مؤسسة محمد السادس للعلوم والصحة تحقق إنجازا غير مسبوق في إعادة برمجة الخلايا    "بورنموث" الانجليزي يعزز صفوفه بالدولي المغربي أمين عدلي    بعد الجدل حول الدراجات المعدلة.. الحوار مستمر والمهلة لملاءمة الدراجات النارية مع القانون لم تُحدد بعد    تطوان: توقيف مسن غرر بقاصر واعتدى عليه جنسيا    بنك المغرب يصدر قطعة نقدية تذكارية بمناسبة الذكرى ال62 لميلاد الملك محمد السادس    تسخير ثماني طائرات لإخماد حريق غابة بوهاشم بشفشاون    "الأول" يكشف تفاصيل تعليق الحملة المتعلقة بمراقبة الدراجات النارية    نقل أحمد الزفزافي على وجه السرعة لقسم الإنعاش بعد تدهور حالته الصحية    أزمة جديدة في استيراد العجول .. حجز شاحنتين بميناء طنجة المتوسط    المغرب يتصدر قائمة المستوردين الأفارقة من تركيا وسط تحديات تجارية متنامية    الشرادي يكتب: ملك الإنسانية..محمد السادس يجدد حضن المغرب لغزة    الغلوسي: يحذر من السطو على صلاحيات القضاء وتقوية لوبي الفساد في مشروع المسطرة الجنائية الجديد    تصفيات كأس العالم 2026: المغرب يفتتح ملعبه الجديد بمواجهة النيجر المرتقبة    الجامعة الوطنية للتخييم: اغتصاب طفل مخيم "رأس الماء" حادث معزول ووجب انتظار التحقيقات الرسمية    خلفيات رسالة أفراد من العائلة البودشيشية لمناشدة الملك تزكية منير القادري شيخا للزاوية رغم تنازله رسميا    ربع نهائي الشان.. المغرب في اختبار صعب أمام تنزانيا    تيكاد-9 .. إبراز رؤية ومبادرات جلالة الملك في إفريقيا                ثورة الملك والشعب وعيد الشباب.. ذاكرة وطن تصنع المستقبل        المغرب يرسخ مكانته كأكبر مركز لصناعة السيارات في إفريقيا    سفارة المملكة بإسبانيا ترفض منح سلطات كانتابريا بيانات قاصرين غير مصحوبين    وفاة القاضي الرحيم عن 88 عاما.. صوت العدالة الذي أنصف المهاجرين    الملك محمد السادس يصدر عفوا على 591 شخصا بمناسبة عيد الشباب    تفاصيل اجتماعات أمريكية–أممية لإعادة النظر في مستقبل بعثة "المينورسو"    الوداد يعلن موعد تسليم بطائق الاشتراك لجماهيره    انطلاق فعاليات مهرجان الرمى والطلبة والخيالة بمركز صخور الرحامنة مبادرات راائدة في التضامن الترابي (صور)    الدوري التركي يترقب عودة حكيم زياش    ابتكار جهاز من الماس يرصد انتشار السرطان دون مواد مشعة    حرقة المعدة .. هذه علامات تستوجب زيارة الطبيب فورًا    العفو الدولية تتهم واشنطن بتوظيف الذكاء الاصطناعي لمراقبة المهاجرين والطلاب المؤيدين للفلسطينيين    الداخلية تأمر بصرف التعويض عن الأخطار للممرضين وتقنيي الصحة بالجماعات الترابية    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    مندوبية التخطيط تسجل انخفاضا طفيفا للرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك    الحارس البرازيلي فابيو هو الأكثر خوضا للمباريات الرسمية    القبلية.. سرطان يفتك بالوطن    الصين تطلق أولمبياد الروبوتات الشبيهة بالبشر بمشاركة دولية واسعة    الصين: مدينة شنزن في الصدارة من حيث التجارة الخارجية    بلجيكا.. هجوم إلكتروني يستهدف بيانات 850 ألف زبون لشركة "أورانج"        سنة أولى بعد رحيل الدكتور عبد الفتاح فهدي    تقرير: المغرب يعتبر ثاني أكبر مصدر للهجرة اليهودية العالمية نحو فلسطين المحتلة    إسبانيا: زوجة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز متورطة في قضية جنائية جديدة    الرابور مورو يحيي حفل ضخم بالبيضاء بشبابيك مغلقة    سامويل ولُولي... حين قادهم الطريق إلى بيت الجار    أوروبا تسجل رقماً قياسياً في إصابات الأمراض المنقولة عن طريق البعوض            إطلاق فيديو كليب "رمشا الكحولي" بتوقيع المخرج علي رشاد    اختتام فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفن المعاصر بمدينة ميدلت    المركز الفرنسي للسينما يكرّم المخرجة المغربية جنيني ضمن سلسلة "الرائدات"    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَواقعُ التواصل وأزماتُ الواقع
نشر في هوية بريس يوم 16 - 03 - 2021

ما أكثر ما أصبحت تمور به مواقع التواصل الاجتماعي من مشاهد، ومقاطع "فيديو" متعددة المرامي والأبعاد، لكنها تختلف باختلاف العارضين ومستويات الوعي لديهم، بل ومنها ما يلخّص حجم المعاناة التي تنال فئاتٍ هشَّةً من المجتمع المغربي.
ومن ذلك على سبيل المثال، لا الحصر، فيديو ظهر أخيرا لطفلين مغربيين-إن صحّ خبراً ومضمونا-، يختصر واقعا مريرا ممتدا بامتداد الزمن الذي أُهْدِرَ في التفاهات، والنجاعة التي تعثّرت بالممارسات، حين غاب العدل، وساد الجور، وعمّت الأَثَرَة، وشاع النَّهَم، وأُعْجِبَ كلُّ ذي رأيه برأيه، واختلت القيم التي بها يستأهل الإنسان الوجود. هذا "الفيديو"-إن صحّ- عنوانٌ صغير من عناوين المرارة في حياة بعض الناس، لا معنى لتجاهلها. هي وقائع تستعصي على التحمّل، وتقدّم شهادةَ إدانة أخرى، لكل من يعيش على أرض هذا الوطن، ويُخِلُّ بمقتضيات هذا الانتماء.
مشهد طفلين شاردين، يحتضنهما شارع قاسٍ بقساوة مناخ الأيام الباردة، لكنّ الأشدَّ فظاعة، هو الشرود عن القيم التي ورثها الناس عن ذويهم، وقَبْلَها من دينهم. الأفظعُ أن تتوارى القيم النبيلة، ليس عن الأنظار، بل عن الأنفس التي استحْلَتِ الشَّراهة، وأَنِفَتْ عن تقاسم مشاهد الألم والأسى، بفعل جفاء يجري مجرى الدّم، فلم تَعُدْ نماذج الواقع الاجتماعي الأليم تحرك الساكن، أو تسائل من استرعاهم اللهُ أمانةً، سيُسألون عنها في يوم من الأيام، ويا لها من مساءلة؟ ليست مساءلة القانون التي يُتجاوزُ حين يستدعي الأمرُ مساءلةَ مَنْ يملك النفوذ، والمال والسلطة، فتتحوَّل المساءلة المنصوصُ عليها قانونا إلى بنود وفقرات ميتة بموت مَنْ يُمعِن في التوظيف السيء لمضامينها.
المساءلةُ المقصودة، مساءلةُ رب العالمين، لمن استرعاه أمانة الناس، ولنتخيل جميعا، ما الجواب غدا عن سؤالٍ مصيريٍّ حاسم، أنْذَرَ به الحبيب -عليه السلام- أمته قائلا: " إنَّ اللَّهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاهُ أَحَفِظَ ذلِكَ أمْ ضيَّعَ، حتَّى يَسْألَ الرَّجلَ عنْ أَهْلِ بيتِهِ" رواه ابن حبان والنسائي من حديث أنس. مشهدُ طفلين، -إن صحّ- لم تشفع لهما براءة طفولة تتعرض للانتهاك، والدَّوْس بالأقدام من ذوي القربى، في الوقت الذي تكفَّلت شريعة الله بذلك، ونَصَّت عليه مواثيقُ الأمم.
ما عسى تقول هذه المنظمات المهتمة بطفولة جرَّدها الإنسان العاقل البالغ من أغلب الحقوق، ومنها: حقّ الرعاية والعناية والكفاية، والكرامة ؟ أهكذا تندحر البشرية التي تتشدق بالممارسة الكسيحة للدين، وهي تعتقد حتميةَ الأوبة إلى الربّ الرحيم؟ بأيِّ دين، وبأي أخلاق، وبأي إنسانية مزعومة نظل نشنّف الآذان بأولويات الطفولة في سياساتنا العمومية؟ بأي ضمير نتفاعل مع مشاهدَ كهذه، تُدين كلَّ من لا زال يغُطُّ في نوم عميق، يظنُّ أنه مُستريح، والحقيقة أنه مُسْتراحٌ منه وهو لا يدري، يظن أنه يُحسِنُ صُنعاً، وهو مِنَ "الأَخْسَرينَ أَعْمالاً"، مَنْ ذاك؟ إنّه مَنْ ليس في نفسه مثقالُ ذَرَّةٍ من شعور وإحساس، أو وَخْزٍ لضمير مُتمرِّد، لعله ينفعل فيتفاعل مع مشهد طفلين تائهين، -وغيرُهما كثير- عَقَّتْهما مسؤوليةٌ والديَّة غائبة أو مُغَيَّبة، ويحتضنهما شارع مهجور، وتتربص بهما كائنات بشرية شرهة شرسة، ربما شربت من كأس المأساة الذي يشرب منه الطفلان؟ أي مستقبل مُنتَظَر أو مُتَوَقَّع؟ وأي أمل مشرق يداعب مخيّلة برعمين طريّيْن طراوةَ نباتٍ اسْتَهَلَّ؟ هذان الطفلان، ليسا سوى عيّنة صغيرة لمجموعات أخرى من طفولة يُحتفى بها نصاً ونظراً، لكنّها تُلفَظُ "واقعاً" وَ"إرادةً". مشهد هذين الطفلين، مؤشر آخرُ مضافٌ إلى متواليات الترهّل الذي أصاب القيم في المجتمع، بعدما عرّت "كورنا" واقعا ظل الحرص القائم على تَعْمِيَته، فأبى القدر أن يكشفَ المستور، ويُعرّيَ المكنون. فهل تَهُزّ مثلُ هذه المشاهد المشاعرَ، وأصحابَ القرارِ العموميِّ المستأمنين على حياة الناس، أم تَمُرُّ مرور مَنْ لا يُأبَهُ له ولا به، ولا يُلتفتُ إليه ولا إلى حاله، وكأننا نصرّ كما يقال على " تغطية الشمس بالغربال".
وقد يدّعي مُدّعٍ، أو يزعمُ زاعمٌ أن إمكاناتنا ليست على قدر مأساتنا، فنسبةُ الفقر في ارتفاع، والموارد شحيحة، وأزمة الاقتصاد كارثية، فكيف السبيل، وما العمل، وقد جاءت" كورونا" فزادت الطين بِلّة؟ والجواب الموضوعي، هو أن أخطر الفقر الذي لا يماثله فقرُ الحاجات المادية الأساسية، هو فقر المشاعر والضمير والفؤاد، هذه هي التي تؤهل الكائن ليكون إنسانا ضمن قاموس الكائنات الحية، فمن امتلكها فقد حاز مصداقية الوجود، ومن عَدِمهما، فهو رقم من الأرقام، لا قيمة لوجود وظيفيٍّ له. إن الشعوب الواعية، هي تلك التي تحسن قراءة الأزمات التي تمر بها قراءةً موضوعية، تعترف بحالات الإخفاق والتقصير، وتعمل على النهوض وتجاوز واقع المأساة.
ولقد قدمت "كورونا" للبشرية درسا قاسيا، لكنه مُهمٌّ ومُلْهِم، لو أراد الإنسان أن يتذَّكّرَ أو أراد شكورا. فأما التذكّر، فَبِإعادة النظر، واسترجاع إرادة الفهم لطبيعة الوجود في حياةٍ ناظمُها مُسَخَّراتٌ وَمنَحاتٌ، ظلت بمنأى عن تأثير الوباء، لكنّ التأثير أصاب الإنسان حين تعرّض لامتحان قاسٍ، لم يتوقَّعْ يوما ما، أنه سيُحيل حياته ألما وأسى وجحيما، لهيبُهُ: الجوعُ، ونُدْرة المورد، والعوزُ، والمرضُ ثم الموت، ومع هول المأساة والألم، لازال بعض البشر يَصُدُّ فلا يُبصِر، ويعاندُ فلا يَستكين، مُولّيا وجهه نحو حياة بيّنت "كورونا" أنْ لا قيمة لها، فلا المالُ الذي ظل ينتشي الإنسان بجمعه أغنى، ولا الصحةُ التي ظل مزهوّا بها أجْدَت، ولا المنصبُ الرفيع المزهوُّ به صاحبُه أنجى، ولا الوضعُ السياسيُّ والاقتصاديُّ للأفراد والجماعات والدول أسعف، ومع ذلك لازال الإنسان هو الإنسان، ولازال السلوك هو السلوك، بل من الناس من لازال يرفض أية علاقة بين الوباء وأحوال الناس البئيسة، ومنها هذا المشهدُ الطفوليُّ الفظيع. فمتى نُخْضِعُ الذّاتَ لِقرْعِ الضمير، مِنْ "قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله"، وما للنّاس "مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ"، وما لهم من نصير ولا شفيع، إذا فَوَّتوا فرصة الوجود في الدنيا الزائلة.
كم من الناس صاروا خبرا بعد عين، وكم من الشاردين المذكورين رحلوا بعد حين، وكم من المتسلّطين غدت سيرتهم أخبارا تُروى، ورواياتٍ تُحكى، لكنْ سرعان ما طواهم النسيان. إن المشهد الطفوليَّ البئيسَ، لَيَطرُقُ باب كلِّ مسؤول يستشعر ثِقل الأمانة التي ناءت بحملها السموات والأرض والجبال، ورضي هو بحملها والقيام بها. المشهدُ الطفوليَّ الأليم رسالة إنذار تستفزّ ضميرِ كلّ إنسان قادر على تخفيف الألم، وتجفيف اليأس من براءة طفولة وديعة، قد تغدو يوما، شرَسةً شراسَةَ وحْشٍ كاسِرٍ، يلتهم الأخضر واليابس، ويَقُضُّ مضجع الوطن، وحينها، "وَلاتَ ساعَةَ مَنْدَمٍ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.