المشاهد القادمة من وجدة امس، والتي يرجم فيها الشباب الغاضب قوات الأمن بالحجارة ويهجمون على سيارات الشرطة والقوات المساعدة، مشاهد مرفوضة وأعمال مدانة وتصرفات لا تعبّر عن الحراك الاجتماعي الذي وُلد في خريف هذه السنة محمّلًا بآمال ربيع قادم... ولهذا على القائمين على مبادرة جيل Z 212 أن يجدّدوا رفض العنف ويدينوا بأشدّ العبارات ما وقع في الشرق، وأن يعيدوا التأكيد على أن المسيرات الاحتجاجية ضد انهيار مرافق الصحة والتعليم والقضاء، وضد غياب العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وحرية الرأي والتعبير والنشر، احتجاجات سلمية مدنية حضارية من طنجة إلى الكويرة، حتى وإن جابهتها قوات الأمن والقرار السياسي بغير ذلك... أيها الشباب من جيل Z، اعتصموا بسلميّتكم وانضباطكم وتحضّركم، فهي نقاط قوتكم أمام ميزان قوى مختل. إن التعاطف الكبير الذي حصدته مبادرتكم في المغرب وخارجه، وسط الشباب والكهول والشيوخ، جاء أوّلًا من شرعية مطالبكم، وجاء ثانيًا من سلميتكم وتحضّركم. فلا تدعوا أحدًا يسلب منكم هذه النقاط السياسية والأخلاقية القوية، ويجركم إلى متاهات العنف المدمّر الذي لا ينتج سوى المآسي لكم ولوطنكم ولشعبكم...ان الشجاعة هي ان تخرج إلى معركة وليس في جيبك سوى الإرادة والعزم حتى وان كنت تعرف انها خطيرة وقد تفشل .. عندما ينخرط الشباب في مسيرة النضال السلمي من أجل الحقوق والحريات، لا يخرجون لإيصال صوتهم فقط إلى من يعنيهم الأمر، بل يخرجون أيضًا للتعلّم والتثقيف والتربية على السلوك المدني والمواطنة الحقة التي لا يعرفها جل من يحكمنا اليوم . وهذا هو الذي يبقى بعد نهاية المعركة، سواء حققت المسيرة النضالية أهدافها أو لم تحقق شيئًا وتأجلت المطالب إلى فرصة أخرى وزمن آخر... من تجربتي المتواضعة والأليمة في الحياة والصحافة والمحاكم والسجون، التقيت بأناس كانت معاملتهم مختلفة عن السائد في السلطة والإدارة. ولما بحثت عن جذور اختلافهم هذا ونزعتهم الإنسانية التي لم تذب في المنصب والقرار والسلطة، وجدت أنهم مرّوا من تجارب نضالية في الجامعات أو الأحزاب أو النقابات أو الجمعيات او الشارع ، وبقيت رواسب هذه التجربة النضالية في سلوكهم ونمط تفكيرهم، رغم أن أحلامهم أُجهضت، ومواقعهم كانت تفرض عليهم ممارسات تتعارض مع ضمائرهم... رجال ونساء الأمن الذين نزلوا لاعتقالكم بالجملة والفرد، وشحنكم وشحنكن إلى الكوميساريات في سابقة من نوعها خلال الربع قرن الماضي، هؤلاء ليسوا أعداء لكم، هؤلاء موظفون ينفذون التعليمات والأوامر الصادرة لهم من قيادتهم ومن أصحاب القرار السياسي. فلا تعتدوا عليهم ولا تمسّوا كرامتهم، وسهّلوا مأموريتهم، فهم أيضًا ضحايا قرار غير عقلاني قضى بمواجهة احتجاجات ناعمة بأساليب خشنة... السِّلمية والتحضّر والمدنية ليست تكتيكات سياسية، بل هي فلسفة حياة ونمط عيش. لهذا اتركوا الحجارة مكانها وشحذوا الوعي والذكاء والصبر : لا عنف، لا سب، لا شتم، لا شعارات بذيئة، حتى وإن اعتُقلتم فسلموا أنفسكم للأمن واصعدوا بلا مقاومة إلى سيارات الشرطة التي امتلأت امس وأول امس بشباب المستقبل وبراعم الوطن ! الصور التي تجوب العالم الرقمي تقول كل شيء عن مشاعركم، عن صدمتكم، عن إحساسكم بعدم الأمان في بلادكم. إن الصور والكلّيبات والأغاني والشعارات والفيديوهات التي تجوب اليوم العالم الرقمي المغربي والعالمي هي أكبر سلاح في أيديكم. إن صوت شاب ينادي على أمه والأمن يقوده إلى الاعتقال، وآخر يصيح إنه قاصر ولا يتوفّر حتى على البطاقة الوطنية، وتلك الفتاة التي تصرخ في وجه السلطة: "أنا لا أطالب إلا بحقي في العلاج"، وتلك الرضيعة "هداية" التي وجدت نفسها مع والدها داخل السطافيط معتقلة عن سن 15 شهرًا... إن هذه الصور واللقطات ستبقى عالقة في أذهان جيل كامل، وستبقى وثائق إدانة على نهج سياسي /أمني تغوّل حتى صار بلا عقل ولا ضمير ولا إحساس بالصغار فما بالك بالكبار! السِّلم هو القانون الحقيقي للبشر، والعنف هو القانون الأول لمن خرج من فصيلة الإنسانية. كان العظيم الهندي غاندي يقول عن فلسفة اللاعنف التي واجه بها أكبر إمبراطورية في تاريخ البشرية، الإمبراطورية البريطانية، وهزمها: "إن قانون العين بالعين سيجعل العالم كله أعمى." الزمن يلعب لصالح هذا الجيل ومطالبه المشروعة، وشيوخ السلطة سيتعبون من استعمال الخشونة وخرق قانون الحريات العامة الذي صدر منذ 1958، أي قبل صدور أول دستور للمملكة، تعبيرًا عن حقيقة قلّ ما ننتبه لها وهي: أن أمة من الأمم يمكن أن تعيش بلا دستور، لكنها لا يمكن أن تعيش بلا قانون للحريات العامة. تأملوا في هذه الحقيقة، فقانون الحريات العامة صدر بظهير من السلطان محمد الخامس سنة 1958، وأول دستور للمملكة وضعه الملك الحسن الثاني سنة 1962! كونوا يا جيل Z على مذهب ابن آدم الأول، هابيل، الذي قال لأخيه قابيل وهو يهمّ بقتله حسدًا منه، لأن الله تعالى تقبّل قربان الأول ورفض قربان الثاني لأنه لم يكن بإخلاص فقال هابيل كما نقل القرآن الكريم: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيكَ لِأَقتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ﴾ (المائدة: 28). ابن آدم الأول (هابيل) هو المثل الأعلى الذي يجب أن نقتدي به جميعًا، لأنه رفض أن يبدأ دائرة الدم والعنف وغياب التحضّر. ومن يعش فسوف يروي مآل كل واحد...