إسرائيل تمهد لترحيل "نشطاء الصمود"    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس بالمغرب    وهبي يشيد بالانتصار على البرازيل        أشبال الأطلس يهزمون البرازيل ويعبرون إلى ثمن نهائي مونديال الشيلي    مونديال الشباب: المنتخب المغربي إلى ثمن النهائي بانتصاره على البرازيل        أخنوش: الحوار والنقاش السبيل الوحيد لمعالجة إشكالات البلاد    دوري أبطال أوروبا.. بقيادة حكيمي "بي إس جي" يتغلب على برشلونة (2-1)    انطلاق احتجاجات "جيل زد" لليوم الخامس ومدن جديدة تلتحق بالحراك الشبابي    النيابة العامة تهدد مثيري الشغب والمخربين بعقوبات تتراوح بين 20 سنة سجناً والسجن المؤبد    المركب الذي أطلقه جلالة الملك بإقليم مديونة يزاوج بين الحماية الاجتماعية والمواكبة الطبية وتعزيز الكفاءات (مسؤولة)    193 متابَعا بينهم 35 معتقلا.. القضاء يكشف حصيلة أحداث العنف في احتجاجات "جيل Z"    الاحتلال الإسرائيلي يعترض "أسطول الصمود" وتركيا تصف الحادث ب"العمل الإرهابي"    قطر ترحّب بمرسوم الرئيس الأمريكي    اضطرابات في الطريق السيار للبيضاء    وزير الصحة: الحكومة تتفهم تماما مطالب الشباب... والإصلاح الشامل هو الطريق الوحيد لتلبية التطلعات        حزب التقدم والاشتراكية يؤكد أن أفضل أسلوب للتعامل مع التعبيرات الاحتجاجية الشبابية السلمية هو الحوار والإنصات والاحتضان    بلاغ‮ ‬الأغلبية‮: ‬حكومة في‮ ‬مغرب‮ «حليبي»!‬    السؤالان: من صاحب المبادرة؟ وما دلالة التوقيت؟    ليلى بنعلي: الهيدروجين الأخضر رهان واعد تعول عليه المملكة لتحقيق انتقال طاقي مستدام    صادرات الفوسفاط تصل إلى 64,98 مليار درهم بنمو 21,1%    قرصنة المكالمات الهاتفية تطيح بصيني بمطار محمد الخامس    المراقبة ترصد عدم تطابق "ثروات مهندسين" مع التصريحات الضريبية    "الأونروا": 100 قتيل فلسطيني بغزة المعدل اليومي للحرب الإسرائيلية    وزارة الأوقاف تخصص خطبة الجمعة المقبلة: عدم القيام بالمسؤوليات على وجهها الصحيح يٌلقي بالنفس والغير في التهلكة    زخات رعدية مرتقبة يومي الأربعاء والخميس بعدد من مناطق المملكة    ترامب يمهل حماس 4 أيام للرد على خطته لإنهاء الحرب في قطاع غزة    الكوكب المراكشي ينهي تعاقده مع رشيد الطاوسي بالتراضي    تفجير انتحاري يخلف قتلى بباكستان    ارتفاع ضغط الدم يعرض عيون المصابين إلى الأذى    حقوق الإنسان عند الله وعند النسخ الرديئة للإله..    عائدات السياحة المغربية تصل إلى 87.6 مليار درهم في أول 8 أشهر من 2025    الذهب يسجل مستوى قياسيا بدعم من الإقبال على الملاذ الآمن بعد إغلاق الحكومة الأمريكية    الولايات المتحدة تدخل رسميا في حالة شلل فدرالي    الخطابي في المنفى من منظور روائي.. أنثروبولوجيا وتصوف وديكولونيالية    حقيقة الجزء الخامس من "بابا علي"    "الباريار" يبث الأمل في سجناء    حول الدورة 18 للمهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا    عندما يتحول القانون رقم 272 إلى سيفٍ مُسلَّط على رقاب المرضى المزمنين    تجميد مشروع شعبة الإعلام والاتصال بجامعة ابن طفيل يثير خيبة أمل الطلبة والأساتذة    أطباء يحذرون من أخطار بسبب اتساع محيط العنق    فريال الزياري: العيون.. مدينة الكرم والجمال الصحراوي الأصيل    القانون 272 يدفع المصابين بألأمراض المزمنة إلى الهشاشة الاجتماعية    "طريقة الكنغر" تعزز نمو أدمغة الأطفال المبتسرين        بوريطة: تخليد ذكرى 15 قرنا على ميلاد الرسول الأكرم في العالم الإسلامي له وقع خاص بالنسبة للمملكة المغربية        الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبراهام السرفاتي .. كلمات عن رمز
نشر في مرايا برس يوم 23 - 11 - 2010

لم أسعد بالتعرف إلى أبراهام السرفاتي، المناضل المغربي والعربي الكبير، الذي توفاه الله ( 17/11/2010) في المغرب، عن عمر ناهز ال 84 عاما، كما أخبرتنا محطات التلفاز، وإن كنت عرفت أصدقاء مغاربة كثيرين عايشوه وناضلوا معه وقدروا مزاياه وحملوا له احتراما وتقديرا فائقين، ليس فقط لدفاعه عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان في وطنه ، بل كذلك وقبل كل شيء لموقفه من الكيان الصهيوني، الذي فاق في عمقه وراديكاليته مواقف " مناضلين " قوميين مشهورين، واتسم بسمات إنسانية وعملية جعلت منه مناضلا فلسطينيا بامتياز، مع أنه لم يولد في فلسطين ولم يرها طيلة عمره المديد، وإن كان صديقا مقربا من قادتها، ورجل ثقة عند ياسر عرفات، الذي يقال إنه كلفه بمهام متنوعة في أوروبا، ونال تأييده المطلق لسياسات الكفاح المسلح.
بهذه الطريقة الفذة، وفق السرفاتي بين انتمائه إلى دين موسى عليه السلام وبين عروبته ووطنيته، وجاعلا من نفسه رمزا كبيرا لذلك النوع من اليهود، الذي حمل على مر التاريخ الحديث رؤية إنسانية تتخطى أي دين أو مذهب، ودعا إلى اندماج الموسويين في مجتمعاتهم باعتبارها وطنهم الوحيد والنهائي، والحاضنة الروحية والثقافية التي يجب أن يذوبوا فيها، كي يقلعوا عن رؤية أنفسهم بدلالة مذهب مغلق وضيق يعزلهم عن شعوبهم، وناضل في سبيل العدالة السياسية والاجتماعية في بلدانه المختلفة، وكان جزءا من قوى التغيير فيها، ثم نزلت به هزيمة جدية على يد الرجعية الأوروبية واليمين الدولي كانت الحركة الصهيونية أداة تنفيذية لها، جسدت قيما عنصرية وفاشية مناقضة تماما لما جسده مناهضو الصهيونية من اليهود من أمثال السرفاتي، الذين لم يتخلوا عن قناعاتهم ومواقفهم، بل واظبوا على مناهضة الحركة الصهيونية وسياساتها وأفكارها، قبل أن يناهضونا ويقاوموا دولتها الغاصبة في فلسطين المحتلة ، ويكونوا بين أوائل من تمسكوا من العرب بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، ورفضوا الاعتراف بالكيان العدواني الغريب، وعملوا لقيام وضع تاريخي بديل للحال العربي الراهن، ينهض على أسس ومرتكزات مغايرة لأسسه وركائزه، من شأنها جعل انتصار فلسطين والعرب ممكنا وفي متناول اليد . فحق للسرفاتي أن يعد مناضلا فلسطينيا وعربيا كبيرا، وصار من الواجب تعريف الشعب العربي بشخصه وإنجازاته، وقول كلمات رثاء فيه، تبين أية خسارة عناها غيابه، وأي رمز كبير كان، وكيف أفنى حياته في السجون دفاعا عن شعب المغرب البسيط، الفقير والمظلوم والمناضل، وأية أسباب دفعته، بعد صدور حكم بحبسه أربعة عشر عاما، إلى رفض مساومة عرضت عليه قامت على إعفائه من العقوبة إن هو وافق على الرحيل من المغرب إلى فرنسا أو اسبانيا أو إسرائيل، وفضل قضاء سنوات السجن الأربعة عشر بكاملها على ترك وطنه والتخلي عن جنسيته المغربية، فكان موقفه قدوة للمناضلين، ودليلا على العمق الإنساني، الذي يمنحه حب الوطن لأبنائه المخلصين، وبرهانا على تمسك اليهودي العربي بوطنه الأصلي، ورفضه استبداله بوطن ليس له، سرقته الصهيونية من شعبه الفلسطيني، وإدراكه المعنى الحقيقي الذي كان سيترتب على قبوله الذهاب إلى فلسطين بالتحديد وما كان ذلك سيعنيه من هزيمة لأي موقف غير صهيوني يتخذه اليهود الوطنيون، العرب والإنسانيون .
لم يهتم إبراهيم السرفاتي بالقضية الاجتماعية والسياسية في المغرب وحده، أو بالقضية الفلسطينية، التي اعتبر نفسه أحد أبنائها المخلصين، بل واكب النهوض السياسي العربي وعاش تفاصيله وأسهم فيه من موقع ثوري ووحدوي، منذ ثورة يوليو عام 1952 إلى يوم وفاته، فكان صديقا لجمال عبد الناصر قام بمهام كلفه بها في أوساط اليهود الأوروبيين المعادين للصهيونية، وقد استقبله القائد العربي الكبير في بيته حين كان يزور القاهرة، وأكرم وفادته وخصه بلقاءات شخصية وسياسية متكررة، اعترافا من عبد الناصر بأهمية مواقف المناضل اليهودي العربي، المكافح من أجل تحرر العرب السياسي والاجتماعي والقومي، رغم ما تعرض له من اضطهاد منذ مطلع شبابه، من الفرنسيين، أولا ثم من النظام المغربي .
جسد السرفاتي في حياته نموذجا يهوديا نقيضا للصهيونية، وأكد في كل أفعاله وأقواله أن اليهودية والصهيونية ليستا متطابقتين، كما يظن عقل عربي رسمي وشعبي سائد، وأن الصهيونية عكس اليهودية الحقيقية وليست تعبيرها السياسي، وأنها فتحت صفحة في تاريخ اليهود جعلهم عملاء للامبريالية وخدما للاستعمار، فكان من الطبيعي أن تصير " إسرائيل " أداة بيدهما لا شغل لها غير مناهضة حق العرب في التحرر والاستقلال والوحدة والتقدم، والعمل لإبقائهم تحت العين وفي متناول اليد: بالقوة والعنف أولا وأخيرا، كي لا تقوم لهم قائمة. مثل السرفاتي رمزا فاعلا لليهود المناهضين للصهيونية، بما لهم من أهمية ودلالة رمزية وتاريخية، ودور عملي خارج وداخل إسرائيل. ولعلنا لم ننس بعد رجلا كعالم الذرة الإسرائيلي فعنونو، الذي كشف خبايا برنامجها النووي السري وحذر العرب والعالم منه، أو العقيد إيلي جيفع، الذي رفض خلال عدوان عام 1982 على لبنان إطلاق النار على أهداف مدنية في بيروت، واستقال من قيادة اللواء المدرع الذي كان يقوده، وترك الجيش رغم إعلامه من قبل وزير دفاع العدو شارون ورفائيل إيتان رئيس أركان جيشه، أنه سيكون رئيس أركان الجيش الصهيوني خلال عشرة أعوام، أو فيلسيا لانغر، المحامية التي دافعت عن نيف وألف أسير فلسطيني، ونذرت حياتها للدفاع عن شعب فلسطين العربي وحقوقه الوطنية، بما في ذلك حقه في العودة ... وغيرهم كثير.
ومن المصائب أن العالم العربي غافل عن هؤلاء مثلما هو غافل عن كل ما هو في صالحه، ويمارس في معظم بلدانه تربية تجعل كل يهودي صهيونيا بالفطرة والولادة والضرورة، وتجعل اليهودية قومية لا دينا، وتتحدث حتى عن اليهود العرب وكأنهم إسرائيليون داخل الوطن العربي أو ألغام إسرائيلية / صهيونية مزروعة في جسد العرب، عليه التخلص منها بأي ثمن، بما في ذلك إرسالها إلى إسرائيل. فلا عجب أن يكون العالم العربي هو الذي أمد المشروع الصهيوني بالقسم الأكبر من المادة البشرية التي ما كان ممكنا قيامه وبقاؤه بدونها، وأنه أرسل من يهود العام العربي بين هزيمة حزيران عام 1967 وحرب تشرين عام 1973، أي خلال ستة أعوام، قرابة ثلاثمائة ألف يهودي، ضاربا عرض الحائط بكونهم عربا ومواطنين في دول عربية، وأنه لا يحق له حرمانهم من هويتهم العربية والوطنية، وأنهم سيصبحون هناك، في فلسطين المحتلة، جنودا سيشاركون، عاجلا أم آجلا، في غزو بلدانهم الأصلية، التي طردتهم حكوماتها منها وتسببت في تحويلهم إلى أعداء لها وللعرب، مع أن أفضل طريقة لمحاربة الصهيونية كانت تعزيز انتماء هؤلاء لأوطانهم ومجتمعاتهم، والتعامل معهم دون تمييز أو تفرقة أو أحكام مسبقة، والنظر دون منة باعتبارهم مواطنين عربا لهم حقوق وعليهم واجبات: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، يرتبطون بنا ونرتبط بهم من خلال وحدة مصير وأهداف يفرضها التاريخ والواقع ..
كان السرفاتي رمزا مجسدا لضرب من اليهودية العربية قام بواجبه الوطني والقومي تجاه شعبه وأمته، رغم أنها لم تتعاطف معه أو تشعر بوجوده، واقتصر علمها بما فعله على دوائر من المثقفين أو الحزبيين، الذين عايشوه وعملوا معه وعرفوا ما ميزه من تفان وإخلاص، حتى آخر لحظة من حياته. والآن، وقد غاب الرجل الكبير، من الضروري أن نعيد النظر في نظرتنا إلى اليهود باعتبارهم كتلة صهيونية مندمجة متراصة لا يمكن اختراقها أو التأثير فيها، لا سبيل إلى التعامل معها غير تقوية ذلك النمط من أوضاعنا الداخلية، التمييزي والظالم والاستبدادي، الذي أدى إلى هزيمتنا أمام الصهيونية، مرة كل بضعة أعوام، وضخم إلى حد غير معقول أو مقبول فارق التقدم والقوة بينها وبيننا، وجعلنا لا نحاربها بغير قذائف ثقيلة جدا من الشتائم، مصحوبة بصواريخ تهديدات جوفاء ضدها .
غاب السرفاتي، فلنكرمه بإحياء رمزيته والعمل على تعميمها، ولنبدأ، لأول مرة في تاريخنا الحديث، عملا مدروسا تجاه اليهود، عندنا وفي العالم، لا يراهم بأعين أيديولوجية تجعلهم قردة وخنازير، بل تعاملهم حسب أعمالهم، فمن كان صهيونيا منهم عاديناه وحاربناه بجد وليس بالكلام، ومن كان وطنيا وعربيا وضعنا في سويداء قلوبنا، وتحالفنا معه ضد الصهاينة من اليهود، الذين يجب أن يكونوا وحدهم أعداءنا .
كاتب وسياسي من سورية *
المصدر : صحيفة " القدس العربي " اللندنية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.