تحولت مدينة لاهاي، التي تحتضن أكثر من 140 جنسية وتُعرف بانفتاحها الثقافي، إلى منصة للذاكرة الجماعية وأحلام شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع انعقاد الدورة السادسة من مهرجان هولندا لأفلام المينا بين 25 و28 سبتمبر/أيلول 2025. لم يكن المهرجان مجرد حدث سينمائي تقليدي، بل مساحة للاحتفاء بالمنسيين وبالدياسبورا، حيث تداخلت السينما مع الموسيقى والشعر والفن التشكيلي في محاولة لإعادة بناء الذاكرة بعيدًا عن الحدود والهويات الجامدة. الباحثة ابتسام اقرقاش رافقت الدورة برصد أكاديمي دقيق في أفق نشر دراسة محكمة حول التجربة.
افتتحت الدورة بفيلم "ناجي العلي" للمخرج العراقي قاسم عبد، الذي استعاد سيرة رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهير. وخلال حفل الافتتاح، صعد الفنان اللبناني مارسيل خليفة إلى المنصة مخاطبًا الجمهور: "هل مكان اليوم للسينما، للشعر والموسيقى وسط هذا المشهد المرعب من الدمار؟" ثم أجاب: "نعم، نستطيع أن نمضي رغم الموت والحرب، فكل فيلم وقصيدة وموهبة موسيقية هي شمس تعيد لنا الكرامة والحرية." كما شهد الحفل تكريم انتشال التميمي، الرئيس الشرفي للمهرجان، بجائزة "لاهاي للسينما" تقديرًا لمسيرته في خدمة الفن والذاكرة. واحتُفي به أيضًا من خلال أعمال فنية سيراميكية للفنانين قاسم الساعدي وبريجيت رويتر، بالإضافة إلى بورتريه كاريكاتيري قدّمه الفنان علي المندلاوي، الذي وصف التكريم بأنه "تحية لصديق جمع الحلم بالفعل الثقافي." الناقد السينمائي إبراهيم العريس أدار ندوة بعنوان "المنفى والذاكرة في السينما المعاصرة"، شدّد فيها على أن "المنفى ليس غيابًا، بل زمن إضافي تعطيه الحياة لإعادة تعريف الوطن." وفاجأه المنظمون بتكريم رمزي بعمل نحتي مستوحى من أعمال قاسم الساعدي. حضور السينما الفلسطينية كان بارزًا، من خلال أفلام بينها "إلى أرض مجهولة" لمهدي فليفل، و"برتقالة من يافا" لمحمد المغني، و"غميضة" لرامي عباس. أما الجوائز، فقد توزعت بين أعمال من العراق وفلسطين والسعودية ولبنان: الجائزة الكبرى لأفضل فيلم طويل ذهبت إلى "أناشيد آدم" للعراقي عدي رشيد، بينما نال فيلم "هوبال" لعبد العزيز الشلاحي من السعودية جائزة لجنة التحكيم، فيما مُنح فريق عمل "إلى أرض مجهولة" جائزة الأداء الجماعي. وفي فئة الأفلام القصيرة، فاز "برتقالة من يافا" بجائزة أفضل فيلم قصير، بينما ذهبت جائزة لجنة التحكيم إلى "آخر واحد" للبناني كريم الرحباني. وفي ختام الدورة، قال رئيس المهرجان مصطفى بربوش: "لسنا مشروعًا استثماريًا، بل مشروع ذاكرة. الفن هو ما يبقى حين ينسحب كل شيء آخر." وبينما انطفأت الأنوار، ظلّت أصداء كلمات خليفة وأسماء الأفلام حاضرة، لتؤكد أن السينما والفن لا يزالان آخر ما يبقى من الضوء وسط عالم مثقل بالحروب والمنفى.