"عايشة قنديشة"تلك المرأة الأسطورة التي ما إن كنا ونحن صغار نستمع لحكاية من حكاياتها المخيفة إلا واقشعرت أبداننا، وجافى النوم عيوننا. إنها حكاية شعبية تروى عن امرأة شبح تصطاد الرجال، شبابا كانوا أو يافعين. فكل من اختفى أو غاب عن الأنظار في قرية أو بلدة من البلدات، في زمن لم تكن فيه برامج بحث عن المختفين، إلا وحيكت قصة من قصص الاختفاء كانت بطلتها في كثير من الأحيان"عايشة قنديشة". بقوامها الرشيق، وسحنتها البراقة، وشعرها الأسود الطويل الذي يتدلى فوق كتفيها العاريتين..، وبصوت مغر تخاطب كل من تصادفهم ليلا في مكان خلاء، بجانب واد من الأودية، أو في الأمكنة الموحشة بين الغابات المظلمة، أو حتى على جانبي طريق في ليلة قد تكون رائحة الموت فيها تحلق في الأرجاء عاليا ما بين السماء والأرض. بنظرة ساحرة من عينيها تجعل مخاطبيها يغرقون في سكرة من سكرات ما قبل الموت، فكل من تصادفه في طريقه، وتكون قدره المحتوم، ينتبه بعد فوات الأوان إلى أن من تخاطبه وتهمس في أذنه بصوت أنثوي متغنج هي في الأصل نصف إنسان بقوائم حيوان، فتجهز عليه بوحشية وتقطع أوصاله، ثم تستحم بدمائه أو تشرب منها، فذاك يزيدها قوة ويجعل بشرتها أكثر نضارة وإثارة للرجال، ثم تطعم بعد ذلك الجثة التي مثلت بها للكلاب أو للحيوانات المفترسة حتى لا تترك منه شيئا وتمحو كل أثر دال عليها. هذه هي الأسطورة التي تناقلتها الرواية الشفهية من جيل إلى جيل. لكن أول ملاحظة أود تسجيلها أنه لا أحد يعرف تاريخ ميلاد هذه الحكاية الأسطورة، فقد سمعتها شخصيا من جدي رحمه الله والذي بدوره سمعها من أجداده، فهي وجدت قبل فترة الحماية -سواء بالشمال أو بالجنوب- بكثير. وهناك كتابات عديدة ساقت مجموعة من الفرضيات عن تاريخ نشأة أسطورة "عايشة قنديشة"منها تلك التي ترجعها إلى فترة التواجد البرتغالي ببعض الثغور المغربية. فيما ذهبت فرضيات أخرى إلى أن هذه الأسطورة ظهرت في فترة فتح الأندلس من قبل جيوش طارق بن زياد، وأن شعوب شبه الجزيرة الإيبيرية المسيحية في القرون الوسطى كانت لديهم هذا النوع من المعتقدات الأسطورية التي تشبه إلى حد بعيد أسطورة"عايشة قنديشة". ومنها على الخصوص أسطورة "كونديسة إليزابيث باثوري"، فهما متطابقتان جملة وتفصيلا مع اختلاف بين الشخصيتين فقط في الزمان والمكان. ف"كونديسة إليزابيث باثوري هي من أصول مجرية، واشتهرت عائلتها "آل باثوري" بثرائهم الفاحش، وقد لقبت إليزابيث هذه ب"كونديسة الدم" لتعطشها لإراقة دماء الرجال، وتقول الأسطورة التي حيكت حولها- بنفس تفاصيل أسطورة "عايشة قنديشة"- أنها عاشت في حقبة القرون الوسطى في أوربا، وأنها كانت تستغل جمالها الأخاذ وقوامها الفاتن لاصطياد الرجال ليلا والإيقاع بهم في شباكها وقتلهم بطريقة وحشية . ومن هنا يمكن القول مع كثير من التحفظ أنه لربما تكون أسطورة "عايشة قنديشة" هي النسخة المغربية من أسطورة "كونديسة إليزابيث باثوري"المجرية، والتي تم استيرادها ضمن ما تم استيراده نتيجة التلاقح الحضاري الذي وقع بين الغرب الأوربي المسيحي والغرب الإسلامي في حقبة القرون الوسطى. وإذا ما نظرنا لأصل تسمية (قنديشة) فسنجد أنها تحريف لكلمة (كونديثة Condesa) بالإسبانية أو (كونديسة Condessa) بالبرتغالية، وهي مؤنث كلمة (كوند Conde). وهي ألقاب أطلقت على طبقة النبلاء، وشاع تداولها منذ أواخر حقبة الامبراطورية الرومانية. وأصل الكلمة في اللاتينية فهو (Comitis) ويعني الرفقة الإمبراطورية أو الحاشية الملكية. بقيت الإشارة أخيرا إلى أن أسطورة"عايشة قنديشة"المغربية عرفت انتشارا واسعا وإعادة إحياء في منطقة الشمال خلال فترة التواجد الكولونيالي الإسباني، واستخدمت كشكل من أشكال الحرب النفسية في مواجهة المستعمر.