منذ أكثر من عقدين يقف "أبو عبيدة"، بزيّه العسكري وكوفيته الحمراء، بوصفه الصوت الأبرز لكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس. ورغم أن اسمه الحقيقي وصورته الحقيقية ظلّا طي الكتمان، فإن حضوره الإعلامي المتكرر جعله أحد أشهر الوجوه الفلسطينية وأكثرها إثارة لاهتمام الرأي العام، وها هو اليوم يعود إلى واجهة الأخبار بعد إعلان الجيش الإسرائيلي أنه استهدفه في غارة على مدينة غزة، من دون أن يؤكد مقتله حتى الآن. ارتبط الظهور الأول لأبي عبيدة بسنوات الانتفاضة الثانية، حيث عُرف في 2002 و2003 كأحد مسؤولي القسام الميدانيين. وفي 2 أكتوبر 2004 ظهر في أول مؤتمر صحافي بمسجد "النور" شمال غزة، محاطاً بمقاتلين مقنّعين، ليعلن عن عمليات عسكرية أطلق عليها "أيام الغضب" رداً على عملية إسرائيلية تحت اسم "أيام الندم". منذ تلك اللحظة صار الوجه الملثم رمزاً دائماً، على خطى عماد عقل، القائد القسامي الذي اغتالته إسرائيل عام 1993 وكان بدوره يخفي ملامحه بكوفية حمراء.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 عُيّن أبو عبيدة رسمياً متحدثاً باسم القسام. وخلال حرب 2014 على غزة التي استمرت 55 يوماً، تحوّل إلى أيقونة إعلامية: رسائل متلفزة، بيانات مقتضبة بلغة عربية فصيحة، وتجنّب للمبالغة في توصيف العمليات. حينها أعلن عن أسر الجندي الإسرائيلي شاؤول أرون، في خطاب دوّى صداه داخل إسرائيل وخارجها. ما ميّز أبا عبيدة أنه لم يوجّه خطابه للفلسطينيين فقط، بل أيضاً للإسرائيليين والعالم. خاطب الغزيين في أحلك اللحظات، وشدّد على الاستمرار في المقاومة، لكنه في المقابل خاطب الجمهور الإسرائيلي متهكّماً على قيادته السياسية والعسكرية، محاولاً ضرب الثقة بين القادة والجمهور. كما حرص على أن تصل رسائله إلى الرأي العام العربي والدولي، سواء عبر قناة "الأقصى" أو عبر المنصات الرقمية، وإن كانت حساباته على "فيسبوك" و"تويتر" تتعرض للإغلاق المتكرر قبل أن يستقر على "تلغرام". طوال مسيرته، ظل أبو عبيدة وجهاً بلا ملامح. اختفى اسمه خلف لقب، وحُجبت ملامحه وراء قناع أو كوفية حمراء. غير أن إسرائيل زعمت مراراً أنها تعرف هويته الحقيقية، ونشرت صوراً نسبت إليه وقدّمت اسماً قالت إنه "حذيفة الكحلوت". لكن الرجل واصل الظهور ملثماً، ليصبح اللثام نفسه جزءاً من أسطورته الإعلامية. لم يكن أبو عبيدة مجرد متحدث عسكري، بل تحوّل إلى رمز تعبوي يواكب الأحداث الكبرى: الدفاع عن المسجد الأقصى، الإعلان عن عمليات ضد الجيش الإسرائيلي، أو التهديد بمزيد من الأسرى لمبادلتهم لاحقاً. بعض عباراته صارت مأثورة، مثل "من مسافة صفر" التي كررها في وصف الاشتباكات التلاحمية. لم يكن مستغرباً أن تضعه إسرائيل على رأس قائمة أهدافها. وعلى مدار سنوات، لم تتوقف التسريبات عن محاولات استهدافه. وفي الحرب الأخيرة، تراجعت وتيرة خطاباته واكتفى أحياناً ببيانات مكتوبة أو تغريدات متفرقة، الأمر الذي غذّى الشائعات حول سلامته. ومع إعلان إسرائيل عن استهدافه في غزة، يظل مصيره غامضاً، لكن المؤكد أن "أبو عبيدة" – سواء حيّاً أو غائباً – قد رسّخ مكانته كأحد أبرز وجوه حماس، ورمزاً إعلامياً للمقاومة الفلسطينية على امتداد عقدين من الزمن.