إن توقيف أستاذ مادة القانون مرتبط بجامعة ابن زهر بأكادير، على خلفية اتهامه ببيع عدد كبير من الشهادات الجامعية سواء الإجازة أو الماستر قد هزّ الرأي العام عن حق. فهذه الفضيحة التي تصدّرت عناوين الأخبار لأكثر من أسبوع، ليست مجرّد حادثة فردية معزولة، بل هي مرآة تعكس تصدعات عميقة في ثقافتنا السياسية، وانحسارًا متسارعًا في منظومتنا القيمية، وتوتراً مستمراً بين ما تمثله الجامعة المغربية من مبادئ وما تحتضنه أحياناً من ممارسات واقعية. الفساد، في أكثر صوره خبثاً، لا يعلو صوته. إنه يكبر في صمت، وتتشعّب أغصانه مع التطبيع معه، ويتغذى على التراخي الأخلاقي التدريجي في محاربته أو استنكاره. وعندما تنخرط المؤسسات الأكاديمية التي من المفترض أن تكون حصناً للنزاهة، في مقايضة الاستحقاق بالمال، فإن الأمر يتجاوز الانحراف الشخصي ليبلغ حدّ العطب البنيوي.
ما يثير القلق ليس فقط انتهاك أخلاقيات المهنة، بل الآثار بعيدة المدى لهذه الأفعال: تفريغ الشهادات من قيمتها، تسلل الشرعية المزوّرة إلى مواقع القرار الإداري والسياسي، وتقويض الثقة المجتمعية في الجامعة كمؤسسة أخلاقية وصانعة قيم وحارسة الضمير الجمعي للمجتمع. ولا بد، هنا، من الإشارة إلى أن أغلب التغطيات الإعلامية لهذا الحدث قد بقيت على السطح، مهووسة بالعنصر الفضائحي بدل الغوص في جذور الخلل البنيوي الذي تكشفه هذه القضية، مما يساهم أكثر في تآكل الثقة في التعليم بدلاً من تحويل الغضب الشعبي إلى قوة إصلاحية. فأي رسالة نبعث بها إلى الطالب المجتهد والمهمّش في دواوير وقرى ومدن لا نسمع عنها إلا في لحظة وقوع كوارث طبيعية، ذلك الذي يدرس أحيانا في مناخ غير مقبول في مغرب اليوم، وما زال يعتقد ربما بسذاجة أن الجهد وحده كافٍ للنجاح؟ علينا أن نستحضر أن الجامعة المغربية كانت، ذات زمن، فضاءً للحراك الفكري، وورشةً لصقل أجيال من المفكرين والمحامين ورجال الدولة الذين تم تكوينهم ليس فقط علمياً بل أخلاقياً أيضاً. لقد قالت جل وسائل الإعلام كل شيء ما عدا الأمر الأهم: لسنا أمام أزمة تعليم فقط، بل أمام أزمة حكم وحكامة. فعندما تعجز المؤسسات عن محاسبة المتورطين، أو عندما تُنسى الفضائح دون إصلاح، فإننا نكرّس ثقافة الإفلات من العقاب، ونجعل من الفساد قاعدة لا استثناءً. ما نحتاجه ليس غضباً إعلامياً عابراً، بل إصلاحاً حقيقياً: هيئات رقابة مستقلة، تقييمات دورية، وثقافة التبليغ المحمي التي تصون مستقبل شبابنا وتحفظ قيمة شهادات جامعاتنا. ومع ذلك، لا ينبغي أن ننزلق نحو اختزال هيئة الأساتذة الجامعيين في هذه الفضيحة. فالسردية يجب أن تكون مركّبة، لأن الواقع كذلك. أقول هذا لا بصفتي حاملاً للدكتوراه فقط، بل كمن درس في الجامعة المغربية في الرباط وفاس بين عامي 2008 و2021. لا يمكنني فصل مساري الأكاديمي والمهني اليوم عن التعليم الذي تلقيته في تلك السنوات التكوينية. تقريبا كل الأساتذة الذين درسوني سواء بجامعة محمد الخامس أو بجامعة سيدي محمد بن عبد الله جسدوا روح الالتزام والصرامة الفكرية والكرم التربوي والمعرفي، وما زال تأثيرهم جزء من هويتي الأكاديمية والإنسانية، وهم نساء ورجال لا تذكرهم الصحافة ولكن تذكرهم ذاكرة آلاف الطلبة. المؤسسة الجامعية المغربية، خاصة في القطاع العمومي، ليست كتلة واحدة متجانسة. صحيح أن على الدولة أن تتعامل بحزم مع مظاهر الفساد، لكن ينبغي أيضاً أن نصون الرأسمال الرمزي والأخلاقي لأغلبية الأساتذة الذين يشتغلون في ظروف متدهورة من تدنّي الأجور، وقلة التقدير، والتهميش السياسي ومع ذلك يظلون أوفياء لقدسية رسالتهم ونبل مهنتهم. ما تكشفه هذه الفضيحة في جوهرها هو هشاشة المنظومات القيمية حين لا يتم تقويتها وحمايتها باستمرار. ففي مجتمع تُختزل فيه الترقية الاجتماعية والسياسية في منطق الزبونية والقرابة والمال، يصبح من الطبيعي أن تنشأ سوق سوداء للمضاربة في الشهادات، وتٌشق طرق سرية مختصرة للوصول إلى المناصب والحصول على الترقيات. إنها ليست فقط انعكاساً لجشع فردي، بل مرآة لثقافة سياسية أوسع لا تُكافئ الاستحقاق الحقيقي ولا تحفز على المسؤولية المدنية. إن توقيف الأستاذ المشتبه به يجب أن لا ينتهي بالعقاب القضائي عندما تثبت إدانته في محاكمة عادلة، فحسب، بل ينبغي أن يشكّل لحظة تأسيس لحوار وطني حول دور الجامعة في تكوين المواطن، وحول معايير النزاهة الأكاديمية، ونوعية النخب التي نطمح إلى إعدادها. الجامعة المغربية، تماماً، كالدولة المغربية، تقف اليوم عند مفترق طرق: إما أن تستمر في منطق التعامل البارد مع القيم التي تؤسس عليها شرعيتها وتتركها تتآكل في صمت من الداخل، أو أن تسترجع دورها كحارسة لهذه القيم وبوصلة أخلاقية للأجيال القادمة. بالإضافة لهذا، جميع المواطنين مدعوون، بل ملزمون، بالمشاركة الفعلية في حماية التعليم وصون النزاهة في مؤسسات التعليم العالي. فالوضع الراهن، بكل ما فيه من اختلالات، لن يتغير بالشكوى وحدها أو بالتنظير العقيم من وراء الشاشات. أولئك الذين يكثرون من التذمر ويشجبون الفساد دون أن يشاركوا يوماً في وقفة احتجاجية، أو يساهموا في حركة إصلاحية، أو يدافعوا عن أستاذ نزيه أو طالب مظلوم، عليهم أن يخجلوا من سلبيتهم المريعة. من العبث أن ننتظر التغيير ونحن جالسون في منازلنا، نتصفح مواقع التواصل، نضغط على الرموز التعبيرية "إيموجي" للتعبير عن مشاعرنا ببرودة وبطريقة أوتوماتيكية، ونعتقد بسذاجة أن هذه النقرات الساذجة ستصنع الفرق. كما قال جمال عامر ذات مرة بسخرية لاذعة: "الشيء الوحيد الذي قد يتغير بهذه الطريقة... هو حفاظاتهم.". وفي الأثناء، دعونا لا ننسى أولئك الذين علمونا ليس فقط لماذا نفكر وبماذا، بل كيف نفكر، أولئك الذين، رغم كل شيء، ما زالوا يعلّمون بإيمان وأناقة أن التعليم هو أنبل أشكال المقاومة. أستاذ مغربي للدراسات الإنجليزية والثقافية بالولايات المتحدةالأمريكية.