صحافي من البيرو: في تندوف شاهدت القمع وفي الداخلة استنشقت هواء الحرية (صورة)    بوشهر في مرمى النار.. هل يشهد العالم كارثة نووية؟    كأس العالم للأندية 2025.. فوز الترجي الرياضي التونسي على لوس أنجلوس الأمريكي بنتيجة (1 – 0)    وكيل النجم البولندي ليفاندوفسكي: الانتقال ممكن للدوري السعودي    الوداد يعلن تعاقده رسميا مع السوري عمر السومة    كيوسك السبت | ارتفاع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب بنسبة 55 بالمائة    "ليفربول" يتعاقد مع الألماني "فلوريان فريتز"    كأس العالم للأندية 2025.. فلامنجو البرازيلي يتغلب على تشيلسي الإنجليزي بنتيجة (3 -1)    استمرار موجة الحر في توقعات طقس السبت    المغرب بالمرتبة 70 عالميا.. اختلال العدالة الطاقية وتأمين الإمدادات يعطلان مسار التحول الطاقي    محمد الشرقاوي يكتب: لحظة الحقيقة.. ما لا يريد أن يراه مناصرو التطبيع ووعّاظ الاتفاقات الإبراهيمية!    البنك الأوروبي يقرض 25 مليون دولار لتطوير منجم بومدين جنوب المغرب    ضمنها الرياضة.. هذه أسرار الحصول على نوم جيد ليلا    تراجع أسعار الفائدة قصيرة المدى في سوق السندات الأولية وفق مركز أبحاث    الفيفا يعلن آخر التعديلات على قانون كرة القدم .. رسميا    هزة ارضية تضرب سواحل الريف    إعلان العيون... الأقاليم الجنوبية حلقة وصل بين شمال إفريقيا والعمق الإفريقي ومجالا واعدا للاستثمار    بين الركراكي والكان .. أسرار لا تُروى الآن    مقتل ضباط جزائريين في إيران يثير تساؤلات حول حدود التعاون العسكري بين الجزائر وطهران    محمد أشكور عضو المجلس الجماعي من فريق المعارضة يطالب رئيس جماعة مرتيل بتوضيح للرأي العام    السلطات الإمنية تشدد الخناق على مهربي المخدرات بالناظور    أمن الناظور يحجز كمية من المخدرات والمؤثرات العقلية    حرب الماء آتية    فضيحة "وكالة الجنوب".. مؤسسة عمومية أم وكر مغلق لتبذير المال العام؟    توظيف مالي لمبلغ 1,72 مليار درهم من فائض الخزينة    خالد الشناق: المخطط الأخضر يجب أن يخضع للتقييم ولا شيء يمنع من انتقاده    مطيع يوصي بدليل وطني للجودة ودمج التربية الإعلامية في الأنظمة التعليمية    زلزال بقوة 5.1 درجة يهز شمال إيران    بورصة البيضاء تغلق الأبواب بارتفاع    دعم "اتصالات المغرب" بتشاد ومالي    ترامب يمنح إيران مهلة أسبوعين لتفادي الضربة العسكرية: هناك "فرصة حقيقية" لمسار تفاوضي    وزير الماء يدق ناقوس الخطر: حرارة قياسية وجفاف غير مسبوق يضرب المغرب للعام السادس توالياً    المغرب يخمد 8 حرائق في الغابات    بوعياش تلتقي أمين الأمم المتحدة    احتياجات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالمغرب تبلغ 11.8 ملايين دولار    وقفات في مدن مغربية عدة تدعم فلسطين وتندد بالعدوان الإسرائيلي على إيران    باحثون إسبان يطورون علاجا واعدا للصلع    وليد الركراكي يكشف سر استمراره رغم الإقصاء ويعد المغاربة بحمل اللقب على أرض الوطن    نشرة إنذارية: طقس حار من الجمعة إلى الثلاثاء، وزخات رعدية اليوم الجمعة بعدد من مناطق المملكة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    معهد صحي يحذر.. بوحمرون يتزايد لدى الأطفال المغاربة بهولندا بسبب تراجع التلقيح    بعد وفاة بريطانية بداء الكلب في المغرب.. هل أصبحت الكلاب الضالة تهدد سلامة المواطنين؟    اجتماع إيراني أوروبي في جنيف وترامب يرجئ قراره بشأن الانخراط في الحرب    أنامل مقيدة : رمزية العنوان وتأويلاته في «أنامل تحت الحراسة النظرية» للشاعر محمد علوط    «علموا أبناءكم».. أغنية تربوية جديدة تغرس القيم في وجدان الطفولة    لفتيت يذكر الشباب باستمارة الجندية    عن "الزّلافة" وعزّام وطرفة الشّاعر عبد اللطيف اللّعبي    افتتاح الدورة ال26 لمهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة    كارمن سليمان تفتتح مهرجان موازين بطرب أصيل ولمسة مغربية    7 أطباق وصحون خزفية لبيكاسو بيعت لقاء 334 ألف دولار بمزاد في جنيف    المغرب يعزّز حضوره الثقافي في معرض بكين الدولي للكتاب    مجازر الاحتلال بحق الجوعى وجرائم الحرب الإسرائيلية    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة و تأملات في زمن التحوّل الشامل
نشر في الصحيفة يوم 17 - 11 - 2022

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة
1. الرئيسية
2. آراء
قراءة و تأملات في زمن التحوّل الشامل
حسن ناجح
الجمعة 23 ماي 2025 - 21:56
سياق العصر الحالي: بين الصحوة و الانحدار
لا أحد من سكّان الأرض المعاصرين يمكنه إنكار أننا نعيش جميعًا في زمن مشوَّش، تهتزّ فيه علاقتنا بالواقع مع كل رنينٍ لهاتفٍ ذكي، وكل إشعارٍ إلكتروني، وكل "خبر عاجل" على شاشة التلفاز، بل إنّ قابليتنا لهضم أبسط الشائعات، واستعدادنا لتلقّي المعلومات المضلّلة، أصبحتا أهم من ممارسة الحياة اليومية كما عهدناها من قبل.
وهكذا، أصبحنا معتادين على الإبحار في عالم تحكمه الهزات الأرضية المتكررة، والانهيارات الاقتصادية، والفضائح المالية، والمتحورات الفيروسية، وتدفق المعلومات المستمر. ففي ظل هذا القصف المتواصل من المعلومات، لم يعد من السهل التمييز بين الحقيقة والزيف؛ إذ استُبدلت القدرة على التحليل والتأمّل، بإدمان دائم على تدفّق غير منضبط للبيانات، حيث فقد الإنسان بوصلته المعرفية وسط موجاتٍ من التشتّت وملاحقة المحتوى التافه له.
في السياق نفسه، تحوّلت منصّات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية الإلكترونية من أدوات إعلامية إلى مساحات لإنتاج الوعي الجماعي، لكنه وعي هشّ، غالبًا ما يكون مغمورًا بالمعلومات المضلِّلة والاحتمالات المتضاربة. تشير دراسات حديثة (مثل تقرير «المعلومات المضللة في العصر الرقمي»، 2023) إلى أن أكثر من 60% من المستخدمين يتعرضون يوميًا لمحتوى مضلل عبر هذه المنصات. هذه النسبة تعكس أن السذاجة أصبحت ظاهرة جماعية تقريبًا، مع تراجع النقد الذاتي وانقسام المجتمعات إلى "قبائل رقمية"، تحكم كلًّا منها خوارزميات تغذي قناعاتها المعقدة ورغباتها السريالية.
ومن جهة أخرى، لم تعد تخمة المعلومات مجرّد فائض، بل أصبحت معيارًا ثقافيًا ووظيفةً وجودية. فنحن لا نستهلك المعلومات فحسب، بل نعتمدها كآليةٍ للبقاء وسط هذا التدفّق، حتى صار البقاء ذاته مرهونًا بالقدرة على التمييز في هذا الضجيج.
قلق النهاية: من الخوف إلى الاعتياد والاستسلام
أمام الكم الهائل من الأخبار عن الأزمات الكونية والسيناريوهات الكارثية التي تحاصرنا عبر الإعلام الرسمي والبديل، يبرز سؤال فلسفي مُلحّ :
"ما الذي يمكن أن يكون أسوأ من نهاية كل شيء نعرفه؟"
ربما تكون الإجابة الصادمة: الاعتياد على النهاية، أو الحتمية، أو التسليم بها دون مقاومة.
لقد رافق الخوف من الفناء البشرية منذ نشأتها، عبر أساطير الطوفان، والرؤى الدينية ليوم الحساب. إلا أن راهننا المعاصر يعيد إنتاج هذه المخاوف بأسلوب جديد، تحت مسميات وحقل سيميائي ذي الدلالات بعيدة عن الحتمية الكينونية، كالأزمات البيئية، الأوبئة العالمية، والانهيارات السياسية للأنظمة وانتشار ظاهرة المثلية. لكن في يومنا هذا، يُعاد صياغة هذه المخاوف ضمن مفاهيم حديثة.
نحو مستقبل منضو تحت راية الانحدار
ومع اجتيازنا للربع الأول من القرن الحادي والعشرين، تتزايد المؤشرات على تدهورٍ بطيء ومنهجي في أنماط الحياة. فالخطر لا يكمن في نهايةٍ مفاجئة، بل في انحدارٍ تدريجي تغيب فيه ردود الفعل الجماعية. تترنّح البيئة، ينهار التنوّع البيولوجي، تنضب موارد المياه، وتتكرّر الكوارث المناخية، بينما تواصل البشرية اندفاعها نحو تحسين الرفاهية المادية، كما يفعل الفيل الذي يدمّر بيئته دون وعي.
ورغم هذا التشخيص القاتم، يبقى الإيمان بالأمل والمقاومة ممكنًا، لا بوصفه سذاجة عاطفية، بل فعلًا واعيًا ومقصودًا. فالأمل هنا ليس ترفًا فكريًا، بل يجب أن تكون ضرورةً وجودية.
العمى المصلحي وتفاقم الفوضى المعلوماتية
بدلاً من أن تعيد البشرية تصحيح مسارها، تمضي نحو الانهيار بسرعةٍ متزايدة، وكأنها تنفّذ سيناريو محتومًا. لقد بدأت التقنيات تنفلت من رقابة الإنسان: من التلاعب الوراثي بالجينات وكائنات الأنابيب، إلى الذكاء الاصطناعي الذي بات يُمنَح مصداقية شبه مطلقة، ومن التصنيع المفرط إلى الاستنزاف البيئي اللامحدود. ناهيك عن الاستغلال المفرط للموارد، والتجارب النووية، والابتكارات غير المنضبطة؛ جميعها مؤشرات واضحة على فقدان السيطرة الجماعية على التكنولوجيا والبيئة.
ومع التقدم المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي، تبرز مخاطر جديدة تهدد ليس فقط سوق العمل أو الخصوصية، بل جوهر القرار البشري ذاته. فالأنظمة الذكية، التي تتعلم وتطوّر قدراتها بشكل ذاتي، قد تتجاوز في المستقبل القريب حدود الفهم والسيطرة البشرية، مما يفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة: من فقدان الشفافية في اتخاذ القرار، إلى إمكانية التلاعب الجماعي عبر الخوارزميات، وصولًا إلى الاستخدام العسكري أو الأمني للذكاء الاصطناعي في إدارة الحروب أو مراقبة المجتمعات. ويحذر خبراء التكنولوجيا من أن ترك هذه الأنظمة دون ضوابط أخلاقية وقانونية صارمة قد يؤدي إلى ظهور "عقل جماعي اصطناعي" لا يخضع لأي مساءلة، قادر على اتخاذ قرارات مصيرية تتجاوز إرادة الإنسان وتفضيلاته، بل وتهدد وجوده. إن خطر الذكاء الاصطناعي لا يكمن فقط في قدرته على تقليد الذكاء البشري، بل في إمكانية إعادة تعريف معايير السلطة والمعرفة والحرية في المجتمع الحديث، مما يستدعي حوارًا عالميًا عاجلًا حول مستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة.
هذه الديناميكيات تقود إلى صراعات دموية وشرسة من أجل الموارد، وتحوّل الهجرات إلى معارك بقاء. وفي هذا المشهد المأزوم، لم يعد الإعلام أداةً للتنوير أو المساءلة، بل أصبح شريكًا في إنتاج العنف والانقسام. أما وسائل التواصل، فتحوّلت من منصّات للحوار إلى ساحاتٍ تشرعن للتحيّز والتعبئة العاطفية، تُستخدم لتبرير العنف بدلًا من مقاومته.
التحديات الجديدة للذكاء الاصطناعي التوليدي
مع تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي بعد عام 2023، برزت مخاطر غير مسبوقة تعمق أزمة الهوية الرقمية وتزيد من تعقيد المشهد المعلوماتي. فأدوات مثل "تشات جي بي تي" و"ديال-إي" لم تعد تقتصر على توليد نصوص أو صور بدقة عالية، بل أصبحت قادرة على محاكاةالواقع بسلاسة تامة، مما يهدد بتآكل الحدود بين الحقيقة والافتراضي. وفقًا لتقرير معهد "أدفانسد تكنولوجي إنيشياتيف" (2024)، فإن 40% من المحتوى الرقمي قد يُنتج بواسطة الذكاء الاصطناعي بحلول 2027، مما يفرض تحديًا وجوديًا على قدرة المجتمعات في الحفاظ على الثقة في المعرفة المشتركة. ومع ذلك، يمكن تحويل هذه التكنولوجيا إلى أداة للصحوة الجماعية إذا جُهّزت بضوابط أخلاقية صارمة، مثل شهادات "المصدر الرقمي" وتعزيز الشفافية الخوارزمية. فكما يحذّر الفيلسوف "يوفال نوح هراري"، فإن المعركة الحقيقية ليست ضد الآلة، بل ضد الاستغلال السلبي لإبداعها.
المخاطر الكونية الجديدة حسب المنظمات العالمية
يحذر التقرير الأخير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية «المخاطر الناشئة في القرن الحادي والعشرين» من تحولات بنيوية عميقة في طبيعة التهديدات التي تواجه البشرية، والتي تشمل:
* الكوارث الطبيعية: فيضانات، عواصف، جفاف، حرائق – تتفاقم بتأثير التغير المناخي والتوسع العمراني.
* الحوادث التكنولوجية: هشاشة البنى التحتية في ظل التعقيد والترابط العالمي، يجعل من أي خلل محلي مصدر أزمة نظامية.
* الأمراض المعدية: العولمة والتكدّس السكاني يسرّعان انتشار الأوبئة العابرة للحدود، كما برهنت عليه كوفيد-19، وإيبولا، وسارس.
* الإرهاب والجريمة المنظمة: تستغل هشاشة الأنظمة المفتوحة لإثارة الذعر وضرب التماسك الاجتماعي.
* أزمات الغذاء: تراجع الأمن الغذائي نتيجة تغيّر المناخ، والفضائح الصحية، وانهيار سلاسل الإمداد.
وتشير المنظمة إلى أن الترابط العالمي، التحضّر المتسارع، والابتكار غير المحكوم، تمثل عوامل مفاقِمة لهذه الأزمات. الحل المقترح؟ الانتقال من إدارة الأزمات إلى حكامة عالمية للمخاطر، تقوم على التعاون، والوقاية، والمرونة المجتمعية.
ارتداد إلى العشوائية السياسية والبيئية
الطبيعة، في سعيها الأبدي لاستعادة التوازن، لن تبقى ساكنة أمام اختلالات من صنع الإنسان. فالتغيرات المناخية، وذوبان الجليد، وحرائق الغابات، وندرة المياه، ليست مجرد كوارث طبيعية عابرة، بل هي رسائل حاسمة تشير إلى نقطة اللاعودة. ومع تفاقم الضغط السكاني، وتزايد النزوح بسبب المناخ والفقر والصراعات، تتكاثر بؤر التوتر، وتتحوّل الأرض إلى مسرح لصراعات شرسة، تُجَرَّد فيها الإنسانية من قيمها، وتعود إلى سلوكيات بدائية تحكمها غريزة البقاء.
وفي موازاة هذا الانهيار البيئي، تبدو السياسة وكأنها فقدت قدرتها على الفعل التاريخي. إنها في حالة إنهاك هيكلي: تتصاعد القومية المغلقة، وتبرز شخصيات شعبوية متعصبة تتغذى على الخوف والكراهية، بينما ينقسم العالم إلى أقطاب متناحرة — شرق/غرب، شمال/جنوب، يمين/يسار — في مشهد يعيد إنتاج توترات الحرب الباردة بأدوات جديدة.
الأخطر من ذلك، أن المؤسسات الدولية، التي شُكِّلت لضمان السلم العالمي، تبدو اليوم مشلولة. فمجلس الأمن، الذي يفترض به أن يكون الضامن الأول للاستقرار، عاجز عن احتواء النزاعات أو حتى التعبير عن موقف موحّد. لقد تحوّلت الدبلوماسية إلى مسرح رمزي، لا يملك قوة الإقناع ولا القدرة على الردع.
هذا الانهاك المزدوج — البيئي والسياسي — لا ينذر فقط بانفجار الأزمات، بل بعودة شكل جديد من الوحشية المقنّعة بشعارات الحداثة والتقدم. إنه تراجع عن منجزات العقلانية السياسية، وعن وهم السيطرة البشر على المصير. وما لم يُكسر هذا المسار، فإن القادم قد لا يكون مجرد "مستقبل صعب"، بل احتمال دائم للانهيار المتعدد الأبعاد.
شبح الحرب العالمية الثالثة
لم تعد الحروب المعاصرة — كالحرب في أوكرانيا، أو المجازر المستمرة في غزة ولبنان — مجرد نزاعات محلية تدور في أطراف الجغرافيا العالمية، بل تحوّلت إلى بوابات مفتوحة على صدامات حضارية، وأحيانًا إلى مقدمات لحروب نووية محتملة. فهي لا تعكس فقط فشل المنظومة الدولية في كبح العنف، بل تعبّر عن إعادة تشكّل ميزان القوى على أسس جديدة: عرقية، دينية، أيديولوجية، وتكنولوجية.
تشير أغلب المؤشرات الجيوسياسية إلى تصاعد عنف غير مسبوق، لم تعد حدوده تقف عند الدول الهشّة أو المناطق الساخنة، بل بات يهدد حتى أكثر الدول استقرارًا من الداخل، من خلال التمزق الاجتماعي، وتنامي الفجوات الطبقية، وصعود التطرف كخطاب وخيار سياسي.
وفي الخلفية، تعمل الشركات العملاقة العابرة للحدود — من مجمعات السلاح إلى شركات التكنولوجيا — كقوى خفية تعيد تشكيل المشهد العالمي. تُوجّه الرأي العام، وتغذي الانقسامات، وتتلاعب بالجماهير عبر الإعلام الموجّه والبيانات الضخمة. أما وكلاء الأنظمة التقليدية، فغالبًا ما يتحركون دون إدراك واضح لهوية من يخدمونه فعليا، في ظل تعقّد خريطة المصالح وتحلل السيادة بمفهومها التقليدي.
فلقد أصبحت الحروب لا تُدار فقط بالصواريخ والدبابات، بل أيضًا بالخوارزميات، والرموز، وحروب التأثير النفسي عبر الإعلام البديل. إنها حرب متعددة الطبقات: ظاهرة على السطح، لكنه تدور في العمق على مستوى إدراك المجتمعات وتمثّلاتها للواقع.
الرمزية الجديدة للعالم المعاصر صوب الهيمنة
تحت عدسة السيميائيات، نرصد تحولات عميقة في تمثلاتنا الجماعية، حيث لم تعد الرموز مقتصرة على الماضي الوطني التقليدي — مثل الأعلام، التماثيل، أو صور الزعماء — بل امتدت لتشمل عناصر جديدة تُعيد تشكيل الإدراك الجمعي: الخوارزميات، الإيموجي، الميمات، وأيقونات التطبيقات الرقمية. نحن لا نعيش فقط زمن تغيّر المعاني، بل زمن إعادة تعريف الرمزية نفسها، ضمن فضاء رقمي ديناميكي لا يرحم.
في هذا السياق، يمكن تصنيف الرموز السائدة وفق ثلاث عوالم دلالية رئيسية:
* رموز الطوارئ البيئية: مثل صورة الكوكب المشتعل، الدب القطبي الوحيد فوق قطعة جليد ذائبة، أو رسومات درجات الحرارة الملونة. إنها رموز لا تشرح بقدر ما تصرخ: تنذر، تُخيف، وتُذكّر بفقدان السيطرة.
* رموز القبلية الرقمية: قلب "إعجاب"، سهم "مشاركة"، وسوم الهويّات (مثل #نحن_الأفضل أو #هم_الخطر). هذه الرموز لا تُستخدم فقط للتعبير، بل تؤدي وظيفة اندماجية داخل "قبائل رقمية"، تُنتج لنفسها سرديات متناقضة، وتُعمّق الانقسام بدل تجاوزه.
* رموز الأمل والمناعة: شجرة تنمو وسط الخرسانة، قبضة مرفوعة، الدائرة الخضراء. رموز تستبطن فكرة المقاومة والقدرة على البقاء، وتحاول بناء سردية إيجابية وسط الخراب.
هذه الرموز، بتراكمها وتداخلها، لا تمثّل فقط أدوات تعبير، بل أصبحت ساحة معركة رمزية تتنافس فيها المجموعات على احتكار المعنى، وإعادة تعريف الواقع وفق مرجعياتها الخاصة. إنها حرب دلالية متخفية، تُخاض على أرض الإدراك والتمثّل، وتساهم في تآكل المشترك الرمزي بين البشر، مما يزيد من حدة الاستقطاب ويجعل قراءة العالم بشكل موحد أو توافقي أمرًا شبه مستحيل.
في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم المعاصر، لم تعد الهيمنة تقتصر على السيطرة الاقتصادية أو العسكرية، بل أصبحت السيطرة على الخطاب والمعنى هي السلاح الأهم في معركة الوعي الجماعي. لقد برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة إعادة صياغة المصطلحات والمعاني في الخطاب العام، حيث تتنافس مجموعات مختلفة — سياسية، ثقافية، أو حتى تجارية — على احتكار تعريف القيم والمفاهيم الأساسية مثل "العدالة"، "الحرية"، و"الهوية".
تتجلى هذه الهيمنة الخطابية في ظواهر مثل "اليقظانية" (Wokisation)، التي بدأت كحركة مناهضة للتمييز وداعية للعدالة الاجتماعية، لكنها تحولت تدريجيًا إلى أداة لإعادة تشكيل الخطاب العام وفرض معايير جديدة للقبول أو الإقصاء. فبدلًا من أن تبقى ساحة النقاش مفتوحة لتعدد الآراء، أصبحت بعض الخطابات تُقصي المخالفين وتفرض رقابة أخلاقية جديدة، مستخدمة وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة رئيسية لتضخيم الرسائل وتوجيه الرأي العام.
وفي هذا المنوال، لم تعد وسائل الإعلام التقليدية أو الجديدة مجرد ناقل للمعلومات، بل أصبحت شريكًا في إنتاج الواقع الرمزي، حيث يتم التحكم في الرموز والمصطلحات وتوجيهها بما يخدم مصالح مجموعات معينة. هكذا، تتحول المعركة من صراع على الموارد إلى صراع على المعنى ذاته، وتصبح الهيمنة الخطابية أداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، وتعميق الانقسام بين "قبائل رقمية" متناحرة، كل منها تعيد تعريف الواقع وفق رؤيتها الخاصة.
هذه الديناميات تساهم في تآكل المشترك الرمزي بين البشر، وتزيد من صعوبة بناء حوار جماعي أو توافق حول القضايا المصيرية. فحين يُحتكر المعنى وتُعاد صياغة اللغة لخدمة أجندات ضيقة، يصبح من الصعب الاتفاق على حلول مشتركة لمشاكل معقدة مثل الأزمات البيئية أو التحولات التكنولوجية.
الممانعة الفكرية كخيار واعٍ
رغم كل شيء، تشتعل آلاف بؤر المقاومة حول العالم. من شباب يسيرون من أجل المناخ، إلى مزارعين يعيدون تخيّل الزراعة خارج منطق السوق والربح السريع، إلى مبرمجين يبنون مشاعات رقمية حرة تقاوم احتكار المعرفة والتكنولوجيا. تظهر هذه المبادرات كأشكال جديدة من الفعل السياسي غير المركزي، حيث لا ينتظر الفاعلون التغيير من قمة هرم السلطة، بل يصوغونه من القاعدة: من الأرض، من الشارع، من الكود المفتوح، ومن الخيال الجمعي.
لا ينتمي هؤلاء إلى تيار مثالي أو طوباوي، بل إلى وعي جديد يدرك أن الاستمرار في المسارات القديمة يعني الانقراض البطيء. إنهم يدافعون عن المستقبل باعتباره مجالًا للفعل لا للتسليم، ويرون في المقاومة خيارًا واعيًا، لا انفعالًا لحظيًّا.
فالمستقبل، مهما بدا مظلمًا، لم يُكتب بعد. ويمكن للنابضين أن يختاروا الاهتزاز معًا — لا على إيقاع الخوف، بل على نغمة العدالة، والإبداع، والتجدد.
الحلول المحتملة
رغم الصورة القاتمة الناتجة عن التحليل، تبرز في أنحاء العالم إنجازات ملموسة تثبت أن المقاومة الإيجابية ممكنة. ففي مجال الطاقة، تفوقت دول مثل المغرب وأيسلندا في التحول نحو الطاقة المتجددة، حيث تغطي مصادر الرياح والطاقة الشمسية اليوم أكثر من 60% من احتياجاتها الكهربائية، وفقًا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة (2023). وعلى المستوى المجتمعي، أظهرت مبادرات مثل "بنوك الطعام" في لبنان و"المدن الذكية" في الإمارات كيف يمكن للتضامن المحلي والتكنولوجيا المسؤولة تخفيف آثار الأزمات الاقتصادية والبيئية. حتى في مواجهة التحديات التكنولوجية، ظهرت حركات مثل "مصادر مفتوحة من أجل المناخ" التي طورت بعض التطبيقات الرقميةلرصدالمخاطرمثلانبعاثات الكربون و الغازات السامة، بالإضافة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي و الروبوتيك في مجال الطب و البحث العلمي و بعض الأعمال الخطيرة على الإنسان.
كل هذه النماذج، وإن كانت محلية و أحيانا خجولة، تثبت أن الإرادة الجماعية قادرة على صناعة بدائل عملية عندما تتحول الأفكار إلى سياسات ملموسة وتعاون عابر للحدود. لكن هذهالجهودتبقىغيركافيةأمامحجمالتحديات،لكنهاتُشكِّلنواةلتغييرأعمق و فيما يلي بعض السبل التي يمكن سلكها لزرع بذور الأمل في المستقبل :
* تعزيز التربية على التفكير النقدي منذ الطفولة
لا مقاومة حقيقية بدون وعي جماعي يتسلح بالتفكير النقدي، خاصة في زمن تغمره المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة. فالتفكير النقدي هو الدرع الذي يحمي المجتمعات من الانزلاق في دوامة التضليل والاستقطاب، وهو مهارة لا تُكتسب بين ليلة وضحاها، بل تبدأ منذ الصغر، حيث ينبغي أن يتعلم الأطفال كيفية فحص المصادر، وفهم السياق، والتمييز بين الحقائق والآراء، واكتشاف أساليب التضليل الرقمي. وتبرز التجربة الفنلندية كنموذج رائد في هذا المجال، إذ أثبتت أن بناء هذه المهارات هو استثمار وجودي ضروري وليس مجرد رفاهية تعليمية، من خلال تدريب الطلاب على طرح الأسئلة بحرية وتحليل المعلومات بشكل مستقل منذ المراحل الأولى من التعليم. ولا تقتصر جهود تعزيز التفكير النقدي على التعليم الرسمي، بل تمتد إلى المبادرات المدنية والمجتمعية، حيث يلعب المجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة دورًا محوريًا في نشر الوعي وتوفير أدوات تمكّن الأفراد من التعامل الواعي مع المعلومات. كما أن دعم ورش العمل والدورات التدريبية للكبار والصغار يعزز من ترسيخ الثقافة الرقمية، ليصبح التفكير النقدي جزءًا من الثقافة اليومية للمجتمع. بذلك، يتحول التفكير النقدي إلى منارة في ظلمة الفوضى المعلوماتية، ومفتاح لبناء مجتمعات قادرة على المقاومة الذكية، مواجهة الأزمات، وصناعة مستقبل يقوم على الكرامة والمعرفة والعدالة.
* تطوير حكامة عالمية قائمة على التعاون والوقاية
إن مواجهة الأزمات البيئية والصحية والتكنولوجية تتطلب بناء آليات تعاون دولي فعّالة تتجاوز منطق السيادة الضيقة والمصالح الآنية. يجب إنشاء منصات دائمة للحوار بين الحكومات، والمنظمات الدولية، والمجتمع المدني، تركز على تبادل الخبرات، وتنسيق السياسات، والاستجابة السريعة للأزمات. كما ينبغي تطوير أطر قانونية ملزمة لإدارة المخاطر النظامية، مع تعزيز الشفافية والمساءلة في اتخاذ القرار، وتشجيع مشاركة المجتمعات المحلية في رسم السياسات العالمية.
* ضبط وتوجيه التكنولوجيا نحو الصالح العام
لم يعد مقبولًا ترك التطورات التكنولوجية تسير بلا ضوابط أخلاقية أو قانونية، خصوصا تقنيات الذكاء الاصطناعي التي استفحلت مؤخرا. يجب سن تشريعات واضحة تضمن الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي، والهندسة الوراثية، والتقنيات الرقمية، مع وضع معايير صارمة لحماية الخصوصية، ومنع الاحتكار، وضمان العدالة في توزيع الفوائد. كما ينبغي تشجيع البحث العلمي المفتوح، ودعم المبادرات التي تركز على تطوير حلول تكنولوجية تخدم البيئة والمجتمع، بدلًا من تعظيم الأرباح فقط.
* تعزيز ثقافة التضامن والمسؤولية الجماعية
لمواجهة الانقسامات الاجتماعية والرقمية، يجب إطلاق حملات توعية تدعو إلى قيم التضامن، والتعاون بين الأفراد والمجتمعات، واحترام التنوع الثقافي والديني. يمكن دعم المبادرات المحلية التي تعزز العدالة الاجتماعية، وتوفر فرصًا متكافئة للجميع، وتعمل على ردم الفجوات الطبقية. كما ينبغي تشجيع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ودعم المشاريع الصغيرة والمبادرات المجتمعية التي تخلق فرص عمل وتعيد توزيع الموارد بشكل عادل.
* إعادة تعريف الرموز والسرديات الجماعية
يجب الاستثمار في إنتاج رموز وسرديات جديدة تعكس قيم الأمل، والمقاومة الإيجابية، والمواطنة الكونية. يمكن للفن، والأدب، والإعلام المستقل أن يلعبوا دورًا محوريًا في إعادة بناء المخيلة الجماعية، وتجاوز الصور النمطية السلبية التي تعمق الانقسام. كما ينبغي دعم حملات إعلامية تبرز قصص النجاح الجماعي، والمبادرات البيئية والاجتماعية الملهمة، لبناء وعي مشترك حول مستقبل أكثر عدالة واستدامة.
* دعم حركات الممانعة والابتكار الاجتماعي
من المهم توفير الدعم المالي والتقني للمبادرات الشبابية، والحركات البيئية، والمشاريع التكنولوجية الحرة التي تسعى لتقديم بدائل للأنظمة التقليدية. يجب تسهيل وصول هذه المبادرات إلى الموارد، وتوفير منصات للتشبيك والتعاون بين الفاعلين الاجتماعيين من مختلف القطاعات. كما ينبغي الاعتراف الرسمي بهذه الجهود، وإدماجها في السياسات العامة، لضمان استدامتها وتوسيع أثرها الإيجابي على المجتمع.
خاتمة: مفترق طرق ومسؤولية جماعية
إن المشهد الذي رسمناه ليس نبوءة سوداوية ولا تأملًا مأساويًا مجرّدًا، بل هو نتاج تحليل عقلاني للواقع القائم وتقاطعاته المعقدة بين البيئة، التكنولوجيا، الاقتصاد، والسياسة. لسنا في حضرة نهاية حتمية، بل أمام مفترق طرق وجودي: إما الغرق في وهم السيطرة والتقدّم، أو الارتقاء إلى مستوى التحديات بتجديد جذري في القيم والنماذج.
دون أن تدرك، انتقلت البشرية من صانعة للتاريخ إلى ضحية لتراكمات تاريخية و من مجتمع يؤمن بالتقدم المتدرّج إلى كائن نابض مهووس باللحظة، مستهلك للمعنى، متآكل في صميم هويته. وما نحتاجه اليوم، ليس فقط إصلاحات تقنية، بل إعادة اختراع للذات البشرية، لا عبر الخوارزميات فقط، بل عبر التضامن، والعدالة، وإحياء فكرة الإنسانية كمسؤولية جماعية.
ولكن ضمن هذا الحطام الكوكبي، يظل السؤال الأكثر أهمية ليس "ما الذي سيحدث؟"، بل:
"ما الشكل الذي نريد أن تتخذه الإنسانية في القرن الحادي والعشرين؟"
هل نرغب ككائنات مفكرة في بقاء بيولوجي فحسب؟
أم نطمح إلى حضارة تضمن الكرامة، المعنى، والتعايش العادل؟
إن التحدي ليس فقط بيئيًا أو تقنيًا، بل هو أنثروبولوجي وأخلاقي بالدرجة الأولى. إنه تحدي إعادة اختراع الإنسان، لا من خلال أدوات الذكاء الاصطناعي أو إصلاحات اقتصادية جزئية، بل من خلال إحياء المشروع الإنساني كفكرة وكحركة وكمسؤولية.
وفي هذا السياق، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا:
"من سنكون عندما تهتز كل الأشياء، وترتج، ثم تغرق؟"
وبهذا، فليس الرهان على البقاء فحسب، بل على الكرامة والمعنى والتعايش العادل. فالمستقبل، في نهاية المطاف، ليس قدرًا مكتوبًا، بل دعوة مفتوحة للخلق والمقاومة. وفي الختام، نستحضر المثل الشهير : حيثما وُجدت الحياة، وُجد الأمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.