحتوى..    حرب خفية على المنتجات المغربية داخل أوروبا.. والطماطم في قلب العاصفة    اشتباكات بين عشائر ومقاتلين "دروز"    ترامب يهدد صحيفة أمريكية بالقضاء    حزمة عقوبات أوروبية تستهدف روسيا    إحباط تهريب الشيرا ضواحي الجديدة    قاضي التحقيق يودع ثلاثة موظفين سجن عكاشة بملف سمسرة قضائية        "أنا غني".. سجال هاشم يستعد لإشعال صيف 2025 بأغنية جديدة    مدينة تيفلت تفتتح سهرات المهرجان الثقافي الخامس بباقة موسيقية متنوعة    دراسة: الذكاء الاصطناعي يحول تخطيط القلب العادي إلى أداة فعالة لاكتشاف عيوب القلب الهيكلية        رحيل أحمد فرس.. رئيس "فيفا" يحتفي بالمسيرة الاستثنائية لأسطورة كرة القدم الإفريقية    لوفيغارو الفرنسية: المغرب وجهة مثالية لقضاء عطلة صيفية جيدة    افتتاح بهيج للمهرجان الوطني للعيطة في دورته ال23 بأسفي تحت الرعاية الملكية السامية            جيش الاحتلال الصهيوني يواصل مجازره ضد الفلسطينيين الأبرياء    بعد تشخيص إصابة ترامب بالمرض.. ماذا نعرف عن القصور الوريدي المزمن    "مهرجان الراي للشرق" بوجدة يعود بثوب متجدد وأصوات لامعة    محمد أبرشان كاتبا إقليميا للحزب بالناظور، وسليمان أزواغ رئيسا للمجلس الإقليمي    ميتا تخطط لتطوير ذكاء اصطناعي يتجاوز قدرات العقل البشري    سانشيز: "الهجرة تساهم بشكل إيجابي في الاقتصاد الإسباني"    بطولة إيطاليا: انتر يسعى لضم النيجيري لوكمان من أتالانتا    فرحات مهني يُتوَّج في حفل دولي مرموق بباريس    البيت الأبيض يعلن إصابة ترامب بمرض مزمن    "حزب الكتاب" يدافع عن آيت بوكماز    وزير الثقافة يعزي في وفاة الفنانين الأمازيغيين صالح الباشا وبناصر أوخويا    وداعا أحمد فرس    دراسة تكشف العلاقة العصبية بين النوم وطنين الأذن    زمن النص القرآني والخطاب النبوي    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقتضيات «الحج المبرور»
نشر في هوية بريس يوم 16 - 09 - 2014


هوية بريس – الثلاثاء 16 شتنبر 2014
خلقنا الله لعبادته ونوع لنا أشكال العبادة حتى ننتقل من خير إلى خير من غير كلل ولا ملل، وهيأ لنا مواسم للطاعات حتى يتنافس المومنون في تحصيل القربات والحسنات، فبعد موسم رمضان والليالي العشر من رمضان تأتي عشر ذي الحجة المباركات، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى الله مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبيلِ الله؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبيلِ الله، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذلِكَ بشَيْءٍ». أخرجه أبو داود والترمذي.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره).
ولا شك أن من أعظم تلك الشعائر حج بيت الله الحرام والذي قال فيه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
فما هو الحج المبرور؟
وما هي آثاره وثماره؟
وكيف يكون التحقق بالحج المبرور؟
مفهوم الحج المبرور ومقاصده:
قال الإمام الْقُرْطُبِيّ في شأن الحج المبرور: "أَنَّهُ الْحَجّ الَّذِي وُفِّيَتْ أَحْكَامه وَوَقَعَ مَوْافقا لِمَا طُلِبَ مِنْ الْمُكَلَّف عَلَى الْوَجْه الْأَكْمَل" (نقله ابن حجر في "فتح الباري").
فالحج المبرور هو ما استوفى أحكام الحج، وتعمق أثره في نفس الحاج على الوجه الأكمل، وهو الحج الذي تحققت معه مقاصد هذه العبادة من توحيد لله عز وجل والمأمور به في مثل قوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة" (البيّنة:5).
ومن مقصد ذكر الله سبحانه وتعالى وهو ما يتجلى بوضوح في سيد أذكار الحج "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لكل والملك لا شريك لك"، وعموم العبادة المحضة بلبّ المحبة والخضوع والاستسلام في مثل الطواف والسعي، والوقوف بعرفة، ورمي الجمرات، ونحو ذلك؛ وإقامة الدين وتعظيم شعائره، واللجوء إلى الله تعالى بإلحاح بالدعاء، وإظهار الذل والافتقار إليه، والتجرد من كثير من مظاهر زينة الحياة الدنيا، واستحضار مظاهر الحشر، والشعور بوحدة الأمة وتبادل المنافع بينها وعمق أواصر أخوتها، ونحو ذلك من المقاصد الكثيرة.
ومما يذكر من أحوال السلف الصالح في الحرص على تعظيم شعائر الله في مثل هذا الموسم ما كان من أنس بن مالك -رضي الله عنه- حيث إذا أحرم لم يتكلم في شيء من أمر الدنيا حتى يتحلل من إحرامه.
ولما أحرم الحسن بن علي -رضي الله عنه- واستوت به راحلته أصفر لونه وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: مالك؟ فقال أخشى أن يقول لي: لا لبيك ولا سَعْدَيْك!! فتعظيم شعائر الله دليل التقوى والصلاح، قال تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (الحج:32).
أهمية وفائدة وثمرة الحج المبرور:
تعتبر فريضة الحج ركنا عظيما في الدين وفرضا جليلا من فرائض الإسلام، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (جهاد في سبيل الله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور)"متفق عليه.
فهو موسم الخيرات، وفرصة عظيمة لمحو الخطايا والسيئات. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد" (رواه أحمد وقال فيه أحمد شاكر إسناده صحيح وضعفه غيره).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه).
وهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- حين لامس الإسلام شغاف قلبه، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبسط يمينك فلأبايعْك، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، فقبض عمرو يده، وقال عليه الصلاة والسلام: (مالك يا عمرو)، قال: أردت أن أشترط، قال صلى الله عليه وسلم: (أتشترط بماذا)، قال: أن يغفر لي، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله) "رواه مسلم".
وجاءت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لكُنّ أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور)، قالت: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري.
فالحج المبرور طريق مضمون بإذن الله تعالى إلى جنان الرحمن، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) "متفق عليه".
كيف نتحقق من الحج المبرور؟
حسن الاستعداد قبل الذهاب:
من علت همته وتطلعت إلى الفوز بالحج المبرور، شمر على ساعد الجد لتعلم هذا المنسك العظيم بأركانه وواجباته وسننه وآدابه وموانعه ومحظوراته ومبطلاته وقبل ذلك طبيعة النيات والمقاصد التي يجب أن تتجرد لله وحده، كما ولابد له من توبة نصوح يرد بها الحقوق الى أصحابها أو ما تيسر له من ذلك ويعزم ألا يعود لحال التقصير والعصيان، ويوصي بالخير في أهله وماله بما يحفظ دينهم وحقوقهم وحقوق غيرهم.
ومن الاستعداد للحج المبرور تطييب نفقته في الحج بحيث تكون من المال الحلال والكسب الذي لا شبهة فيه، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وقد قيل:
إذا حججت بمال أصله سحت***فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل صالحة***ما كل من حج بيت الله مبرور
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب.ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك).
وقد روى الترمذي وقال: (حديث حسن) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: قال: «جاء رجلٌ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إِني أُرِيدُ السفر، فزَوِّدني، قال: زَوَّدك اللهُ التَّقوى، قال: زِدني، قال: وغفر ذَنبَكَ، قال: زدني، -بأبي أنتَ وأُمِّي- قال: ويَسَّرَ لك الخير حيثما كنتَ». ولا شك أن الحج أولى بهذه الحال وبهذا التوجيه والاحتياط والإحساس والشعور ودعاء التوديع.
الاجتهاد في إتقان الأداء:
فلا يقصد المرء بحجه رياء ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخرا ولا خيلاء ولا يقصد غير وجه الله تعالى ورضوانه ويحرص على التواضع في حجه والخشوع والخضوع لربه. فلا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا صوابا وليحرص على أعلى درجات التقوى والإحسان والمجاهدة وشكر الله على ما وهبه من فضله ونعمه، فيستحضر في حجه قول ربه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162].
ثم الإتيان بحجه على الوجه الأكمل، فقد بين النبي صلى الله مناسك الحج للأمة قوليا وعمليا في حجة الوداع وقال هناك (خُذُوا عَني مَناسِكَكُمْ، لا أدري لَعَلَّي لا أَحُجُّ بعد حَجَّتي هذه) أخرجه مسلم.
فيحرص الحاج على صحة مناسكه، ولا بأس إن لم يكن معه هاد مرشد يتقن المناسك أن يحمل معه دليلا مكتوبا لمختلف الخطوات بترتيبها وتفاصيلها وأدعيتها وآدابها وسننها حتى لا يضيع شيئا مما يقدر عليه، فقد تكون تلك حجة العمر وقد لا يتاح له غيرها، فمناسك الحج مما يمكن أن تنسى ويغفل عن بعض تفاصيلها حتى على العلماء لقلة مزاولة هذه الفريضة وضعف ممارستها عند الأكثرين فوجب الاحتياط والانتباه والالتصاق بالعلماء الممارسين لها والاستعانة بما يذكر من مكتوب ونحوه.
ومن حسن الأداء كثرة ذكر الله تعالى والاشتغال به في عامة الأحوال، فقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة:198-200).
ومن مواطن الإكثار من الذكر حال الإحرام بالتلبية والتكبير، ففي سنن الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أفضل الحج العج والثج] والعج: هو رفع الصوت بالتكبير والتلبية، والثج: هو إراقة دماء الهدايا والنسك.
ومن ذلك الإلحاح على الله بالدعاء، فالحج من المواطن التي يرجى فيها إجابة الدعاء، فيلح العبد على الله تعالى بالدعاء، له ولأهله ولأمته، ويتحرَّى أوقات الإجابة ومواطنها، مثل الصفا والمروة ورمي الجمار وعند المشعر الحرام، وأجلها وأعظمها في يوم عرفة.
فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يُعْتِقَ الله فيها عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟) "رواه مسلم"، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ هَؤُلَاءِ حَيْثُ تَرَكُوا أَهْلَهُمْ، وَأَوْطَانَهُمْ، وَصَرَفُوا أَمْوَالَهُمْ، وَأَتْعَبُوا أَبْدَانَهُمْ، أَيْ: مَا أَرَادُوا إِلَّا الْمَغْفِرَةَ، وَالرِّضَا، وَالْقُرْبَ، وَاللِّقَاءَ.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) "رواه الترمذي".
ثم استغلال الحاج لوقته الغالي النفيس في التزود بالحرص على الصلوات الخمس حيث ينادى عليهن ويحذر تضييع الأوقات في التسوق وكثرة التجول وثرثرة الكلام في البيوت والغرف، فيمكن تأجيل ما يتعلق بالهدايا إلى آخر أيامه وعهده بالبيت الحرام عوض أن يقتطع من كل يوم جزءا، فمن أين له بفضل مائة ألف صلاة في كل صلاة بالبيت الحرام وألف صلاة لكل صلاة بالمسجد النبوي، فساعات الحج محدودة وأيامه معدودة. والكيس من ملأها طاعة وذكرا ودعاء وتلاوة لكتاب الله تعالى ودعوة ونصحا وتعليما وتذكيرا ونحو ذلك من الطاعات والقربات.
ومن مقتضيات الحج المبرور اجتناب ما لا يناسب المقام من أفعال الإثم والرفث والفسوق والعصيان، قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة:197).
وفي الحديث الصحيح: [من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه] رواه البخاري ومسلم.
ويجتهد في حسن معاملة الناس والتحلي بالأخلاق الحسنة ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البر؟ فقال: [البر حسن الخلق]، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إن البر شيء هين: وجه طليق وكلام لين". والحج في معظمه سفر وسمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.
ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا جري جابر بن سليم الهجيمي حيث قال: "لا تَحْقِرَنَّ شيئًا مِنَ المعروفِ أنْ تَأْتِيَهُ؛ ولَوْ أنْ تَهِبَ صِلَةَ الحَبْلِ، ولَوْ أنْ تُفْرِغَ من دَلْوِكَ في إِناءِ المُسْتَسْقِي، ولَوْ أنْ تَلْقَى أَخَاكَ المُسْلِمَ ووَجْهُكَ بَسْطٌ إليهِ، ولَوْ أنْ تُؤْنِسَ الوَحْشَانِ بِنَفْسِكَ، ولَوْ أنْ تَهِبَ الشَّسْعَ" (أورده الألباني في السلسلة الصحيحة ).
وفي رواية «وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه ولا تسبن أحدا"، قال: فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة»، فخير الناس أنفعهم للناس وأصبرهم على أذى الناس، كما وصف الله المتقين بذلك في قوله تعالى: {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
ومن يلاحظ سلوك كثير من حجاجنا يلاحظ ضعفا على هذا المستوى مقارنة مع بعض الوفود من ماليزيا وإندونيسيا ونحوها حيث السكينة والهدوء والنظام والاحترام وغيرها من الأخلاق الحميدة مما يستوجب حسن التأهيل والإعداد والعناية بهذه الجوانب الرفيعة في خلق الإنسان.
والرفث المنهي عنه كما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: هو إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء، إذا ذكروا ذلك بأفواههم.. وقال عطاء بن أبي رباح: الرفث هو الجماع وما دونه من قول الفحش.
وأما الفسوق، فقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغير واحد من السلف بأنه المعاصي بجميع أنواعها.
وبخصوص الجدال يستحضر الحاج ما جاء عند الترمذي وأبي داود وغيرهما عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
ثم بعد الحج تقوى وصلاح حال:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: (لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) "متفق عليه".
فلابد من حرص على صلاح حال، وزهد في الدنيا وإقبال على الآخرة، ذلك أنه من علامات قبول الحسنة إتيان الحسنة بعدها، وليس بعد الحج أمام الحاج غير الاستقامة ولزوم طريق الهداية حتى يختم له بخير، ومما يؤسف له أن بعض النماذج يسوء حالهم بعد الحج فيزدادون بخلا في الإنفاق في أوجه الخير وتسوء أخلاقهم وتضيق صدورهم أو هكذا يظهر للناس، حتى إن بعض عوامهم يحذر من "العجاج والحاج والفيراج"، ومما قيل في معنى: (الحج المبرور) ويناسب الختام: أي الحج المقبول. وقالوا: من علامات قبول الحج، أن يرجع العبد خيرًا مما كان، ولا يعاود المعاصي. فنسأل الله لحجاجنا حسن الاستعداد وإحسان الأداء وصلاح الحال بعد الرجوع سالمين غانمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.