مشهد مغرق في الغرابة ذاك الذي تضمنه تسريب اتصال مرئي بين وزير خارجية مصر بدر عبد العاطي والسفير المصري في لاهاي عماد حنا. بدا الوزير في بداية الفيديو في حالة غضب وانفعال شديدين وهو يوبخ الدبلوماسي ويتهمه بالتقصير على خلفية حادثة إغلاق الشاب المصري أنس حبيب المقيم في هولندا بوابة سفارة بلاده بقفل حديدي احتجاجا على الحصار المفروض على غزة. عبثا حاول السفير التماس الأعذار لتبرير الواقعة متذرعا بنقص كوادر الحراسة في السفارة، لكن حججه لم تفلح في تهدئة خاطر الوزير عبد العاطي الذي قال إن إغلاق بوابة السفارة أثار استياء الأجهزة الأمنية في القاهرة، وجعل مصر " أم الدنيا" تبدو كدولة مغلوبة على أمرها ومنتهكة وعلى رأسها بطحة على حد تعبيره. وفيما يبدو نهجا جديدا في العمل الدبلوماسي، طالب الوزير بدر عبد العاطي السفير، بلغة هي أقرب إلى لغة البلطجية منها إلى لغة الدبلوماسيين، ألا يتردد في اعتقال كل من سولت له نفسه الاقتراب من سور السفارة و " يطلع عين أبوه"!! وسحبه إلى داخل مبنى التمثيلية الدبلوماسية. ويبدو أن الوزير صاحب باع طويل في هذا السلوك العدواني، إذ لم يجد غضاضة في الإقرار بأنه تصرف على هذا النحو في بروكسل أيام كان سفيرا للقاهرة لدى بلجيكا عام 2012 فيما وصفه بذروة الفوضى في إشارة ضمنية للاحتجاجات التي تلت الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي على الرئيس محمد مرسي. يكشف مقطع الفيديو المسرب الذي تداوله النشطاء على المنصات الرقمية حالة ارتباك في القاهرة جراء تكرار حوادث مشابهة في مقار السفارات المصرية بعدد من العواصم الغربية، قالت أبواق النظام المصري إنها تندرج ضمن حملة مغرضة تقودها جماعة الإخوان المسلمين الغرض منها التشكيك في دور القاهرة في القضية الفلسطينية وتشويه صورة مصر في الخارج. هذه الخطوة الرمزية، على ما فيها من بساطة، سببت حرجا كبيرا لنظام الرئيس عبد الفتاح السياسي المتهم شعبيا بالتواطؤ مع إسرائيل في حرب الإبادة على غزة باستمراره في حظر التضامن الشعبي مع الفلسطينيين، وإغلاق معبر رفح، وعدم السماح بمرور قوافل المساعدات الإنسانية للقطاع لإغاثة الفلسطينيين الجياع. وحيال الضرر الذي لحق بصورة مصر في الخارج اضطر الرئيس السيسي للخروج عن صمته لتفنيد ما يتردد عن إغلاق معبر رفح من الجانب المصري ومنع دخول المساعدات. والحال أن الصمت والتقيد بمفردات الخطاب التقليدي بعلاقة مع القضية الفلسطينية كان السمة الغالبة على الموقف المصري من الحرب على غزة. فقد غابت مظاهر التضامن مع القطاع في شوارع القاهرة وفي غيرها من المدن، وبدا النظام المصري طيعا أمام الإملاءات والشروط الإسرائيلية بشأن إدخال المساعدات، والسماح بعبور السفن المحملة بالأسلحة لإسرائيل عبر قناة السويس ، بل إنه بدا متقبلا لانتشار قوات الاحتلال الإسرائيلي في محور صلاح الدين، وهو ممر طوله أربعة عشر كيلومترا على الحدود بين قطاع غزة، رغم أنه ينسف معاهدة السلام المبرمة بين البلدين عام 1979. وفي حمأة استعدادات إسرائيل لاحتلال القطاع، لم تجد مصر حرجا في توقيع اتفاقية مع تل أبيب بقيمة 35 مليار دولار لاستيراد الغاز الطبيعي، في صفقة قياسية وُصفت إسرائيليا بأنها "الأكبر في تاريخها" والأهم من الناحية الأمنية والسياسية وكذلك من الناحية الاقتصادية. ولا تبدي مصر تشددا، لفظيا على الأقل، في مواقفها حيال إسرائيل إلا حينما يتعلق الأمر بمسألة تهجير الفلسطينيين إذ ترى فيه خطرا يهدد أمنها القومي. بيد أن هذا التشدد لن يصل على كل حال إلى حد تعليق اتفاقية السلام، فمصر غير مستعدة البتة للتفريط في مصالحها الاقتصادية. ثم إن ثمة شواهد عدة تقيم الحجة على عدم جدية القاهرة في الضغط على إسرائيل. يتبدى ذلك في الارتباطات والتقاطعات الكثيرة مع إسرائيل اقتصاديا وسياسيا، وتنازلها قبل ذلك عن جزيرتي تيران وصنافير، وموقفها الباهت إزاء نقل العاصمة إلى القدسالمحتلة، وترحيب الرئيس السيسي بصفقة القرن، ناهيك عن موقف النظام المصري من حركة حماس الذي يرى فيه امتدادا لتنظيم الإخوان المسلمين. والآن يجري الحديث إسرائيليا عن تنسيق مسبق مع مصر لبحث ترتيبات سياسية وأمنية لمرحلة ما بعد إعادة احتلال قطاع غزة التي يجري التحضير له بعد تصديق المجلس الأمني على قرار بسط السيطرة على القطاع والعودة إلى فترة ما قبل 2005. لقد استفادت مصر على نحو غير مباشر من الحرب على غزة، فحيال المخاوف من تكدس الفلسطينيين على حدوها الشرقية ومخاطر نزوحهم إلى شبه جزيرة سيناء، حصلت القاهرة على مساعدات مالية سخية من دول الخليج ومن دول أوروبية تخشى موجات من الهجرة إليها. يلف الموقف المصري من العدوان الإسرائيلي على غزة، ومن القضية الفلسطينية، عموما الكثير من التناقض والازدواجية في الخطاب والممارسة مع مراعاة الطبيعة المعقدة بين الطرفين. والملاحظ أن خطاب السلطات المصرية يختلف بحسب الجهة المخاطبة وطبيعة الرسائل المراد إيصالها. لكن المؤكد أن ثمة ترابطا عميقا بين مصالح مصر وإسرائيل سياسيا وأمنيا واقتصاديا من شأنه أن يضعف قدرة مصر على التأثير على إسرائيل، وبالتالي تعطيل دورها كوسيط في أي مفاوضات بشأن القضية الفلسطينية.