يعيد موقع "لكم"، نشر رسالة عبارة عن وثيقة تاريخية، نبهت باكرا إلى غياب الإرادة السياسية الحقيقية للنهوض بقطاع التعليم في المغرب، باعتباره رافعة تقدم وتطور الشعوب والدول. أهمية هذه الوثيقة، لا تكمن فقط في ما تضمنته، وإنما في كاتبها الذي هو المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليا، وفي المرسل إليه وهو الملك الحسن الثاني، وفي توقيتها الذي يعود إلى ست سنوات بعد استقلال المغرب. والرسالة، رغم قصرها، تضمنت اختزالا مركزا لواقع التعليم في المغرب، الذي مازال يعيد إنتاج نفسه بعد مرور 63 سنة على كتابة هذه الرسالة التي جسدت أعطابه البنيوية التي صاحبته منذ السنوات الأولى لسنوات المغرب. الرسالة كتبت في فترة انتقال حرجة في تاريخ المغرب، كانت بداية تحول كبير في مساره السياسي والتاريخي، فقد جاءت بعد انقلاب القصر على حكومة عبد الله إبراهيم، وتولي الملك محمد الخامس رئاسة الحكومة، لكن من كان يدير شؤونها هو ولي عهد الأمير الحسن، وفي هذه الفترة كان على رأس وزارة التعليم عبد الكريم بن جلون التويمي من حزب "الاستقلال". وفي هذه الرسالة ينبه كاتبها إلى أن وزارة التعليم، تحت إشراف الوزير الاستقلالي، اعتمدت المحسوبية والولاء، واستبعدت الكفاءة معيارا لتولي المسؤوليات، في ما قامت بمحاربة "العناصر المغربية الأكثر صلاحية وشعورا بالقلق إزاء مستقبل بلادها"، من طرف حزب "الاستقلال"، حسب ما داء في الرسالة. وفي نفس الرسالة حذر جوليان الإرتجال في مجال التعليم وكتب منبها: "إذا كان هناك من مجال يعتبر الارتجال فيه خطيرا ومدمرا للمستقبل، فهو مجال التعليم، لكن لا يبدو أن أحدا يعي ذلك"! وبخصوص سياسة التعريب التي انتهجها حزب "الاستقلال"، لفت جوليان إلى خطر أن تجعل هذه، وبالطريقة التي تمارس بها من المغرب خلال بضع سنوات بلدا متخلفا فكريا وثقافيا. ولفتت الرسالة إلى المفارقة المتمثلة في نفاق النخبة المغربية التي تشيد بالمدرسة العمومية المغربية وبالثقافة العربية، لكن أفرادها "يتقاتلون أمام أبواب البعثة الفرنسية للحصول على مقاعد لأبنائهم في المدارس الفرنسية"، حسب نفس الرسالة. صاحب الرسالة أما صاحب الرسالة فهو شارل أندري جوليان (1891 1991) ، مؤرخ وصحافي فرنسي مختص في شؤون المغرب العربي، وقد درّس خاصة في معهد الدراسات السياسية بباريس، وفي المدرسة القومية للإدارة وفي السوربون. اشتغل في بداية مساره المهني موظفا في ولاية وهران، عندما كانت الجزائر مستعمرة فرنسية وقد صدمته ممارسات الاستعمار للسكان المحليين، فانخرط في العمل السياسي باكرا، وانتمى إلى اليسار وتعرف على مثقفين وسياسيين معارضين للنظام الاستعماري من بينهم أندريه جيد، وأصبح أحد قادة الأممية الثالثة بالجزائر. وبعد زيارته روسيا البولشفية عام 1921، أصيب بخيبة أمل من الشيوعيين، فقرر مغادرة اليسار والانضمام إلى الجبهة الشعبية، ودعاه آنذاك رئيس الحكومة ليون بلوم إلى قصر ماتينيون وكلفه بتكوين دائرة جديدة للبحث عن إيجاد حلول للمشاكل المتعلقة بالاستعمار الفرنسي في الجزائر والمغرب وتونس. في عام 1931 أصدر كتابه الأول، تاريخ إفريقيا الشمالية؛ وفيه فند الأطروحات الاستعمارية التي تقول بأن تاريخ الجزائر يبدأ من عام 1830. وفي ثلاثينات القرن الماضي، تولى رئاسة تحرير المجلة التاريخية "Revue historique". ربط علاقات قوية مع الحركات التحررية في المنطقة المغاربية، وندد بتجاوزات السياسة الفرنسية في المغرب العربي، وبانزلاقات الجمهورية الرابعة خاصة بعد اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات. وخلال الأزمة المغربية، قدم نصائح للسلطان المغربي محمد الخامس. وقرر العمل بالصحافة لدعم حركات التحرر التي بدأ تبرز بعد الحرب العالمية الثانية، وساهم إلى جانب هوبير بوف ماري في تاسيس جريدة "لومند" الفرنسية. بعد استقلال المغرب، دعاه الملك محمد الخامس لتأسيس الجامعة المغربية، وسمي أول عميد لكلية الآداب بالرباط عام 1957، وظل في منصبه حتى استقال منه عام 1961، وفي هذه الرسالة الوثيقة يشرح أسباب استقالته. وبعد ذلك كرس وقته للتدريس أستاذا بالسوربون وواصل الاشتغال حول إفريقيا الشمالية. وفي ما يلي نص الرسالة: – شارل أندريه جوليان – باريس1 نوفمبر 1960 لقد توقفت منذ 31 أكتوبر الماضي عن أن أكون بشكل رسمي عميد كلية الآداب بالرباط. ومن ثم فإنه يمكنني الآن التحدث بحرية. لقد تم استدعائي من قبل جلالة الملك للمساهمة في تعزيز العلاقات الثقافية بين الغرب والشرق، وقد بذلت قصارى جهدي في هذا الباب؛ فقد خلقت من الصفر كلية حازت سمعة قوية، وكانت قادرة على أن تصبح المركز الثقافي الأكثر أهمية في أفريقيا المسلمة، وكذا مركز جذب بالنسبة للأفارقة الفرنكوفونيين. لقد كنت دائما من المؤيدين للتعريب، ولكن للتعريب من فوق؛ إذ إنني أخشى أن يجعل التعريب الذي يمارس في الوضع الحالي من المغرب خلال بضع سنوات بلدا متخلفا فكريا وثقافيا. وإذا لم يدرك المسؤولون ذلك، فنحن لن نقف على هذا الواقع المتسم بالمفارقة، والمتمثل في أن أي موظف، ناهيك عن كبار الشخصيات بل وحتى العلماء، لن يبعث بأولاده إلى المدارس المغربية. إن الدعوة والإشادة بالثقافة العربية قائمان، لكن أصحاب تلك الدعوة يتقاتلون أمام أبواب البعثة الفرنسية للحصول على مقاعد لأبنائهم في المدارس الفرنسية. ونتيجة ذلك سوف تظهر في السنوات القليلة المقبلة: إذ سيكون هناك في المغرب طبقتان اجتماعيتان: أصحاب الامتيازات الذين حصلوا على الثقافة الغربية التي تؤهلهم لاحتلال مناصب السلطة والقيادة في المجتمع، والطبقة الثانية المتمثلة في الأغلبية الساحقة المقيدة والمسمرة في الدراسات العربية الضعيفة والسيئة التنظيم في ظل الظروف الراهنة، والتي ستسجنهم في الإطارات الهامشية والثانوية بالمجتمع. لقد كان بالإمكان مع قليل من الصبر والتفكير المنهجي التوصل إلى نتيجة مغايرة تماما، الأمر الذي من شأنه أن يمكن كل الأطفال من حظوظ مستقبلية متكافئة. لا يبدو أن وزارة التربية والتعليم تلبي الخدمات المتوقعة منها، ولا يمكننا القول بأن النظام والكفاءة ينتصران بها، فالعناصر المغربية الأكثر صلاحية وشعورا بالقلق إزاء مستقبل بلادها تمت محاربتها داخل حزب الاستقلال. إن الملفات الهامة يجري تقاسمها في بعض الأحيان بين ثلاثة مصالح دون أن يسمح للسكرتارية العامة بلعب دورها الطبيعي في التنسيق بينها. ولا يبدو أن الوزير يرغب في لقاء الآخرين: إذ بصرف النظر عن زيارة المجاملة التي تمكنت من القيام بها بعد تعييني، لم تتح لي أية فرصة للتحدث معه. أما مدير التعليم العالي، الذي تدخل الكلية ضمن مسؤولياته، فلا يجيب عموما على الرسائل المرسلة إليه. الإجراءات الهامة جدا تقرر بشكل مرتجل، وحدث لي أن علمت بها عن طريق نشرها في الجريدة الرسمية، دون أن تتم استشارتي و لا طلب رأيي بخصوصها. وهكذا، وفي منتصف شهر أكتوبر عام 1960، تقرر خلال بضع ساعات إنشاء شهادات التأهيل والليسانس المغربية للغة الفرنسية، حتى قبل أن تتم بشكل قبلي دراسة المقررات وكذا قياس مدى تأثير تلك المبادرات. ولقد علمت بهذه القرارات من خلال قراءة نصوص مستنسخة وضعت على مكتب سكرتيرتي الخاصة. إنه من المستحيل إنجاز عمل فعال بتقنية مناقضة تماما لمنطق الإدارة الجيدة والرشيدة. وإذا كان هناك من مجال يعتبر الارتجال فيه خطيرا ومدمرا للمستقبل، فهو مجال التعليم، لكن لا يبدو أن أحدا يعي ذلك. لقد دعاني جلالة الملك إلى الرباط لتعزيز الثقافة المغربية، لا لأكون شريكا متواطئا في خرابها. لذلك انسحبت تاركا للآخرين مسؤوليات سياسة جامعية تبدو لي غير حكيمة و لا حذرة ومحكوم عليها بالفشل. وأكرر أن المغرب حر تماما في اختيار السياسة الثقافية التي تبدو له الأفضل والأمثل، لكن يجب أن يفوض تطبيقها للمغاربة. وهذا هو السبب في أنني طلبت من الوزير استبدالي بعميد مغربي. وهناك نقطة أخرى تبدو لي خطيرة على الرغم من أنها من نوع آخر، وتتمثل في الوضعية الممنوحة للموظفين الفرنسيين في عين المكان، كما أمكنني تقديرها انطلاقا من تجربتي الخاصة؛ فكون أن المغرب يستبدل الفرنسيين بالمواطنين المغاربة، فذاك أمر طبيعي جدا، ولكن أن لا نظهر لهم الاحترام الذي يستحقونه، فهذا يبدو من الصعب قبوله. لمدة ثلاث سنوات، كرست معظم وقتي للمغرب دون تعويض، بخلاف التعويض الجزئي عن نفقاتي. فعلت ذلك عن طيب خاطر وبشكل تطوعي ، لكن أن أوضع في عدة مناسبات أمام الأمر الواقع بعد وقوعه، في حين أنني كنت مسؤولا عن تسيير كلية، فإن ذلك مما لا يمكن أن يكون مقبولا من قبل رجل معتز بكرامته. أن تقوم بكل المهام الرسمية، وأن يتم إقصاؤك عن القرارات الرئيسية والمصيرية، هو موقف أخلاقي يستحيل أن يتحمله أي عميد في أية كلية . عندما، على سبيل المثال، كان رئيس الجامعة ينظم مأدبة عشاء تكريما لزميله في جامعة باريس، الأستاذ ديبريه، ويدعو له مساعدي الخاص بن بشير دون أن يدعوني أنا، على الرغم من أنه يعلم بوجودي في مدينة الرباط، فإنه إذ ذاك سيكون قد مارس تمييزا يؤسف له يجبرني على أن أتذكر أنه في ليلة سان كلود، كنت ضيف جلالة الملك في أول عشاء على شرف المغرب المستقل. وأنا أستطيع من خلال هذا الحدث وحده أن أقيس التحولات والتغيرات التي حدثت بعد ذلك بخمس سنوات. في الحفل العاطفي الذي ميز مغادرتي للمغرب، والذي حضره العديد من المغاربة والفرنسيين، استقبلني أحد الأساتذة، وهو موظف برئاسة الجامعة وكذا نائب عميد الكلية. وزير التعليم لم يكن موجودا، ولا مدير التعليم العالي. إن المغاربة هم الذين عانوا من الإحراج أكثر من الآخرين. وإذا كنت قد تلقيت رسالة رقيقة جدا من طرف السيد رئيس الجامعة، فإن الوزير لم ير ضرورة في إظهار اعتراف المغرب لي بالجميل، لا من خلال مكاتبتي أو حتى من خلال استقبالي. وبالعكس من ذلك، فإن كلا من سفير فرنسا والمستشار في البعثة الثقافية اللذين لست تابعا لهما بأي شكل من الأشكال ، واللذين كانا دائما يحترمان بدقة الاستقلال الذاتي للكلية، فقد خصصا لي في مناسبات متعددة أفضل استقبال. إنني سأمتنع عن الإبلاغ عن موقف وزير التربية الوطنية اتجاهي إذا لم يكن قد جر بعض العواقب التي سأكون ممتنا لو تفضلتم بلفت انتباه صاحب الجلالة إليها. منذ 10 مايو، وهو التاريخ الذي قدمت فيه استقالتي، كاتبت الوزير عدة مرات لأحيطه علما بالوضعية. فلم يجد سيادته أن من المناسب أن يخصني بأي مقابلة. وقبل عودتي إلى المغرب، أبلغته بأنني سأكون في الرباط لآخر زيارة، ابتداء من تاريخ 13 أكتوبر، وأنني أضع نفسي رهن إشارته. لقد كنت أنوي أن أرجوه أن يتقدم عني بطلب عقد لقاء مع صاحب الجلالة؛ فباعتباره موظف المملكة الشريفة، كان علي أنا – باعتباري فرنسيا – أن أعطي المثال في احترام التسلسل الإداري الذي ينطبق على الجميع؛ إذ أن الاتصال مباشرة بالقصر دون توسط الوزير الذي يرأسني فيه إخلال بأبسط القواعد الإلزامية للإدارة. غير أن وزيري لم يكلف نفسه عناء استدعائي، فوجدتني للأسف الشديد في حال يستحيل علي فيها أن أقدم لصاحب الجلالة تشكراتي على الثقة التي أولاني إياها دائما. تفضلوا صديقي العزيز بقبول أجمل التحايا شارل أندريه جوليان، أستاذ في جامعة السوربون ". المصدر: مركز تاريخ العلوم بباريس