تنتشر دعوات على وسائط التواصل الإجتماعي تحث المغاربة على الخروج إلى الشارع، يومي 27 و28 شتنبر، في وقفات احتجاجية في عدة مدن وفي نفس التوقيت. في صلب هذه التعبئة يكمن غضب عارم من المنظومة الصحية: مستشفيات متهالكة، وفيات يمكن تفاديها، نقص في الأطر والأدوية، وفوارق صارخة بين من يستطيع دفع تكاليف المصحات الخاصة ومن يضطر للاعتماد على القطاع العمومي. ورغم أن الصحة ظلت دائما نقطة ضعف في المغرب، فإن حوادث مأساوية حديثة – منها وفيات أمهات أثناء الولادة والشهادات المتداولة عن مستشفى الحسن الثاني في أكادير، الذي لقّبه كثيرون ب "مستشفى الموت" – أجّجت مشاعر الغضب، وحوّلت مطالب محلية إلى حركة احتجاجية وطنية. لكن الغضب لا يتعلق فقط بأجنحة المستشفيات أو نقص الأدوية. إنه تجسيد لتراكمات حول الحكم، والمحاسبة، ومصداقية الوعود السياسية. لسنوات طويلة سمع المواطنون عن "إصلاحات" جذرية في الصحة، مدعومة بخطط حكومية طموحة ومبادرات ملكية. خصصت مليارات الدراهم، وأُلقيت خطب مطولة عن الكرامة والمساواة، ووُعد الناس بمستشفيات جديدة، وتغطية صحية موسعة، وخدمات أقرب وأكثر عدالة. غير أن هذه الوعود بقيت في نظر المواطنين مجرد شعارات. ففي مدن الداخل والبوادي، المستشفيات لا تزال تفتقر لأبسط التجهيزات وتعجز عن تلبية أبسط الحالات. هذا التناقض بين خطاب الإصلاح وصورة المغرب الحديث من جهة، وواقع التهميش الصحي من جهة أخرى، أصبح فجوة لا يمكن تجاهلها، والاحتجاجات القادمة ما هي إلا التعبير الأكثر وضوحا عن هذه الهوة.
يوجد رئيس الحكومة عزيز أخنوش في قلب هذه العاصفة. فالرجل الذي جاء من عالم المال والأعمال على رأس حزب التجمع الوطني للأحرار عام 2021، وعد بكفاءة عالية ونهج عملي جديد. ركّزت حملته الانتخابية على تحسين التعليم والصحة، مقدِّما نفسه بديلا قادرا على إنجاز ما فشلت فيه الحكومات السابقة. وبعد مرور أربع سنوات، يجد أخنوش نفسه محاطاً باستياء شعبي متزايد، ليس فقط بسبب الغلاء والبطالة، بل أساساً بسبب القطاعات التي جعل منها أولويته: الصحة والتعليم. يحاول رئيس الحكومة أن يصوّر الأزمة كمسألة "تسيير" فقط – غياب الأطباء، ضعف المسؤولين المحليين، أو الفساد في الصفقات – لكن المنتقدين يعتبرون هذا التفسير سطحياً. المشكلة أعمق: إنها سنوات من ضعف الاستثمار العمومي في الصحة، وتفضيل مشاريع كبرى استعراضية على حساب الخدمات الأساسية التي تمس حياة المواطنين بشكل مباشر. جزء مهم من الأزمة يرتبط بالفساد والرشوة داخل المستشفيات العمومية. فقد تكررت شكاوى من لجوء بعض الأطباء أو الممرضين إلى طلب مبالغ مالية غير قانونية أو تفضيل مرضى على حساب آخرين مقابل منافع. ورغم اتخاذ الدولة إجراءات عديدة – مثل تثبيت كاميرات (بعضها تعرض للسرقة لاحقاً) وتخصيص رقم أخضر للتبليغ عن الفساد – إلا أن هذه التدابير لم تُثمر النتائج المرجوة. السبب يعود إلى هشاشة المرضى وأسرهم وخوفهم من الانتقام، فضلاً عن انتشار الأمية وضعف الوعي بالحقوق المدنية. ومع ذلك، لا يعني هذا أن غالبية الأطر الطبية فاسدة؛ بالعكس، هناك عدد كبير من الأطباء والممرضين يشتغلون بضمير ويحاولون تقديم أفضل ما لديهم. لكن ضعف البنية التحتية الطبية وقلة الموارد البشرية يجعل جهودهم محدودة، خاصة في المدن الصغيرة والمناطق القروية حيث ندرة الأدوية والتجهيزات واضحة للعيان. من جانب آخر، تعاني المنظومة الصحية المغربية من نزيف هجرة الأدمغة. فكل سنة يفقد المغرب ما يقارب ألف طبيب يتوجهون إلى أوروبا وكندا والولاياتالمتحدة، بحثاً عن ظروف عمل أفضل وأجور أعلى. هذه الظاهرة ليست مجرد خيار فردي، بل نتاج مباشر لغياب آفاق البحث العلمي في المجال الطبي داخل المغرب، وهيمنة المحسوبية على المختبرات الجامعية، إضافة إلى ضعف الأجور مقارنة بما يتقاضاه الأطباء في الغرب. النتيجة أن المغرب يستثمر سنوات في تكوين أطباء بمجهود وطني وميزانية عمومية، ثم تخسرهم البلاد بعد تخرجهم ليستفيد منهم الخارج. هذا النزيف يفاقم أزمة نقص الأطباء، ويضعف فرص تطوير البحث الطبي محلياً، ويُحرم المستشفيات المغربية من كفاءات هي بأمس الحاجة إليها. ومع ذلك، لا يمكن فهم السياسة المغربية دون استحضار الدور المركزي للملك محمد السادس الذي يحكم البلاد منذ 1999. طوال 25 سنة، مثّل الملك ركيزة الاستقرار ورمز التحديث. في عهده، شهد المغرب مشاريع ضخمة: طرق سيارة، موانئ، طاقات متجددة، إضافة إلى برامج اجتماعية متنوعة. وفي خطبه المتكررة، شدّد الملك على الكرامة، المساواة، وتوسيع التغطية الصحية. قرار تعميم الحماية الاجتماعية سنة 2021 اعتُبر خطوة مفصلية وُضعت تحت رعايته المباشرة. في نظام سياسي حيث يضع الملك الخطوط العريضة للتوجهات الكبرى، فإن نجاح أو تعثر هذه السياسات لا يظل مرتبطاً فقط بأداء الوزراء أو الحكومات المتعاقبة، بل ينعكس أيضاً على صورة المؤسسة الملكية باعتبارها الضامن الأساسي لمسار الإصلاح. وعندما يلاحظ المواطن أن وضع المستشفيات لم يتحسن بالقدر المأمول رغم مرور عقود على إطلاق العديد من المبادرات، فإنه لا يكتفي بانتقاد الحكومة وحدها، بل تتسرب إليه أسئلة مشروعة حول فعالية هذه الإصلاحات ومدى قدرتها على إحداث التغيير المنشود في حياته اليومية. أهمية احتجاجات شتنبر تكمن في أنها تضع هذا التوتر في واجهة المشهد. فهي تختبر العقد الاجتماعي الضمني بين الدولة والمواطن: استقرار وتنمية يقابلها ولاء وصبر. لسنوات، قبل المغاربة فكرة الإصلاح التدريجي تحت رعاية القصر. لكن مع استمرار انهيار قطاع الصحة، بدأت ثقة المواطنين تنفد. هذه الموجة الاحتجاجية ليست ضد الملك بشكل مباشر، لكنها تحدث داخل فضاء سياسي تهيمن عليه المؤسسة الملكية. وهذا ما يجعلها حساسة: فهي مؤشر على تآكل صامت للشرعية، حين يفقد المواطنون الثقة في وعود الإصلاح ويجدون أنفسهم مضطرين للجوء إلى الشارع. لقد عرف المغرب موجات احتجاج من قبل – حركة 20 فبراير سنة 2011، حراك الريف بين 2016 و2017، وإضرابات متفرقة في قطاعات مختلفة. وفي كل مرة، واجهت الدولة الاحتجاج بمزيج من التنازلات المحدودة، والتضييق الأمني، والتحكم في السردية الإعلامية. غير أن احتجاجات الصحة تختلف في جوهرها: إنها تلامس قضية يومية جامعة لا تخص منطقة أو فئة معينة، بل تمس كل أسرة وكل فرد. هذه العالمية تعطيها قوة خاصة وتجعل من الصعب على الدولة أن تقلل من شأنها أو أن تصفها بمطالب "محلية" أو "مؤامراتية". من المهم الإشارة هنا إلى أن أزمة المنظومة الصحية في المغرب ليست معاناة حصرية للفئات الفقيرة أو القرى النائية، بل تمتد لتشمل حتى الطبقات الميسورة. فالمواطن المقتدر مالياً حين يلجأ إلى المصحات الخاصة يواجه هو الآخر مظاهر الفوضى والفساد، بدءاً من إلزامه بتوقيع شيكات على بياض كضمان، مروراً بتلاعب في الفواتير، وصولاً إلى أداء مبالغ نقدية "تحت الطاولة" لتسريع الخدمات. هذه الممارسات أفقدت حتى الأثرياء ثقتهم بالقطاع الصحي، بشقيه العام والخاص، ودفع كثيرين منهم إلى البحث عن العلاج في أوروبا، فيما يلجأ الأوفر حظاً إلى الولاياتالمتحدة حيث تُصان الخصوصية وتُحترم الكرامة مقابل تكلفة باهظة. ولهذا، فإن احتجاجات اليوم ليست مجرد صرخة من الطبقات المهمشة وحدها، بل صرخة جماعية باسم كل المغاربة، إذ إن قضايا الصحة والتعليم حين تنهار تتحول إلى قضية قدر وطني لا يفرق بين غني وفقير. المسار الذي ستأخذه هذه الاحتجاجات مرتبط برد فعل الدولة في الأسابيع المقبلة. فإما أن تلجأ السلطات إلى المنع والاعتقال بدعوى الحفاظ على النظام العام، وهو خيار محفوف بمخاطر تصعيد الغضب الشعبي؛ أو أن تختار الحكومة والقصر فتح تحقيق جدي وشفاف في أوضاع المستشفيات، وإطلاق إجراءات استعجالية ملموسة: تعزيز الموارد البشرية، توفير الأدوية، تسريع المشاريع المتأخرة. الأهم هو رسم خريطة طريق إصلاحية واضحة بآجال محددة وإشراك المواطنين في المراقبة. لن يحل ذلك أزمة عقود بين عشية وضحاها، لكنه سيعيد قدراً من الثقة، ويُظهر أن الدولة تسمع بالفعل أصوات المواطنين. هنا يبرز تعبير "الخريف المغربي" الذي بدأ يتردد لوصف هذه اللحظة. فالخريف فصل تسقط فيه الأوراق لتكشف عن العُري تحت الزينة؛ كذلك تكشف هذه الاحتجاجات زيف الخطاب الرسمي وتُظهر واقع المنظومة الصحية بلا رتوش. طوال عقود مضت، سمع المغاربة أنهم يسيرون نحو الكرامة والعدالة الاجتماعية، لكن الخريف المغربي يوحي بأنهم لم يعودوا يقبلون بالشعارات وحدها. إنهم يريدون مضموناً ملموساً، لا وعوداً مؤجلة. والسؤال المطروح: هل سيكون هذا الخريف بداية لتجدد حقيقي – سقوط للأوهام يمهّد لإصلاحات صادقة – أم سيكون موسماً للخيبة واللامبالاة يفاقم فقدان الثقة في المؤسسات؟ الأكيد أن الدولة نفسها تبدو وكأنها وصلت إلى مأزق سياسي عميق. فالأحزاب الكبرى – اشتراكية كانت أو ليبرالية أو إسلامية – جرى إنهاكها من الداخل عبر التشرذم أو الاستقطاب أو الترويض، ما جعلها عاجزة عن لعب دور الوسيط بين السلطة والمجتمع. وفي آخر خطاب، دعا الملك وزارة الداخلية إلى ضمان انتخابات منظمة السنة المقبلة، لكن كيف يمكن إقناع مواطنين بالنزول إلى صناديق الاقتراع وهم يفتقدون أبسط حقوقهم في مدارس لائقة ومستشفيات آمنة؟ ومن هو المؤهل لقيادة حكومة جديدة بينما كل التيارات قد استُهلكت وتشوهت؟ في المقابل، لا يمكن تجاهل أن ناصر الزفزافي في حراك الريف عامي 2016 و2017 رفع المطالب ذاتها المتعلقة بالصحة والكرامة، لكنه لا يزال يقضي سنوات سجنه إلى اليوم. الجديد أن كل مدينة اليوم صار لها "زفزافيها" الخاص، وأن الدولة لم تعد قادرة على اعتقالهم جميعاً. فالسياق الراهن لا يسمح بالعودة إلى نفس الأسلوب، لأن ذلك قد يفتح على سيناريوهات أسوأ في مرحلة يحتاج فيها المغرب إلى الاستعداد لانتخابات ذات مصداقية، والتحضير لكأس العالم 2030، دون أن ينسى تحضير مواطنيه أنفسهم لهذا الموعد. أما حكومة تشتغل بعقلية تضارب المصالح، فهي لا تنتج حلولاً بقدر ما تقود البلاد إلى فشل متكرر، يزيد في اتساع الفجوة بين السلطة والمجتمع. وهنا نستحضر كلمات الرائع ريموند ريدنغتون في مسلسل The Blacklist "Revenge isn't a passion. It's a disease. It eats at your mind and poisons your soul." فالاحتجاجات ليست سعياً للانتقام، بل محاولة جماعية للشفاء من مرض الإهمال والفساد، ومن أجل استعادة الأمل في أن يكون الوطن بيتاً صالحاً لأبنائه جميعاً. أستاذ التعليم العالي بالولاياتالمتحدة الأمريكية