في اليوم العالمي لحرية الصحافة، يتجدد الألم الفلسطيني وتُرفع الأقلام لا لتكتب، بل لتُرثي أصحابها الذين قضوا في ميدان الحقيقة، قتلا وقصفا واعتقالا، في واحدة من أبشع الهجمات المنظمة التي تستهدف الصحفيين في العصر الحديث. فقد وثقت نقابة الصحفيين الفلسطينيين، عبر لجنة الحريات الصحفية برئاسة الصحفي محمد اللحام، وقائع مرعبة تكشف النقاب عن حجم الاستهداف الوحشي للصحفيين الفلسطينيين، منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، حتى مطلع ماي 2025. خلال هذه الفترة، ارتقى 210 صحفيا وصحفية، بينما سقط 664 من أفراد عائلاتهم تحت ركام المنازل، أو داخل خيام اللجوء، أو في محيط المستشفيات والمدارس، حيث لجأوا بحثا عن أمان لم يكن يوما مضمونا في ظل آلة حرب لا تفرق بين كاميرا وصاروخ، وبين قلم وقنبلة. وجاء تقرير لجنة الحريات الصحفية بفلسطين، لا ليوثق استهداف طواقم صحفية أثناء تأدية واجبها فقط، بل تحدث اغتيال كامل للحياة المهنية والأسرية للصحفيين، حيث تحولت منازلهم إلى أهداف عسكرية، دُمرت على رؤوس قاطنيها. وقال التقرير إن نحو 90 صحفيا وصحفية قُتلوا في منازلهم التي اعتقدوا أنها الملاذ الأخير بعد تدمير مقرات المؤسسات الإعلامية. وتمثلت إحدى هذه المآسي في استشهاد الزميلة هبة العبادلة مع طفلتها ووالدتها بتاريخ 9 دجنبر 2023 في بلدة القرارة شرق خان يونس، جراء استهداف منزلها.
وأضاف التقرير أن القصف طال حتى الخيام، إذ ارتقى 29 صحفيا داخل خيام نصبوها قرب المستشفيات أو في مراكز الإيواء التابعة للأونروا، مثلما حدث يوم 7 أبريل 2025 باستشهاد الصحفي حلمي الفقعاوي في قصف صاروخي استهدف خيمة للصحفيين بمحيط مستشفى ناصر في خان يونس، أو يوم 7 نونبر 2024 حين استُشهد الصحفيان الشقيقان الزهراء وأحمد أبو سخيل داخل مدرسة فهد الصباح في حي التفاح بمدينة غزة. الموت لم يأتِ فقط بصاروخ أو قذيفة، بل تجسد في صور مختلفة من الإجرام والبطش. فقد سجلت نقابة الصحافة بفلسطين 178 إصابة دامية، بعضها انتهى ببتر الأطراف وتشوه الأجساد، كما حصل مع المصور سامي شحادة الذي بُترت قدمه بعد إصابة مباشرة في مخيم النصيرات. فيما أصيب الصحفي أحمد الأغا بشظايا في القدم، وأصيب إيهاب الرديني بكسر في الجمجمة والعين، وكل ذلك في وضح النهار، وبوجود الكاميرات، وداخل بيئات يُفترض أنها محمية دوليا. أما الرصاص الحي، الذي طال 226 صحفيا خلال التغطيات الميدانية، فكان رسالة واضحة تقول: "لا نريد شهودا على المجازر، لا نريد صوتا للحقيقة". ولا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بالقتل والإصابة، بل يسعى لتغييب الصحفيين خلف القضبان، إذ وثق التقرير 139 حالة اعتقال وتعذيب وإخفاء قسري، منهم من لا يزال مصيره مجهولا حتى اللحظة. في مقدمتهم الصحفي نضال الوحيدي، وهيثم عبد الواحد، وغيرهم ممن طواهم الظلام خلف الأسوار دون تهمة أو محاكمة، بل بتهم مفبركة أمام محاكم عسكرية تفتقر لأدنى درجات العدالة. تعذيب جسدي ونفسي وتجويع وحرمان من العلاج ومنع الزيارات، في مشهد يكشف سياسة قمع مدروسة تُمارَس ضد الإعلام الفلسطيني. ولا تقتصر المعاناة على الأفراد، بل تمتد لتطال بنية الإعلام الفلسطيني برمتها. 110 مؤسسة إعلامية جرى تدميرها أو إغلاقها بقرارات عسكرية، وخصوصا في قطاع غزة الذي فقد معظم بنيته التحتية الإعلامية تحت وابل الصواريخ. حتى في الضفة الغربية، شهدت المؤسسات مصادرة محتويات وإغلاقا تعسفيا، كما حدث مع مكاتب قناة الجزيرة، والميادين، وتلفزيون فلسطين. أما العمل الصحفي ذاته، فصار فعليا محظورا، بعد أن وثقت لجنة الحريات 825 حالة احتجاز ومنع من التغطية، وتحطيم معدات، واعتداء جسدي ولفظي من قوات الاحتلال، في مؤشر خطير على انعدام البيئة الآمنة للعمل الإعلامي في فلسطين. وتتجاوز الانتهاكات حدود الجيش النظامي إلى انخراط المستوطنين في الجرائم، حيث ازداد اعتداءهم على الصحفيين بإطلاق النار، والضرب، والتحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل صمت رسمي إسرائيلي بل وتواطؤ واضح، وفقا للتقرير.