قلبي على هذا الوطن وعلى أبنائه، فلقد ادلهمت فيه الخطوب والمصائب والآلام، في كل مرة أفتح جريدة من الجرائد الوطنية، أو موقعا إخباريا في الشبكة العنكبوتية متحدثا عن بلدي، أو تقريرا حقوقيا دوليا أو محليا، أو تقريرا أمميا أو حتى رسميا متعلقا بالتنمية البشرية أو درجة الشفافية والرشوة، حول بلدي، إلا وازداد قلبي حزنا على هذا الوطن، منذ نعومة أظفاري تربيت من داخل أسرتي على أن أكون نافعا لبلدي ولأسرتي ولأمتي، وصقلت فطرتي على كره كل أشكال الظلم والتسلط، نما بداخلي عشق كبير لبلدي بجباله وأوديته وطبيعته وبحاره وكذا مستضعفيه، تابعت كل مجريات الأحداث الكبرى التي عاصرتها بقلب يحن إلى التغيير الإيجابي من الظلم إلى العدل، من الاستبداد إلى التداول، من التجزئة إلى الوحدة، من التبعية إلى الاستقلالية، من الفقر إلى الكفاف، من الجهل والأمية إلى العلم والمعرفة النافعة، من التخلف إلى النهضة، ومن التطرف في الأفكار والمعتقدات إلى الوسطية والاعتدال، هكذا كان تطلعي، وهكذا كان برنامجي "السياسي" منذ نعومة شبابي، ومنذ أن أطرتني المآسي وتشربت قيم الحرية والعدل والكرامة، وكان هذا هو البرنامج الذي دفعني أن أتعاطف بكل جوارحي مع كل صيحات الإصلاح التي شهدتها بلادي عبر تاريخها الطويل بما في ذلك التي سبقتني في العمر ، والتي تقاطع برنامجها مع أحلامي الكبرى، وحين نضج الوعي عندي بضرورة أن أسهم في مسيرة الإصلاح لبلدي حتى أكون مواطنا نافعا، وتبين لي أن زمن العبث في الحياة قد ولى، وأنني مسئول عن الوعي الذي تشكل لي، وأنني لا ينبغي أن أخونه، تعلق قلبي بوطني أكثر، ففتحت صفحة جديدة عنوانها الإسهام في "القيام على الأمر بما يصلحه " على حد تعبير فقهائنا، فكان الانخراط في المشاركة في الشأن العام الذي مبتغاه إسهام متواضع إلى جانب كل شريف في وطني في الدفع بمسيرة الإصلاحات التي تعكس عناوين التغيير الإيجابي المذكورة سلفا، لم أكن أتصور أن الجو العام قد يكون معاكسا للرياح الإصلاحية التي استنشقت هوائها، وألفت نسيمها، وتكيفت مع محيطها، منذ أن وجدت ضالتي الجمعوية وبعدها السياسية وأنا أعيش مسلسلا عنوانه العام المنع والعرقلة والتأويل المؤامراتي للتطلعات والخطاب الإصلاحي، عشت ذلك في "المجتمع المدني" مع انخراطي المبكر في العمل الجمعوي، وعراقيل الإدارة والأوراق والاستخبارات على تنظيم الأنشطة ولائحة أعضاء المكتب و...، حتى أنه أحيانا تتضخم عندي الأنا، بمجرد إسهامي في إنجاح تنظيم ندوة أو محاضرة أو نشاط ثقافي عموما، ويظهر لي من كثر ما تتعرض له مثل هذه الأنشطة الجمعوية للاستخبار وللمتابعة، أن نجاح تنظيمها هو "فتح عظيم لمسيرة الإصلاحات ببلادي" !!! هكذا ألفت التعايش مع أجواء المنع والعرقلة والذهاب والإياب من وإلى مقر السلطات المختصة، اكتشفت حينها أن مسيرة الإصلاح طويلة وشاقة وقبل كل هذا وذاك مليئة بالأشواك والعراقيل، اكتشفت حينها أن مقاومة الأعمال الإصلاحية "مهمة لها رجالها أيضا"، كما أن لهذه الأعمال الإصلاحية رجالها أيضا، وأن التدافع المدني السلمي هو آلية التباري بين خصوم الإصلاح ومتبنيه، تلك خلاصة أولى اهتديت إليها وأنا أخوض غمار العمل الجمعوي والثقافي والمدني عموما، وهي خلاصة أنارت لي طريق الاستمرار في أداء واجبي بكل تواضع على كل حال، كنت ولا زلت من بين المؤمنين بضرورة الحضور السياسي، قصد تقوية وتمتين معسكر قوى الإصلاح في ساحة التدافع المدني، فالوطن للجميع والكل ينبغي أن يأخذ موقعه المشروع للدفاع عن أطروحته، والحوار هو السبيل المدني الراقي لتدبير هذا الاختلاف في البرامج و الأطروحات، والاحتكام لآليات الحسم الانتخابية التي تتوفر فيها شروط النزاهة والحرية والديمقراطية، هو الوسيلة الحضارية الناجعة لكسب التأييد الشعبي لبرنامج من البرامج أو أطروحة من الأطروحات حتى يلقيا طريقهما إلى التنفيذ والتنزيل، ولهذا الغرض كان تطلعي قويا للمشاركة بشكل حر في تمتين هذا الحضور السياسي الإصلاحي الفاعل الذي يؤسس لهذا "الحلم الديمقراطي"، حكاية تأسيس حزب-حكاية معاناة لانتزاع الحق في التأسيس كانت الحكاية بسيطة، الإسهام إلى جانب العديد من الإخوة والأخوات الفضلاء والشرفاء و الصلحاء، في تأسيس حزب سياسي اخترنا له اسم "حزب الأمة"، ينضبط تماما لمسطرة قانون تأسيس الأحزاب، ويتأسس على برنامج سياسي واضح، عنوانه العام "حزب المجتمع سبيلنا نحو دولة المجتمع"، حزب أردناه أن يكون متعاقدا مع المجتمع، ومستقلا عن أية جهة قد تجعل قراره مرهونا أو تابعا أو متحكما فيه عن بعد، حزب يطمح أن يلتقط حاجيات المجتمع من خلال الالتحام بقضاياه، ويسهم بقدر متواضع في بلورة هذه الحاجيات إلى رؤى وبرامج تكون هي أرضية تعاقده معه، حزب يتطلع أن يكون فاعلا لما يقول و قائلا لما يفعل، وأخيرا وليس آخرا حزب يصطف إلى جانب كل القوى الإصلاحية الشريفة التي لا تألو جهدا في تقديم مسيرة الإصلاحات الأساسية دستوريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، نحو تثبيت فعلي وتدريجي لدولة المجتمع المعبرة عن نبضه واختياراته وحاجياته، هكذا ابتدأت الحكاية، لتتحول بعدها إلى دراما حقيقية مع السلطات ثم بعدها مع القضاء في جولات "ماراتونية" للجلسات والمرافعات من أجل انتزاع الحق في التنظيم، "و يا للهول" !!! لازال الحديث عن الحق في التنظيم حديثا راهنا في بلدنا وكأننا لم نراوح مكاننا منذ عقود، "ويا للمفارقة" !!! الحق في التنظيم مسلوب من حزب قد حقق شبه إجماع وطني من لدن القوى السياسية والفعاليات الحقوقية و الجمعوية من أجل دعم قضيته في الحق في التنظيم والاعتراف به، هكذا انطلقت هذه الدراما لتتحول إلى مأساة مع حكم قضائي مجحف يؤكد طلب السلطات المختصة في إبطال تأسيس هذا الحزب، ولتتحول المأساة بعدها إلى مسلسل استئناف الحكم القضائي، وأيام قبل الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين في قضية ما سمي بخلية بليرج-في حين بقي الكثير من المظلومين وراء القضبان ظلما وعدوانا- وفي غفلة عن الدفاع وعن أصحاب القضية الذين علموا بالقرار بعد صدوره بأيام، كان القرار الاستئنافي بتأييد الحكم الابتدائي بإبطال تأسيس حزب الأمة... هذه المأساة التي شهدتها بامتعاض شديد، صدمت لهولها رغم بساطة المطلب الذي كان سببا فيها: " أن ندعم صيحات الإصلاح المتعالية في وطننا الحبيب، في إطار تكتل سياسي يبتغي الاشتغال ضمن دائرة القانون"، وعلى بساطة هذا المطلب، على هول المأساة، مع المنع والعرقلة والتشويش بروايات رسمية لتبرير العرقلة، قلبي على هذا الوطن وعلى أبنائه، فلقد ادلهمت فيه الخطوب والمصائب والآلام، هبت رياح ثورات ربيع الأمة الديمقراطي، تنسمت بلادنا بعض نسائمه بحراك شعبي زاخم، كاد أن يكون الفيصل بين معاناة الشعب المغربي وبين الاستبداد والفساد العام وكل رموزهما، لولا هرولة البعض إلى قطف ثماره التي لم تنضج بعد في حركية اجتماعية وسياسية غير مسبوقة و احتجاج ميداني وفي الشارع لكنس الاستبداد والفساد بالمرة، مثلما فعل أولئك الذين سارعوا إلى مفاوضات إيكس ليبان لقطف ثمار غير ناضجة بعد لمقاومة ولتحرير بدأتا للتو تزخيم فعلهما في مواجهة المستعمر، استعادت السلطة المخزنية بعضا من أنفاسها في مواجهة هذه الهبة الشعبية، بالاستجابة التقسيطية لبعض مطالب الشارع حينا وبالتهدئة حينا وباحتواء هؤلاء المهرولين والاستقواء بهم على الشارع حينا آخر، فكانت النتيجة مسلسل دستوري وانتخابي –التف على مطالب الشارع ولم يحسم نهائيا مع القطع الجدري مع الاستبداد وومع إقرار تداول فعلي على ممارسة السلطة المستمدة كليا من الشعب، عشنا أطواره في سباق ضد ساعة الحراك الشعبي عملا على إطفائه، أطلق سراح بعض المعتقلين السياسيين، وبقي الكثير من المظلومين وراء القضبان، سارع الحاكمون بالقيام بإجراءات استعجالية إطفائية فكانت الزيادة في الأجور، التي انطفأت بها شعلة بعض النقابات التي انخرطت في الحراك الشعبي بداية، أصدر مرسوم يتم بموجبه الإدماج المباشر للمعطلين حاملي الشهادات العليا في الوظيفة العمومية، فتم إخماد بعض حرارة الشارع اجتماعيا، ثم كانت التشكيلة الحكومية التي جاءت على إثر انتخابات عرفت مقاطعة واسعة لكنها في نفس الآن عرفت صعود قوى جديدة إلى سدة خدمة السلطة المخزنية، ثم لحظة بلحظة كانت العافية المخزنية تستعيد هيبتها، تراجع عن وعود بالتوظيف المباشر للمعطلين، ارتفاع لأسعار البنزين لتغطية ما خلفته الزيادة في الأجور، ثم حديث في الآونة الأخيرة عن إلغاء صندوق المقاصة تحت ذريعة حماية الفقراء، توقيف مسلسل إطلاق سراح باقي المعتقلين المظلومين، ثم توالي قصاصات البيانات والبلاغات التي تصدر عن مؤسسات حقوقية ولجان تنسيق تؤكد وجود حالات عديدة للتعذيب من داخل السجون يندى لها جبين كل شريف في وطننا، تعنيف وحشي شبة يومي للمعطلين في الشارع، ولكل من يقوم بوقفات احتجاجية سلمية من عائلات المعتقلين الإسلاميين والمظلومين عموما، اعتقالات في صفوف بعض الرموز الشبابية لحركة 20 فبراير... إعادة تأسيس حزب الامة - إعادة الإحالة على القضاء، وتدور الدائرة ... قلبي على هذا الوطن فلقد ادلهمت فيه الخطوب والمصائب والآلام في هذا السياق من محاولات استعادة المبادرة للسلطة المخزنية للتحكم في الوضع من جديد، سيكون لحزب الأمة حظ في مسلسل هذه الاستعادة، فبعدما قرر مناضلوه معاودة التأسيس من جديد حتى لا يتيه نضالهم في ردهات المحاكم في انتظار هذا الإنصاف القضائي الذي لن يأتي، و بعدما قدر أن ميدان فعله ليس هو المحاكم والمرافعات والمذكرات...، وتصديا لهذه المحاولة المخزنية اليائسة لمحاصرة مناضليه بين جدران المحاكم وتكريس ثقافة الانتظارية لديهم حتى يجود علينا الحاكمون بمنحة هذا الاعتراف القانوني، كان قرار إعادة التأسيس وكان مجهدا لكونه يتمثل قانونا للأحزاب السياسية صودق عليه في نسخة منقحة في عز هذه المحاولات الاحتوائية للحراك الشعبي، يمنع بمقتضاه بشكل تلقائي وبقوة القانون نفسه الملايين من المغاربة من حقهم في التأسيس لأنه يشترط في بنوده أن يكون المؤسس مسجلا في اللوائح الانتخابية، وياللمفارقة !!! الدولة في شخص وزارة داخليتها ترفض اعتماد البطاقة الوطنية في التسجيل التلقائي والمباشر في اللوائح الانتخابية، وهي أيضا تشرع في شخص برلمانها لقانون يشترط على المؤسس أن يكون مسجلا في لوائح انتخابية وهي تعلم أن غير المسجلين بالملايين بسبب قيد عدم اعتماد بطاقة التعرف الوطنية، إذن في خلاصة الدولة تقصي بقوة القانون وبشكل منهجي وتعسفي هذه الملايين من المغاربة غير المسجلين في لوائح انتخابية تصر الدولة أن تظل طريق التسجيل فيها هي هي... وقانون الأحزاب هذا هو الذي بموجب مقتضياته "السحرية" قد تتناقض "الحقيقة الوثائقية الثقيلة" للتأسيس مع "الحقيقة الميدانية والبشرية" في التأسيس، فهو بمقتضاه قد يلغي جوهر القانون ومقصده بسبب شكليات تافهة، فالمؤسس موجود بلحمه وشحمه لكن حقيقة وجوده مؤسسا بحسب هذا القانون "السحري" ينبغي اثباتها بالسطر والنقطة والفاصلة في شهادة إدارية ضمن الشواهد التي يستوجبها هذا القانون نفسه... حذار إذن فوجود المؤسس ينبغي أن يرفق بعمل تفصيلي ممل لإثبات وجوده وثائقيا وليكن الحذر شديدا في التدقيق في سطور ومضامين وثائقه، هكذا ينقلنا هذا القانون من تفاصيل البرنامج السياسي والرؤية والتصور والتعبئة لتوسيع التغطية الحزبية الضعيفة في بلدنا، إلى تفاصيل إدارية مملة يكون لتقدير وزارة الداخلية القرار الأخير في قبول هذه الوثيقة أو تلك لإثبات صفة مؤسس على هذا المناضل أو تلك المناضلة، ثم بعدها يترك لها التقدير أيضا في إحالة ذلك على القضاء، إن جوهر القضية يتمثل في هذا التدبير البئيس للمشهد الحزبي والسياسي الذي تقوم به وزارة الداخلية، والحال أن الطريق الراشد لتدبير سياسي وحزبي يخرجنا من ضيق التغطية الحزبية الضعيفة إلى آفاق واسعة ومغرية للمواطن المغربي، هو استقلالية هذا التدبير على مستوى التأسيس عن وزارة الداخلية، واضطلاع القضاء به في إطار من الإصلاح الشامل الذي يكون إصلاح القضاء قطب رحاه، واستقلالية هذا التدبير على المستوى الانتخابي عن وزارة الداخلية... إن الإحالة الأساس التي تؤسس لحياة سياسية ديمقراطية نزيهة وحرة لا تنطلق من إحالة ملف تأسيس حزب معين ولا ملف انتخابي معين على القضاء، بل تبتدئ أساسا من إحالة كل ملف تدبير التأسيس للأحزاب السياسية وتدبير الانتخابات على سلطة قضائية مستقلة... دون ذلك سيظل التحكم القبلي والبعدي في المشهد الحزبي والسياسي والانتخابي لوزارة الداخلية هو سيد الموقف وهو العلة الأساس لهذا العزوف الفاضح للملايين من المواطنين المغاربة والمواطنات عن العمل الحزبي وعن المشاركة الانتخابية... مكناس فاتح شعبان 1433 21 يونيو 2012