ملأت ساحتنا الثقافية والسياسية، بمناسبة ظهور كورونا وانتشاره، مساءلات تواجه بين الذاتي والجماعي، بين الانزواء والانفتاح، بين الاحتفاء بالذات والاحتفال بالجماعي، بين الفردانية والجماعة، بين العناية بالأنا والعناية بالآخر. فبدت الحياة منشطرة إلى شطرين متناقضين متنافيين ما إن يحضر أحدهما حتى يغيب الآخر. وظهرت الحال مع كورونا كأننا نستفيق من المصائب التي أدخلنا إليها "الاجتماعي والتعاشري". نستفيق من أهوال التدامج والتفاعل والتقارب والتصاهر والتزاوج، نستفيق على أن الجميل في الحياة قد ينقلب إلى بشع ونتن وخشن. وكأن ما حدث كان نتيجة انفلات تذاوتي. كنت، وما أزال، انطوائيا وخجولا بعض الشيء، فلا أباغت الآخرين، ولا أترك لهم فرصة سهلة لاختراقي. وكأن ذاتي تتحصن بالانكماش ولاترى يفاعتها ونضارتها العمرية إلا في الانزواء الذي أترجمه في أنشطة مختلفة قد تكون من اختياري وقد تكون من اختيار محيطي الأسري. لكن بمجرد ما يباغتني الآخرون، أخلع عني انطوائيتي بدون عسر أو عنت، وأكشف عن عفويتي وطلاقة شخصيتي، وعما أهواه وما لا أهواه. أنا هو أنا، وأنا ليس هو أنا. هذا أنا. كان الخارج يستهويني دائما. أجد فيه كل ملاذي ومتعتي، وكل زادي في الحياة. لم أختر أن أكون بيتوتيا، بحيث إني لا أكاد أطيق المكوث في البيت. أشعر بالضجر مما يكرهني على ما لا أرضاه لنفسي. كان الخارج عندي وما يزال يعني العمل والحراك، يعني الانفتاح على الكون، وعلى ما فيه من كائنات وأوهام، وانفعالات وتمثلات وخرافات وأساطير وخيلات وأحلام. كان الانفتاح وما يزال انفتاحا على نفسي وانفتاحَ نفسي علي وعلى غيري. وقد تشكلت لي في ذهني صورة عن البيت ليعني، بالنسبة إلي، الراحة والاستراحة والاسترخاء، وجمع العشيرة ومرتع الحميمية. ولئن كان البيت كذلك فهو فضاء للنوم، ووكر للصمت، واصطرلا ب أحدد به موقعي في خريطة العالم حتى لا يجرفني التيه واللامكان. وبقدر ما كان البيت كذلك، بقدر ما كان وما يزال حبسا للذات والأحلام والطموح والتحرر، ومعقلا للسكوت وللاكتفاء الذاتي. وكم من مرة حولت الفردي مني إلى الجماعي. البيتوتية تسمح بالتفكير والتأمل والتخيل. وإذا كان التأمل ذاتيا والتخيل مجنحا، فإن التفكير محدود ومغالقه كثيرة ومتعالقة، فضلا عن أن موضوعات الداخل محصورة ومجال لا يتيح إلا رؤية ثاخنة. وما يصدر من الدار تعليمات وأوامر يسهر على تنفيذها رب الأسرة. فللدار أسرارها، ومن واجباتنا حفظ الأسرار. ولأن كل مؤسسة لا تنشأ بدون منظومة أفكار، فإن للداخل طقوسا كابحة، وقبل هذا وذاك مساحة تبقى أضيق من مساحة الخارج. وبضيقه يصير موطنا للفتنة، والفتنة صداع وقلقلة، لكنه، في الوقت ذاته، يبقى محفلا للإخفاء والستر والغموض والتكتم والرضوخ والطاعة. الداخل طنجرة تغلي، وصمت داخلي عنيف يفجر حوارا داخليا. إنه الذات بانفلاتها و بلجم نزواتها. هكذا، تصبح البيتوتية انزواء ودخولا إلى عالم الذات وا لانغماس فيه. إنها نفي للذات وحبس لها. إنها الحياة خارج المدار الاجتماعي حيث تتقلص مساحة الذات وتنقطع عرى التشوف. البيتوتية علاقة صوفية مع المكان والزمان، مع هنا والآن، إنها خيط رهيف يسمو بالعشق ويؤسس للوجد والوله النوراني، ويمتشق سلاح الفتح نحو القبس الضوئي للعمق. وهي أفق المطلق وهو يخيم على أرواح السموات العلى، في وقت يعتبر فيه ناموس الحياة جسرا نحو السماء. هكذا كانت البيتوتية جمعا لتشظي الذوات، وكانت سموا عن دناءة الوقت، وشرفة يطل منها المرء على أبجديات الوقت البريء. البيتوتية بناء وردي ونغمات رونق صوتي وتوهيم روحي يسري في الذوات المنشطرة ويجول بنا في ردهات الحياة خالين من سطوة الرتابة والعقل حتى ليكاد المرء يفكر بعينيه ويرى بعقله ويتأمل بهواه لتصير البيتوتية بلورة لجسر بين السماء والأرض، وطريق ابتهال صوفي تصنعه الحروف والرسوم على جبين التحدي. في مقابل البيتوتية، هناك الاجتماع، والقرب، والحوار، والاصطدام، والسؤال، والصراخ، والبكاء، والحب والعناق والمصافحة، والاحتضان والانفتاح. وهذا المسار هو المفتاح إلى الإنسان وإلى الآخر؛ إذ لولا الاجتماع لما اكتشفنا ما نختزنه من طاقات وقدرات وأهواء وتمثلات، ومن هواجس وأوهام، وتعاون، وعشق، وما يفرزه البوح مما لا ينبغي الانفراد به. الاجتماع والتعاشر معرفة وعلم وتطلع عقلي وتنمية مشاعر، واكتشاف، وانفتاح على الحياة، وتمرد. إنه الضوء الآتي إلينا والمتسرب إلينا من مختلف الذوات، وهو الأفكار التي يجلوها العالم والعامل والكهل والمراهق والطفل والرجل والمرأة في مختلف المواقع والأزمان والحالات والوضعيات. خارجُ البيتوتية مجال لفرز قدرة الإنسان ومهاراته وفضوله ونجاحاته وإخفاقاته، وابتكاراته، ولحظة اكتشاف عقله وعاطفته، وتمييز الممكن من المستحيل، وتعلم بلورة الرأي الجماعي والإرادة الجماعية، والإيمان بالبناء للغد ولإنسان الغد، وتحدي الموت بالنسل والخلف، وتفويت ما يُعرف إلى الآتين من بعده. الحياة فسحة وهتك للرتابة وإصرار على معرفة ما يعوق خلود الإنسان، ومن ثمة الإصرار على الاختراق والاكتشاف، أي ركوب المغامرة والمخاطرة. لكن الاجتماع أيضا خروج عن القانون وخلخلة مستمرة له، وخروج عن المثل واختبارها الذي قد يكون بتدمير الحياة ذاتها. الحياة رهان إنساني على تطويرها وتحسينها وجعلها في خدمة إنسان يتطور على نحو سريع وغريب. إنسان يتجدد وبقدر ما يكثر من السؤال بقدر ما يكثر من الأجوبة. وكلما تعددت الأجوبة تناهت إلى علمه صعوبة الأجوبة وجاهزيتها. وفاض السؤال فولد طوفانا فكريا يبلبل ألسنة الإنسان وعقول الناس. والاجتماع أيضا ضياع في شبكة من العلاقات غير المتناهية والمترامية الأطراف. جاءتنا كورونا ذات شتاء، جاءتنا مرضا فتاكا، ينتقل عبر اجتماعنا وتعاشرنا، يفتك بالصغير والكبير في البلدان المتقدمة والبلدان التي سميت بالسائرة في طريق النمو. مع ظهوره وانتشاره غابت الابتسامة ليحل محلها العبوس الفردي والقلق النفسي والاضطراب الوجداني، وليحل الارتباك محل الهدوء والسكينة، جاء عاصفا فكشف عن ضعفنا وهشاشة جانبنا، وصعب علينا أن نعزز مقاومتنا وتصدينا له. لم يقو نظامنا الصحي ونظامنا الغذائي بكل ما اكتشفناه من أدواء وآلات طبية وأدوية ووصفات أكل وشراب على منازلته. بدا أن دباباتنا وأسلحتنا المدمرة وسمومنا وغزواتنا وحروبنا الهوجاء وعسكرة قيمنا لم تنل منه ولا تستطيع. كل تغني الإنسانية بالتقدم والتحكم في نواميس الطبيعة لم يصمد. فتحول خطابنا من العنجهية والتحدي إلى خطاب الهروب إلى الأمام، خطاب انحناء الرأس أمام عاصفته الهوجاء، خطاب العجز الفردي والجماعي… خطاب تسليم أمورنا إلى الغيب ، مع محاولات الاحتيال والنصب. صار الفزع يتجول في أحشائنا وخلايانا، وصارت الأفكار في رؤوسنا قنابل موقوتة. أدركنا مع كورونا أن النظافة، نظافة البدن ونظافة الروح، هي المبتدأ والمنتهى، وكأننا لم نكن ندبر سابقا إلا الخنز والخزي والقاذورات، وانتهى بنا فكرنا إلى أن كورونا قد وفدت علينا وهي تريد بشرها بعض الخير، فجاءت لتنقذنا مما أفرزه المجتمع من خبائث، وجاءتنا بالهروب والانزواء، هروب من أمراض العصر، وتفادي الضرر والإيلام، والاستسلام للكون ولنواميسه، وقبول الأمر الواقع. فكانت عنوان انهزام وكسل. والتجأنا إلى الحميمية والأحضان لندفن حزننا وامتعاظنا وهزيمتنا وغصصنا وندمنا، ولنتعاضد معنويا كي لا تفت كورونا في عضدنا. هرعنا من الشارع إلى البيت، فملأنا البيوت وأفرغنا الشوارع. رسخنا في أنفسنا أن كرونا مناهضة للخروج، فهي قمع ومنع وسجن واعتقال. لكننا اكتشفنا أن في البيتوتية بعض المزايا. وأن في الخارج بعض المزايا، وأن الصلح بين الداخل والخارج فرض عين. فلا حياة لأحدهما دون الآخر. نتفنن في صنع الأمراض ونكد من أجل التفنن لإيجاد الأدوية. هكذا الإنسان يصنع الحياة ويدمرها. يفك الألغاز ثم ينساها أو تختلط عليه وتلتبس. يجمع المتناقضات، ويخلق من المتاعب ما يحسن إليه وما يضره، ما يؤلمه وما يفرحه، ما ييسر عليه الحياة وما يعسرها. كلما ارتقى كلما تدحرج وانهار. وكأن الإنسان مدعو إلى التعايش مع الجائحة وإلى التوفيق بين مبتغى الجائحة ومبتغاه. فتأكد أن الإنسان مخلوق سيزيفي بامتياز هي وقفة للتأمل، وقفة للتفكر، وقفة لتكنيس الوعي مما تصالح معه الإنسان من قاذورات وعاهات فكرية. وقفة لتحشيد الجهود نحو خدمة الإنسان باعتماد أقصى ما يمكن من احترام الحقوق الفردية والجماعية، ونهج المشاركة الحقيقية في مختلف مجالات التدبير بإدماج الاختلاف والمغايرة، على قاعدة استراتيجية تعتني بصحة الإنسان وعمله وتعليمه والرفع من قدراته في التفكير والتحليل، وتنمية كفاءاته في الاستمتاع والاستلذاذ، وجعل التطور التكنولوجي في خدمة هذه الأهداف الكبرى. نحن بحاجة إلى ميثاق دولي يتعبأ الجميع لصياغته وإنجاحه. إن التنمية لا ينبغي أن تقاس إلا بما يطور وضعيات البشر صحيا وفكريا وإنسانيا واجتماعيا ونفسيا. هذا هو مقياس التطور والنمو، وضابط الارتقاء بالفرد والجماعة. لا غلبة للإنسان على كورونا ما لم تكن خدمة الإنسان هي مآلنا الفردي والجماعي، الآني والمستمر، وما لم تتواشج إرادات الثقافات والإيديولوجيات والأجناس في اختلافها وباختلافها لتؤسس وحدة المصير المشترك. آنئذ فقط قد نكون في مستوى مجابهة كورونا الصحية والثقافية والوجودية والسياسية والاجتماعية.