تعكس الاحتجاجات في أكادير أكثر من مجرد لحظة غضب على أوضاع المستشفى المحلي؛ فهي تجسّد أزمة أعمق ظلت تتراكم داخل المجتمع المغربي. وكان الدافع المباشر سلسلة الوفيات في جناح الولادة بمستشفى الحسن الثاني، حيث فقدت نساء حياتهن أثناء المخاض في ظروف تعتبرها كثير من الأسر نتيجة للإهمال وسوء التدبير. النقص في المواد الأساسية، والأعطال المتكررة في المعدات، والشعور بأن الفقراء يتلقون رعاية من الدرجة الثانية، كلها حولت المستشفى إلى رمز للفشل المؤسسي—رمز يثير الحزن لكنه يشعل أيضًا غضبًا جماعيًا. الذين خرجوا إلى شوارع أكادير يرفعون مطالب تبدو في الوقت نفسه متواضعة وملحّة: محاسبة المسؤولين عن المآسي الأخيرة، وفتح تحقيق شامل يتجاوز الأسباب المباشرة ليفحص جذور الخلل البنيوي، وتوفير الموارد اللازمة فورًا للأطقم الطبية. تمتد مطالبهم أيضًا إلى إصلاح هيكلي لقطاع الصحة يضمن للمواطنين حدًا أدنى من الكرامة في أكثر لحظاتهم هشاشة. تكشف هذه الاحتجاجات أن قاموس الحقوق لم يعد مجرد فكرة نظرية في المغرب؛ بل يُطبق في سياق نساء يمتن أثناء الولادة، وأسر تُهان بسبب انهيار الرعاية الأساسية، وجمهور يرفض أن يُعامل كما لو كان فائضًا عن الحاجة.
ما يجعل حالة أكادير لافتة هو التناقض الصارخ بين الصورة والواقع. فقد رُوّج للمدينة من طرف الدولة باعتبارها منارة للحداثة، ومركزًا للاستثمار والترفيه والحيوية الثقافية، وقد صيغت صورتها بعناية لإبهار الزائرين والمستثمرين على حد سواء. غير أن ما يكمن خلف هذه الرواية المصقولة هو الحقيقة القاسية لمواطنين يخشون زيارة مستشفاهم الإقليمي لأنه المكان الذي "يموت فيه الناس ببساطة". وإذا كانت أكادير تعاني من هذه النواقص رغم تقدمها اللافت، فماذا يمكن أن نقول عن المدن الأقل نموًا والمناطق الجبلية مثل إقليمالحوز، التي لا تزال تعاني من تبعات زلزال العام الماضي؟ وقد اعتمدت الدولة في البداية نهجًا أمنيًا لاحتواء الاحتجاجات في أكادير، سعيًا للحد من توسعها قبل أن تكتسب زخماً أكبر. لكن هذا النهج أثبت فعالية محدودة. فالدروس المستفادة من "الربيع العربي" واحتجاجات الريف تُظهر أن القمع وحده لا يمكن أن يعالج الأسباب الجذرية للسخط الشعبي. ففي الريف، حتى بعد أن حُكم على زعيم الحركة ناصر الزفزافي بالسجن لسنوات، ظل الريفيون قادرين وعلى استعداد للاحتجاج كلما تجددت الإحباطات الاجتماعية والاقتصادية. وتؤكد هذه التجارب أن احتواء المعارضة بالقوة أو التهديد لا يحل الاختلالات البنيوية، بل يبرز الحاجة الملحّة لحكومة قادرة على الاستجابة، ومساءلة شفافة، وإصلاحات حقيقية تعالج جذور استياء المواطنين. ويطلّ شخص عزيز أخنوش على هذه الأحداث كظلّ لا يمكن تجنبه. فهو، بصفته رئيس الحكومة ورئيس المجلس البلدي لأكادير ورجل أعمال نافذ، يجسد اندماج السلطة السياسية بالأوليغارشية الاقتصادية—وهو أمر يثير تساؤلات متزايدة من طرف المغاربة. وأن تندلع الاحتجاجات في منطقته الأصلية ليس مصادفة؛ بل يبرز الفجوة بين وعود الازدهار والواقع المعيشي من الحرمان. ومن ثمّ، فإن السخط في أكادير لا ينفصل عن القلق الأوسع من تفاقم اللا مساواة، وعن التساؤل حول من يستفيد فعليًا من النمو، وهل تُمارس السلطة لخدمة المواطنين أم لترسيخ الامتياز؟ وعلى خلفية الاقتصاد السياسي المتأزم في المغرب، تكتسب احتجاجات أكادير بعدًا يتجاوز المحلي. فالتضخم وارتفاع تكاليف المعيشة وجمود الأجور تثقل كاهل الأسر، بينما يضاعف انهيار الخدمات العامة الأساسية الإحباط. يمكن للمجتمع أن يتحمل الشدائد إذا شعر أن التضحيات مشتركة وأن احتياجاته الأساسية مصانة. لكن حين تُعطى الأولوية للمشاريع الاستعراضية بينما تنهار المستشفيات، وحين تصبح مدينة الأوليغارش رمزًا للتدهور، تصبح شرعية النظام ذاته محل سؤال. وفي هذا السياق، لا تعبّر احتجاجات أكادير عن مدينة واحدة فحسب، بل عن مطلب أوسع: أن تُقدّم كرامة المواطنين على مشهد التنمية الباهر. ولا يمكن فهم هذا الغضب بمعزل عن دور الملك محمد السادس في توجيه مسار البلاد. فقد شهد عهده مشاريع بنيوية طموحة وإشارات نحو الحداثة، مع مساع لتعزيز مكانة المغرب كنموذج إقليمي للاستقرار والتنمية. سعى الملك إلى تحديث المؤسسات، وتطوير البنية التحتية، وتشجيع الاستثمارات الكبرى، بما يعكس رؤيته الوطنية الطموحة للنهضة المستدامة. ومع ذلك، تبرز أزمة أكادير حدود هذا النموذج التنموي، إذ تظهر أن الطرق السريعة والموانئ الحديثة لا تغطي بالضرورة أوجه القصور في الخدمات الأساسية اليومية، لا سيما في الصحة والتعليم. فالملك، باعتباره المرجع الأعلى للتوجيه الوطني، يظل محور ثقة المواطنين في لحظات الأزمات، سواء على أمل الإنصاف أو في مواجهة التحديات اليومية. وهكذا يظهر التوازن الدقيق في المغرب: بين عظمة الرؤية الملكية التي تهدف إلى تحديث الدولة والمجتمع، وما يفرضه الواقع من تحديات ملموسة في حياة المواطنين، ما يؤكد الحاجة المستمرة لربط الإصلاحات الكبرى بالاهتمام المباشر بالخدمات الأساسية، خصوصًا في المناطق الأكثر هشاشة. هذا التناقض لا يمكن إدارته إلى ما لا نهاية بالرمزية وحدها؛ بل يتطلّب إعادة ترتيب الأولويات حيث تكون كرامة الإنسان العادي ليست تفصيلًا مؤجلًا بل المعيار الحقيقي للشرعية. ولعل مقولة من المسلسل الشهير The West Wing تلخّص اللحظة: "القرارات تُتخذ من قِبَل من يحضر." لقد حضر أهل أكادير ورفعوا صوتهم؛ والسؤال يبقى: هل ستتجاوب دولتهم أخيرًا؟ أستاذ التعليم العالي بالولايات المتحدة الأمريكية