طنجة.. توقيف المتورط الرئيسي في سرقة قبعة "كوتشي" بحي بئر الشعيري    "كان فوتسال السيدات" يفرح السايح    عادل الفقير    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    حكومة أخنوش تُطلق أكبر مراجعة للأجور والحماية الاجتماعية    الملك يهنئ أعضاء المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة للسيدات بمناسبة فوزه بكأس إفريقيا للأمم 2025    نواب بريطانيون عن الصحراء المغربية: مخطط الحكم الذاتي محفّز حقيقي للتنمية والاستقرار في المنطقة بأكملها    سيدات القاعة يفلتن من فخ تنزانيا في ليلة التتويج بلقب كأس إفريقيا    افتتاح فندق فاخر يعزز العرض السياحي بمدينة طنجة    ترامب يستقبل رئيس الوزراء الكندي    انطلاقة أشغال المركز الفيدرالي لتكوين لاعبي كرة القدم بالقصر الكبير    منتخب المغرب لأقل من 20 سنة يدخل غمار كاس افريقيا للأمم غدا بمصر    بهدف قاتل.. منتخب السيدات للفوتسال يتوج بلقب الكان في أول نسخة    زخات رعدية مصحوبة بتساقط البرد وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    جهة طنجة-تطوان-الحسيمة تتصدر تعيينات الأطباء المتخصصين لسنة 2025 ب97 منصباً جديداً    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    عبد النباوي: العقوبات البديلة علامة فارقة في مسار السياسة الجنائية بالمغرب    الاستيلاء على سيارة شرطي وسرقة سلاحه الوظيفي على يد مخمورين يستنفر الأجهزة الأمنية    خبير صيني يحذر: مساعي الولايات المتحدة لإعادة الصناعات التحويلية إلى أراضيها قد تُفضي إلى نتائج عكسية    تجار السمك بالجملة بميناء الحسيمة ينددون بالتهميش ويطالبون بالتحقيق في تدبير عقارات الميناء    سلطات سوريا تلتزم بحماية الدروز    مأسسة الحوار وزيادة الأجور .. مطالب تجمع النقابات عشية "عيد الشغل"    القصر الكبير.. شرطي متقاعد يضع حداً لحياته داخل منزله    موتسيبي: اختيار لقجع قناعة راسخة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إدريس لشكر …لا ندين بالولاء إلا للمغرب    المغرب يتلقّى دعوة لحضور القمة العربية في العراق    المغرب يواجه حالة جوية مضطربة.. زخات رعدية وهبات رياح قوية    مُدان بسنتين نافذتين.. استئنافية طنجة تؤجل محاكمة مناهض التطبيع رضوان القسطيط    الإنتاج في الصناعات التحويلية.. ارتفاع طفيف في الأسعار خلال مارس الماضي    الشخصية التاريخية: رمزية نظام    فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية    دراسة.. الأوروبيون مستعدون للتخلي عن المنتجات الأميركية    وزارة الأوقاف تحذر من الإعلانات المضللة بشأن تأشيرات الحج    العراق ولا شيء آخر على الإطلاق    إلباييس.. المغرب زود إسبانيا ب 5 في المائة من حاجياتها في أزمة الكهرباء    مسؤول أممي: غزة في أخطر مراحل أزمتها الإنسانية والمجاعة قرار إسرائيلي    انطلاق حملة تحرير الملك العام وسط المدينة استعدادا لصيف سياحي منظم وآمن    العلاقة الإسبانية المغربية: تاريخ مشترك وتطلعات للمستقبل    الإمارات تحبط تمرير أسلحة للسودان    ندوة وطنية … الصين بعيون مغربية قراءات في نصوص رحلية مغربية معاصرة إلى الصين    رحلة فنية بين طنجة وغرناطة .. "كرسي الأندلس" يستعيد تجربة فورتوني    ابن يحيى : التوجيهات السامية لجلالة الملك تضع الأسرة في قلب الإصلاحات الوطنية    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    المغرب يروّج لفرص الاستثمار في الأقاليم الجنوبية خلال معرض "إنوفيشن زيرو" بلندن    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    جسور النجاح: احتفاءً بقصص نجاح المغاربة الأمريكيين وإحياءً لمرور 247 عاماً على الصداقة المغربية الأمريكية    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واجبنا نحو القرآن المجيد
نشر في هوية بريس يوم 12 - 11 - 2016


هوية بريس – عبد العزيز الإدريسي
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قرأ الشاب بديع الزمان سعيد النورسي[1] خبرا مدهشا هز كيانه هزا عنيفا، مفاده: "أن "جلادستون" رئيس وزراء إنجلترا وقف وهو يحمل نسخة من المصحف في مجلس العموم البريطاني ويقول: (إنه لن يستقر لنا قرار في البلاد الإسلامية ولن نستطيع أن نحكمهم ما دام هذا المصحف بينهم أو في أيديهم)، فينبري له أحد أعضاء المجلس يحمل الآخر مصحفًا، ويقول له بصوت عالٍ: "فلنضع هذا المصحف تحت أقدامنا، هكذا"، ولكن رئيس الوزراء "جلادستون" يرد عليه بدهاء وخبث: «ما هكذا تحل القضية، وواجبنا أن نباعد بين المسلمين وبين المصحف"، فيكون رد فعل الأستاذ النورسي في قولة أطرت مشروعه الإصلاحي: "لأبرهننّ للعالم أجمع، أن القرآن العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها"[2] وقد كرس النورسي حياته في إظهار إعجاز القرآن، وتوثيق علاقة المسلمين بكتاب الله تعالى إنقاذا لإيمانهم وترشيدا لتدينهم.
انطلاقا من هذه الواقعة -وغيرها- التي كان لها ما بعدها، ما هو واجبنا اليوم نحو القرآن المجيد؟ في ظل ما تعيشه الأمة الإسلامية من أزمات ومشكلات، وما تتخبط فيه البشرية من منزلقات وتشوهات.
وقبل الحديث عن هذه الواجبات، أود أن أبين بعض خصائص القرآن الكريم[3]، والتي أجملها في ما يلي:
1-الخاصية الأولى: القرآن الكريم كلام الله: وكفى بهذه الخاصية مفتاحا وأساسا لتلقي أنوار القرآن الكريم، وفقه أسراره، فالكلام الإلهي لا نهاية له، قال تعالى: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف الآية 109)، هذا الكلام قول ثقيل لا قبل للإنسان به، لولا اللطائف الإلهية في مروره من الذات النبوية الشريفة التي كانت تعاني أيما معاناة في تنزل هذا القول الثقيل، لما استطعنا تلقيه، يقول تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزمل الآية 5)، هذه بصيرة من بصائر القرآن الكريم، تبصر الانسان بقيمة وثقل هذا القول الملقى إليه من رب العالمين[4]،وقال عز من قائل: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر الآية21).
في ذات السياق يؤكد الإمام الزركشي ثقل الكلام الإلهي وعمق الكلمة القرآنية بقوله:" لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم ،لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه، لأنه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أنه ليس لله نهاية فكذلك لا نهاية لفهم كلامه، وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح عليه"[5].
2 –الخاصية الثانية: القرآن الكريم رحمة للعالمين: بما هو هداية و دواء، و نور و شفاء، ورشد ونماء، دل على ذلك عديد آي الذكر الحكيم، ففي سورة الأنبياء ختم الله تعالى مسيرة الرسل الذين ذكرهم بأسمائهم، بقوله: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأنبياء107) إنه لخص رسالة القرآن و وظيفة النبي العدنان عليه الصلاة والسلام في إلحاق الرحمة بالعالمين، يقول سيد قطب:" …وغير هذا وذلك كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما أرسل رحمة للعالمين . ومن آمن به ومن لم يؤمن به على السواء . فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة ، شاعرة أو غير شاعرة ، وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة ، لمن يريد أن يستظل بها ،ويستروح فيها نسائم السماء الرخية ، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام . وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها. وهي قلقة حائرة، شاردة في متاهات المادية، وجحيم الحروب، وجفاف الأرواح والقلوب"[6] . وفي التنزيل أيضا قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)) ( سورة المائدة)، وقوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً2﴾ (سورة الجن) .
3-الخاصية الثالثة: خاصية الهيمنة: بدليل قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة48)، قال ابن تيمية: "فالسلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب ، ومعلوم أن المهيمن على الشيء أعلى منه مرتبة، ومن أسماء الله "المهيمن" ويسمَّى الحاكم على الناس القائم بأمورهم "المهيمن". ومقتضى هذه الهيمنة و هذا التصديق هو ختم الرسالة وإتمام الديانة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَكْمَلَهُ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ".[7]
واجبنا نحو القرآن المجيد:
إذا كان القرآن العظيم بهذه المنزلة وبهذه المكانة فمن واجبنا اتجاهه أو من حقه علينا ما يلي:
* واجب الإيمان به: بأنه كلام الله جملة وتفصيلا، مبنى ومعنى ، وكان أول من تمثل هذا الإيمان هو الرسول عليه الصلاة والسلام، بدليل قوله تعالى في التنزيل: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾)البقرة الآية285(وإيمان الرسول عليه الصلاة والسلام، بما أنزل إليه من ربه هو إيمان التلقي المباشر ، تلقي قلبه النقي للوحي العلي ، واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة ،الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كد ولا محاولة ،وبلا أداة أو واسطة . وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها فلا يصفها إلا من ذاقها، ولا يدركها من الوصف – على حقيقتها – إلا من ذاقها كذلك [8]!وفي سورة النساء يأمر الله المؤمنين بتجديد إيمانهم بالله ورسوله وكتبه وخاصة القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ (النساء136).
* واجب التعظيم: يقول الامام شرف الدين النووي: "أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الاطلاق وتنزيهه وصيانته"[9]، ومن تعظيمه القرآن الكريم تعظيم المصحف وتكريمه وقراءته على طهارة ورفعه عن الأرض وتقبيله، فقد كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يضع المصحف على وجهه ويقول: كتاب ربي، كتاب ربي، ومن تعظيم عدم وضع أي شيء فوقه، ومن تعظيمه الإنصات لمن يقرأه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ((الأعراف 204) وقال أيضا:( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ 80﴾ (الواقعة)،
* واجب التعهد تلاوة وحفظا: ينبغي على المؤمن دوام تعهد كتاب الله حفظا وتلاوة، حتى ترسخ حقائقه العلمية و الإيمانية في النفس، فتصفو البصيرة في صلتها بالله تعالى[10]، ففي الصحيحين أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "تعاهدوا القرآن، فو الذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها"، لذلك كان التوجيه القرآني صريحا في حث المؤمنين على تلاوته للفوز بسعادة الدنيا وكرامة الآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ 30﴾ (فاطر). وفي تحصيل الأجر و الثواب نجد العديد من الأحاديث التي تحفز على التعهد، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترميذي.
* واجب العمل بأحكامه: لأن القرآن بكل وضوح هو دستور عمل ومنهاج حياة، عنوانه توحيد الله تعالى، برهانه إعمار الأرض وتحقيق الاستخلاف فيها، والعمل بأحكامه تحقيق لوظائف النبوة والرسالة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ﴿رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً﴾ (الطلاق11)، وقال سبحانه في سورة (الجمعة): ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾،وفي بيان أقومية القرآن الكريم يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ (الاسراء9)، وفي هذا الصدد ينبه المفكر الجزائري مالك بن نبي إلى أن الواجب على المسلمين اليوم أن يقرأوا القرآن بأعين الأحياء لا بأعين الموتى، وأن ينصتوا إليه بآذان الأحياء لا بآذان الموتى، وأن يتفاعلوا معه وكأنه يتنزل عليهم اللحظة، بتعبير سيدنا عبد الله بن مسعود "أن يثووا القرآن".
* واجب التدبر: وهذا الواجب هو واسطة العقد، وبدونه لا مفعولية ولا أثر للواجبات السابقة، وقد نصت أربع آيات على وجوب التدبر، قال الله تعالى:
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص؛ 29).
﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ (المؤمنون68-69-70).
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ (النساء82).
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد24).
قال الحسن البصري: "والله! ما تدبُّره بحفظِ حروفه وإضاعةِ حدوده، حتى إنّ أحدَهم ليقول: قرأتُ القرآنَ كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل"[11]. وفي الحديث النبوي الشريف الذي رواه مسلم، يحثنا رسول الله على المدارسة التي توصلنا غلى التدبر:" ما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينةُ، وغشيتهم الرحمةُ، وحفّتهم الملائكةُ، وذكرهم الله فيمن عنده"،و قال سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه: "لاخير في قراءة لا تدبر فيها"، يقول حسن حبنكة الميداني: "فهذا الكتاب قد أنزل الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مبارك لا تنضب فيوض معانيه، ولكن هذه المعاني المباركة الثرة لا يقتبس منها إلا الذين يتدبرون آياته، فالغاية من إنزاله أن يتدبر الناس الآيات، ولكن ليس الغرض من التدبر مجرد الترف العلمي، والافتخار بتحصيل المعرفة، والتوصل إلى كشف المعاني للتعالي بمعرفتها واكتشافها، إنما وراء الفهم غرض التذكر والعظة، والعمل بموجب العلم، وهذا التذكر المقصود لا يحظى به إلا أولو الألباب، وهم أولو العقول الحصيفة، والأذهان النظيفة، والقلوب الشريفة.[12] "بل إن الدكتور طه جابر العلواني يجعل من التدبر مدخلا لتدبير المشكلات الإنسانية" وأما التدبير فهو التخطيط للخروج من الأزمات و المشكلات، ويفترض أن يكون ناتجا وحاصلا ينتج عن (التدبر) فلا تدبير بلا تدبر، بل ارتجال وتخبط… لأن من أهم مقاصد التدبر التدبير، تدبير شؤون وشجون الحياة، ومعرفة كيفية معالجة أزماتها بالقرآن الكريم.[13]"
خاتمة القول إن من واجب المسلم أن يأخذ بكل أسباب تلقي لرسالة القرآن، بما هو منهاج حياة ودستور عمل، وتجنب الجريمة النكراء التي وردت في سورة الفرقان، الآية 30: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾.
والحمد لله رب العالمين.
[1] – بديع الزمان سعيد النورسي(1876/1960م) عالم تركي باعث الحركة الإصلاحية المعاصرة بتركيا، عنوان مشروعه الاصلاحي: "إنقاذ الايمان بالقرآن"، للتوسع في سيرته:
أ- سيرة ذاتيه: من كليات رسائل النور، تأليف بديع الزمان سعيد النورسي ، إعداد وترجمة :أستاذ إحسان قاسم الصالحي،ج:9،دار سوزلر للطباعة والنشر، ط:8
ب-نظرة عامة عن حياة بديع الزمان سعيد النورسي، إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر،ط1 سنة2010 .
ج- آخر الفرسان مكابدات بديع الزمان سعيد النورسي، فريد الأنصاري، دار النيل للطباعة والنشر، ط 3 سنة2012.
[2] – نظرة عامة عن حياة بديع الزمان سعيد النورسي، إحسان قاسم الصالحي،ص19
[3] -أورد الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الماتع:" كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟" سبعة خصائص وهي :1-القرآن كتاب إلهي/2-كتاب محفوظ/3-كتاب معجز/4-كتاب مبين ميسر/5-كتاب الدين كله/6-كتاب الزمن كله/7-كتاب الإنسانية كلها" من ص17إلى71.
[4] -الوحي والإنسان نحو استئناف التعامل المنهاجي مع الوحي، د. أحمد عبادي، ص19
[5] – البرهان في علوم القرآن،الامام الزركشي، ج1،ص106
[6] -في ظلال القرآن، سيد قطب، الجزء 3 ص49.
[7] -صحيح البخاري كتاب المناقب ، باب خاتم النبيئين
[8] -في ظلال القرآن، سيد قطب، ج1، ص384
[9] -التبيان في آداب حملة القرآن ،شرف الدين النووي،ص97.
[10] – مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية، د. فرئد الأنصاري،ص53،
[11] – تفسير ابن كثير،ج4 ، ص65.
[12] -قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل، الشيخ حسن حبنكة الميداني، ص 10و11.
[13] -أفلا يتدبرون القرآن؟ معالم منهجية في التدبر والتدبير، طه جابر العلواني، ص15-16.
elidrissihib[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.