على إيقاع هادئ يشبه نبض الأرض، وفي فضاء تتقاطع فيه الروحانيات مع العادات الضاربة في عمق التاريخ، تتواصل في الجماعة الترابية تنزرت بضواحي تارودانت، فعاليات الموسم الديني اليهودي، وطقوس "الهيلولة" عند ضريح الحاخام دافيد بن باروخ. وترأس احتفالات هذا العام 2025 سعيد أمزازي، والي جهة سوس ماسة عامل عمالة أكادير إداوتنان، إلى جانبه مبروك تابت، عامل إقليمتارودانت، وكريم أشنكلي، رئيس مجلس جهة سوس ماسة، بمشاركة حاشدة لممثلي المصالح الأمنية والعسكرية، ومنتخبين محليين، إضافة إلى حشود من أفراد الطائفة اليهودية المغربية القادمين من مختلف مناطق المملكة ومن بلدان المهجر، خاصة فرنسا وكندا وإسرائيل.
انطلاق احتفالات "الهيلولة" وانطلقت احتفالات "الهيلولة" ليلة الثلاثاء، لتستمر على مدار أسبوعين، ويتخللها الصلاة والدعاء والتبرك بروح الولي الصالح الحاخام دافيد بن باروخ، الذي توفي عام 1760، حسبما أفاد يهود مشاركون في إحياء هذه الطقوس الدينية. وتبدأ مراسيم الاحتفال بإيقاد 8 شمعات؛ بمعدل شمعة عن كل يوم (قبل موعد الاحتفال) في "حانوكا" (مجسم في ساحة الضريح يحتوي على تسع شمعات)، أما التاسعة فيتم إيقادها ليلة الهيلولة إيذانا بالفرح والسرور وكسب البركة، كما يقول الحاخام اليهودي ألبير داغون. وبالتزامن مع إيقاد الشموع داخل ساحة الضريح وخارجها، تنطلق مراسم "الذبيحة" التي تشكل حدثا كبيرا في طقوس احتفالات "الهيلولة"، وتتكون من أبقار وخراف ودجاج. وطوال الأيام التي تسبق ليلة الهيلولة، تقدم الذبائح كهدية للحجاج اليهود وضيوفهم. وقال الحاخام اليهودي نحمان بيطون: "إن أجدادنا دأبوا على القدوم إلى ضريح (دافيد بن باروخ) لإحياء هذه الطقوس المقدسة، وسار أبناؤهم على نفس النهج لنيل البركة وإبعاد السقم والعلل وطلب رضى هذا المقام". وأضاف موضحا: "يؤدي حجاج اليهود الصلاة ليلة الهيلولة، ويتشاركون في الرقص والغناء، ويقتنون شمع المزار بمبالغ تتراوح بين 10 و 40 درهما". ويعتقد اليهود أن هذه الشمعة تجلب الرزق والبركة والعافية، وتشفي من الأمراض، وتمد العشرة الزوجية طوال العام، وفق ما أفادوا. موسم ديني بروح مغربية لا ينحصر معنى "الهيلولة" في بعدها الديني فقط، بل تعد مناسبة سنوية لاستحضار تاريخ طويل من التعايش بين المسلمين واليهود في المغرب، حيث ظل اليهود المغاربة جزءا أصيلا من النسيج الاجتماعي والثقافي للبلاد. وتتجسد في هذا الموسم، مرة أخرى، الرؤية المغربية في صون التعدد الديني وتعزيز قيم الاعتدال والانفتاح، باعتبار المغرب أرضا للعيش المشترك واحترام الخصوصيات الدينية. وتتميز أجواء الاحتفال بلحظات روحانية مؤثرة، ترفع خلالها الأدعية. شهادات واعتقادات من الحكايات التي يتناقلها حجاج اليهود في موسم الهيلولة، قصة السيدة اليهودية التي روتها صولانج بوختال، وهي مغربية يهودية مقيمة في فرنسا، مفادها أن "سيدة يهودية أخرى قدمت من فرنسا إلى الضريح قبل 70 عاما وكانت عقيما، وأقامت في الضريح لنحو 10 أيام، فحملت بعد عودتها إلى باريس وأنجبت ابنا سمته دافيد". وأصبح الابن دافيد، وفق رواية صولانج، منذ ولادته مواظبا على زيارة الضريح والتبرك به وتقديم الهدايا من الذبائح والمال، كي يعم خيره على زائريه. وقد تركت هذه الواقعة صدى عميقا لدى صولانج التي دأبت على زيارة ضريح دافيد بن باروخ منذ أن كان عمرها لا يتعدى الخمس سنوات. وأكدت صولانج في لقاء معها، أنها تأتي إلى هذا الضريح "طالبة الشفاء ولصحة أبنائها، وليمتنا السلام والمحبة ويحفظنا ويبقينا دائما مطمئنين". وإلى جانب صولانج، يتبارك الشيوخ والكهول اليهود بالقبر، بينما الأطفال يشعلون الشموع ويتمسحون بالجدار ويدمعون وينشدون ويرقصون فرحا بالمناسبة. بدورها، قالت الطفلة اليهودية أوريل مويال (16 عاما): "آتي مع أسرتي من فرنسا إلى هذا الضريح منذ 4 سنوات، أطلب من الله أن يمنحنا حظا أوفر ومستقبلا أفضل". ضريح له ذاكرة عابرة للقرون يقع ضريح الحاخام دافيد بن باروخ في مقبرة "أغزو نباهمو" بالجماعة الترابية تنزرت، ويعود تاريخ وفاته إلى سنة 1760 ميلادية. ومنذ ذلك الحين، ظل هذا المكان مزارا دينيا وروحيا يستقطب اليهود من داخل المغرب وخارجه، خصوصا خلال مناسبة "الهيلولة" التي تتزامن مع اليوم الثالث من شهر "طبيبط" وفق التقويم اليهودي. ويحرص الزوار على إحياء ذكرى وفاة الحاخام عبر طقوس دينية متنوعة، تشمل إيقاد الشموع، وتلاوة الصلوات باللغة العبرية، والتبرك بروحه، وذبح القرابين تحت إشراف حاخامات، وتجميع التبرعات التي توجه لأعمال خيرية داخل الطائفة. طقس غير مكتوب في برنامج الاحتفال بعيدا عن الطقوس الرسمية، يلفت انتباه الزائر للموسم طقس غير معلن، لكنه حاضر بقوة في الذاكرة الجماعية للمنطقة. فمع اقتراب الظهيرة، وبعد ساعات من التلاوة والزيارة والتبرك، يخفت صخب المكان تدريجيا، ويستسلم الحضور للسكون. وتحت ظلال أشجار الزيتون ووسط خيام بسيطة محيطة بالضريح، تتحول الهيلولة إلى لحظة جماعية للتأمل واستعادة الأنفاس، كأنها امتداد طبيعي لروح "الهيلولة" القائمة على السكينة والتقرب إلى الله. وهنا لا تفهم الهيلولة على أنها مجرد استراحة جسدية أو روحانية، بل كطقس ديني سنوي ضارب في عمق التقليد اليهودي، يقبل خلاله حجاج يهود العالم منذ قرون على هذا المزار، احتراما للموسم وطلبا للتبرك ونيل الرضا والبركة، وفق معتقداتهم. فالهيلولة ليست مجرد موسم ديني، بل تحولت إلى مرآة تعكس مغربا متصالحا مع تاريخه، وفخورا بتعدده، حيث تتآلف الصلوات ولحظات الصمت، وتصبح الذبائح لغة غير منطوقة للتسامح والتعايش، تنبع من ضواحي تارودانت.