القوّة الخارقة لا تُولد من العدم. إنها تنشأ حين تتوحد الإرادة، وتُحدد الأهداف، ويتجذّر الإيمان بها في نفوس الناس. حين تُبنى الدولة على دعائم الاقتصاد والتعليم والصّحة والانتماء — نعم، هذه شروط البداية. لكنها وحدها لا تصنع "سوبردولة". إسرائيل، مثلاً — هل هي خارقة؟ من الواضح، مما نراه، أن الجواب نعم. لكنها ليست كذلك فقط بسبب وحدة الإرادة وتجذّر الإيمان ومتانة الاقتصاد ولا لأنها تملك السلاح والعتاد والترسانة، بل أيضاً بسبب حليفها الأمريكي، الذي يمنحها الغطاء، والمال، والفيتو، وكذلك بسبب حسن توظيفها لعلاقاتها الدولية الأخرى وضعف من حولها من دول. اختارت أنظمة الحكم فبها تقديم أوراق اعتمادها لحاكم من "العرق الأصفى"، واعتمدت خيارات استراتيجية في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية قائمة على رؤية مصالحها من منظور صنعه هذا العرق المتفوق لخدمة أهدافه ومصالحه، والتي شكل أمن اسرائيل منذ قيامها، مرتكزا أساسيا لها. ليس غريبا والحال هذه ان يشكل تعاون إسرائيل الأمني مع دول الجوار العنصر الأكثر ثباتا في علاقاتها الإقليمية، بالرغم مما يطفو علي السطح من حين لآخر من توتر في العلاقات وتشنجات طالما وجدت سبيلها للتلاشي تحت ضغط وحدة الحال الأمني، وخاصة في المجال الاستخباراتي، ولكن أيضا في المجال العملياتي. ربما، وبنسب متفاوتة، شارك العديد من أنظمة الحكم في المنطقة في صناعة قوة إسرائيل الخارقة، لا لضعف دولها ولكن لأنها قررت البقاء في غرف رسم الخرائط وتوزيع المغانم والاتفاقيات السرية التي افرزت خرائط مستحدثة وحدودا جديدة وأعلاما لا تعني شيئا لسلطة مستحدثة وفق مقاسات صاحب اللعبة البريطاني للسيطرة على مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية. قد لا تكون إسرائيل والولايات المتحدة امتداداً حضاريّاً مباشراً للإمبراطوريات القديمة، لكنّهما تمثلان استمراراً لمنطق إمبراطوري وُلد منذ اللحظة التي استحوذت فيها أوروبا على تراث من سبقها. حين نهبت روما تراث الإغريق، لم تُحيِه بوصفه موروثاً قائماً، بل أعادت تشكيله في صورتها، وطمست أصله تحت عنوان "الحضارة الرومانية"، فذابت اليونانية كهوية فاعلة، وأصبحت مجرد طبقة أولى في سردية جديدة تمحو وتدّعي. ثم جاء الامتداد: بيزنطة، التي احتفظت بالشكل الديني للإمبراطورية، وكانت بوابة الحملات الصليبية الأولى. ثم أوروبا المسيحية التي غزت باسم الرب، فالإمبراطوريات الحديثة التي استعمرت باسم التنوير والحداثة. ثم بريطانيا التي رسمت الخرائط ووزّعت العروش كغنائم، وأخيراً أمريكا التي ورثت المشروع، ودفعت به إلى ذروته: بالهيمنة الاقتصادية، واحتكار السرد، ودعم إسرائيل، ومنظومة من الكيانات ا المؤاتية لمصالحها. إن ما نراه في إسرائيل وأمريكا ليس انبثاقاً جديداً، بل أحدث أشكال المشروع الاستعماري القديم. كلاهما لم يرثا حضارات، بل اعتبرا نفسيهما بداية مطلقة وكل ما سبق قابلاً للمحو أو للنهب. هكذا تستمر السلسلة: من روما إلى واشنطن، من أورشليم الإمبراطورية إلى القدسالمحتلة، نفس اليد التي كتبت التاريخ بالدم، لا تزال تكتبه بالإبادة. لم يكن ما جرى بعد سقوط الدولة العثمانية مجرد صراعات حدود أو نزاعات على الثروات، بل حروب على الذاكرة، وعلى الفكرة، وعلى الجذور. لم يكن الهدف السيطرة على الأرض فقط، بل تفكيك مشروع حضاري ممتد، شكّل الإسلام قلبه النابض لا كدين فحسب، بل كمنظومة حضاريّة جامعة بعثت ما اندثر، وجمعت ما تشتت، واستخرجت من الرماد ذاكرة حيّة. لم يأتِ الإسلام على أنقاض حضارات حيّة، بل على تراكم ميّت أو متآكل، فأعاد بعث البابلي والآشوري، ومنح للآرامي والنّبطي صوتهما من خلال عروبة جامعة، واحتفى بالمصري والقبطي، ولم يُقصِ اليهودية، بل منحها وظيفة دينيّة موحّدة ضمن سياقٍ حضاري شامل. ولا يعني هذا أن التاريخ الإسلامي كان نقيّاً من التناقضات أو الفتن. لقد عرف صراعات سياسية ومذهبية دامية، وارتُكبت فيه أخطاء كبيرة. لكن ما يُميّز هذه الانقسامات أنها لم تكن قطيعة مع الفضاء الحضاري، بل ظلت تدور داخله. كانت المراكز الإسلامية الكبرى — بغداد، دمشق، القاهرة، قرطبة — تتنافس على الريادة، لا على الإلغاء، وكانت المذاهب الإسلامية تُعبّر عن تنوع فكري ضمن منظومة واحدة، لا عن عداوة تقويضيّة. ظل الرابط الجامع — اللغة، المرجعية، الثقافة — قادراً على احتواء تلك الصراعات وتحويلها إلى طاقة تجدد وتوسّع. ومن زاوية النظر إلى بنية الدولة الإسلامية، يمكن القول إنها كانت من أندر التجارب التاريخية التي فتحت أبواب السلطة أمام من هم خارج منظومة النسب والامتياز الطبقي. أن يصبح مملوكٌ سلطاناً، أو مولى قائداً، أو جاريةٌ أمّاًً لخليفة، لم يكن حدثاً نادراً، بل مكوّناً أصيلاً في بنية السلطة خلال فترات طويلة من التاريخ الإسلامي — من العصر العبّاسي إلى المماليك والعثمانيين. لقد أتاحت المنظومة الإسلامية مساحات حقيقية للصعود الاجتماعي، ليس عبر الوراثة أو العرق، بل من خلال الولاء، والكفاءة، والإسهام في إدارة الدولة. وهذه مرونة لا نجدها في كثير من الأنظمة الإمبراطورية الأخرى، التي كانت السلطة فيها حكراً وراثيّاً مغلقاً على طبقة أو سلالة أو عرق بعينه. لم يكن ذلك استعماراً ثقافياً، بل بعث متعدد الأبعاد: لغوياً وتراثيّاً وفكرياًّ، تشكلت فيه بغدادوالقاهرة وقرطبة ودمشق والحجاز والاستانة كمحاور حضارية لا تتنافس على الإلغاء، بل تتكامل في سلسلة واحدة تمتد من نينوى شرقاً إلى غرناطة غرباً. وكانت تلك الوحدة، القائمة على فكرة أن الحضارة لا تحتاج إلى قومية ضيقة ولا إلى عرق نقي، بل إلى ذاكرة حيّة تمتد في الزمان والمكان — هي التهديد الحقيقي الذي استهدفه المشروع الاستعماري. أما ما نشهده اليوم، فليس إحياءً، بل تزييفاً ومحواً: ذاكرة مُختلقة، وماضٍ مُصنَّع، وتاريخ يُعاد كتابته بقوة السلاح والنفوذ والإعلام، لا بالحقيقة أو الجذور. لم يكن عبثاً أن تُستهدف رموز الشرق الثقافية والحضارية حيثما ظهرت الحياة من جديد. لا عجب أن أفغانستان كانت أول من اقتُلعت تماثيله، إيذاناً بسقوط الرموز وبدء زمن الهدم الثقافي باسم الايمان او الإمبراطورية المتربصة للسيطرة، وأن نينوى قلب الموصل العتيق وذاكرة الإنسانية المنحوتة في الحجر، دمّرت كي يمحى من العراق سرّ بابل وآشور، واليمن – سبأ أقوى الممالك العربية مهد حضارة امتدت جذورها في الأرض وارتفعت أعمدتها نحو السماء ، وسوريا لأن تدْمر كانت مرآة ذاكرة زنوبيا الآرامية الجذور بطلمية الروح وعربية الأصول، والآن إيران —لأنها من إرَم ذات العماد ومن ظلّ قورش، ذلك الملك الذي لم يفتح الممالك بالسيف، بال بالعدالة، والذي حفظ معابد الشعوب ودياناتهم ، فكان اول من كتب وثيقة للتسامح الإنساني، قبل أن تداس الإنسانية باسم الحرية بقرون. من زرادشت الى كسرى، تراث عصيّ وصمود يؤرق كل مشروع يستهدف الشرق في جوهره، لا في حدوده فقط. كل ذلك لم يكن صدفة. لم يكن من اقتلع تلك الرموز إلا امتداداً لنفس المشروع: مشروع محو الذاكرة بعد محو الحضارات. سواء جاء الاحتلال بثيابه التقليدية، أو تنكّر بعباءة الخلافة الزائفة، أو تغلغل تحت قناع الإعلام "التحرري" — فكلها أدوات لتدمير الثابت، وتزييف الأصل، وخنق الروح التي ترفض أن تموت. لأن بقاءك، بذاكرتك، خطر. لأن مجرد وجودك… اختبار لا يحتمل لمن يعيد صياغة التاريخ بأقلام رعاة البقر وعربدة الجيوش المرتزقة. لكن رغم كل ذلك، لم يكن الشرق صفحة خاوية، ولا أمة مفككة كما أرادوا له أن يكون. ففي ظل وحدة حضارية، جمعت ولم تفرّق، أنجبت الأمّة رجالاً لم يكونوا أبناء عشيرة أو خدّام هيكل، بل مهندسي مصير وصنّاع حضارة: من معاوية الذي أسّس الدولة بعد الفتنة، إلى عبد الملك بن مروان الذي لم يكتف صكّ العملة وتوحيد الخطاب، بل جعل العربيّة لغة الدولة والإدارة وأسس أول مشروع تعريب اداري شامل ، فاستقلّ بكيان الامة عن نفوذ بيزنطة، ورفع القرآن على جدران قبة الصخرة ، لتكون القدس اول بيان عمراني لسيادة الإسلام في قلب السياسة والعمارة إلى هارون الرشيد الذي مدّ جسور العلم ب"بيت الحكمة" من بغداد إلى الأندلس، إلى صلاح الدين الذي واجه الصليبيين لا باسم عرق، بل باسم أمة، إلى محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية بوعد روحي ووعي استراتيجي. أولئك لم يكونوا معجزات فردية، بل ثمرة وحدة حضارية حقيقية — تلك التي تسعى هذه الحروب المتعاقبة إلى قتلها بكل ما تملك من أدوات. واليوم، يُقدَّم نتنياهو كبطل المرحلة: عبقري الحيلة الذي يحرق الحقائق تحت أقدام مصالحه الشخصية، ويستغل ضعف دول المنطقة. في عهده، تحولت السياسة إلى مسرحية مكشوفة، والحقائق إلى رماد، والكرامة إلى استثمار قابل للبيع بوساطة معلّمه ترامب. لا يُظهر نتنياهو قوته بقدر ما يعكس ضعف خصومه. يريد ان يبدو كهيرودس يبني ليحكم، لكن تاريخه أقرب الى تيتوس الذي لا يعرف الا ان يهدم ليُذكر. وما بين الاثنين، يختبئ نتانياهو، ظلّ خادع يتقن التمثيل، لا ليصنع تاريخ، بل ليمحو ما تبقى منه، ويحتمي بكواليس العجز من حوله. وفي قلب فلسطين، تنكشف المفارقة: في الجغرافيا ذاتها، وتحت الاحتلال ذاته، انقسم الواقع إلى نقيضين. غزة، برغم الحصار والتدمير والقصف، لم تُخترق من الداخل. لم تنجح أجهزة الاحتلال في زرع وكلاء دائمين، ولا في تفكيك بنيتها المقاوِمة. كانت الأرض محاصرة، لكن الإرادة حرّة، والمناعة الشعبية هي الحصن. أما الضفة الغربية، فكانت نقيضاً مؤلماً: جهاز أمني يُنسّق مع المحتل، وبنية سياسية اخترقها الاحتلال دون أن يطلق رصاصة. تُراقَب المقاومة من أبناء جلدتها، وتُجهض الانتفاضة قبل أن تولد، ويُعاد إنتاج الاحتلال في شكل ناعم، بأدوات محلية. لقد غدا الاجتياح داخلياً، بلا جندي ولا مدفع. والمفارقة الأوضح: أن إسرائيل، بكل ترسانتها واستخباراتها، لم تنجح في تحرير جنودها الأسرى في غزة. فشلت محاولاتها العسكرية والاستخبارية، وتراجعت أمام بنيان محاصر فقير العتاد، غني بالإرادة. لكنها، في المقابل، نجحت في اختراق أعلى مستويات القرار في دول كبيرة: من لبنان إلى إيران. وهنا تتجلّى حقيقة الشرق الحديث: أن العدو لا يهزمك لأنه أقوى، بل حين تكون أنت مخترقاً. وأن أخطر ما تملكه إسرائيل ليس جيشها، بل البيئة المنزوعة الإرادة، والعملاء المنتشرون بخبث سرطان يعتادك حتى تظنه جزءاً منك. كاتبة فلسطينية