في كتابه الرائع هرطقات، يتحدث جورج طرابيشي في الفصل الأول من الكتاب المذكور عن إشكاليات الديمقراطية في الوطن العربي. إذ نجده يؤكد أن الديموقراطية يرفع شعارها و يتم الترويج لها في العالم العربي اليوم كما لو أنها إيديولوجيا خلاصية جديدة. فالعرب – أو مثقفوهم بالأولى- يراهنون اليوم على الديموقراطية مثلما راهنوا في الأمس على الاشتراكية، وقبل الأمس على الوحدة. ففي مواجهة تحدي التخلف و ذل الجرح النرجسي الذي مازال ينزف بلا التئام منذ اكتشاف واقعة التقدم الغربي، بغزارة متزايدة طردا مع تعمق الهوة التي تفصل المجتمعات العربية عن المجتمعات المنتجة للحداثة و المستقبلة لها على السواء، تم تحويل الديموقراطية في المخيال العربي بعد فشل الإيديولوجيات القومية و اليسارية الثورية، إلى كلمة "سمسم" بديلة لفتح مغارة الحداثة المستغلقة، و لتحقيق نقلة عجائبية، بلا مجهود ولا كلفة و لا زمن، من واقع التأخر إلى مثال التقدم. فقلب المشكلة، إذن هو: هل الديموقراطية شرط مسبق أم هي نتيجة وحصيلة لتطور مجتمع بعينه؟ وبديهي أنه لا يمكن في أية سيرورة تاريخية عضوية- و الديموقراطية سيرورة من هذا القبيل- فصل الشرط عن النتيجة، و النتيجة عن الشرط. و لكن النظرة الإيديولوجية الخلاصية التي تجعل من الديموقراطية مفتاحا فاتحا لجميع الأبواب، تفسخ العلاقة ما بين الشرط و النتيجة، و تؤسس الأول- وهنا الديموقراطية- في نصاب الشرط المسبق المطلق. فالديموقراطية تعمل، من منظور الإيديولوجيا الخلاصية، كمطلق. فهي الشرط السابق لكل نتيجة لاحقة. بدونها لاشيء، و بها كل سيء. و كدواء لجميع الأدواء، فإنه لا يجري أبدا التفكير في أن الديموقراطية قد لا تكون قابلة، حتى كترياق، لأن يتحملها جسم المريض. و حتى إذا افترضناها ترياقا عميم النفع في إطلاق الأحوال، فليس ينبغي أن يغيب عنا أن الديموقراطية تحمل معا عذاباتها. وقد كانت ممارسة الديموقراطية حتى في مسقط رأسها – و في لحظات بعينها من تاريخ أوروبا الغربية كما في بقع بعينها من جغرافيتها- ممارسة جديرة بالوصف بأنها جهنمية أكثر منها فردوسية. و قد نستطيع الاستشهاد بالديموقراطية الأمريكية في عهد المكارثية، و بالديموقراطية الإيطالية في عهد استئثار الديمقراطيين المسيحيين بالسلطة. و يكفي اليوم أن نجيل النظر في ما يجري في روسيا لنعرف أن الديموقراطية قد تكون هي نفسها حاملة لأمراض جديدة إذا ما طرحت بطريقة ميكانيكية. و ليس من الصعب أن ندرك الذنب الذي تقترفه الإيديولوجيا الخلاصية عندما تجعل من الديموقراطية، لا ثمرة يانعة برسم القطف فحسب، بل ترأرئ بها أيضا للمعذبين في العالم العربي كما لو أنها فاكهة الجنة. فالخطيئة هنا هي خطيئة "اقتصاد المعجزة". خطيئة التصور بأن الديموقراطية لا تقتضي جهدا، بل تعفي من الجهد. خطيئة التوهم بأن المجتمعات العربية ستستيقظ ذات يوم فجأة مع الديموقراطية، بالديموقراطية، لتجد نفسها و قد نفضت عنها رداء التشرذم و التخلف، وانتشلت نفسها من هوة الفوات الحضاري المتعمقة، و انتقلت إلى مقدمة المجتمعات المتقدمة. بديهي، أننا لا نماري في أن الديموقراطية شرط من شروط الإقلاع، و لكنه شرط لازم من غير أن يكون كافيا.