إن القدرة على تحويل مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب يتطلب، قبل كل شيء، صياغة تصور مشروع مشترك للثقة والتعايش، وهو ما يمكن تسميته بإجراءات عملية لبناء الثقة. فالأمر لا يتعلق بأدبيات تعبر عن حسن النية المغلفة بلغة دبلوماسية، بل سبل تشكل الضمانة الحقيقية والتحصين الضروري لقبول الحل ونجاحه، وتجاوز جراح الماضي لدى الطرفين، بما يضمن تحقيق مبدأ «لا غالب ولا مغلوب» الذي رفعه المغرب في خطابه الرسمي. لأن الثقة المطلوبة لا تقتصر على التنصيص على الترتيبات الإدارية لتحديد الصلاحيات، بل تشمل أبعاداً أعمق من قبيل الأبعاد الإنسانية، الأمنية، والمؤسسية، وذلك لتبديد أي مخاوف مشروعة من «الالتفاف» أو النكوص، أو الردة، استناداً إلى دروس التجارب السابقة والمقارنة. لذلك، يتطلب الأمر التركيز بشكل خاص على ما هو عملي ومباشر في موضوع إرساء قواعد الثقة، ويأتي في مقدمتها مسار المصالحة والتعويض تمهيداً لتأمين مستقبل الحكم الذاتي، من خلال طرح آليات واضحة لتحويل التزامات الثقة إلى حقوق دستورية وضمانات دولية تصون الإدماج الفعلي للصحراويين في إدارة شؤونهم وفي صميم السيادة الوطنية، مما يرسخ مقترح الحكم الذاتي كحل دائم لا رجعة فيه. يبدو أن إصدار "قانون الانتقال" المشترك يقتضي أولًا إصدار "قوانين الانتقال التأسيسي" بشكل مشترك بين الطرفين، على أن تتضمنإجراءات المصالحة والتعويض انطلاقًا من هذا القانون التأسيسي. على هذا الأساس، يجب أن تكون كل إجراءات المصالحة والتعويض جزءًا من "قانون حكم ذاتي متفاوض عليه ومضمون دستورياً"، وأي تدبير للمصالحة من المفترض أن يصدر عن هيئة مشتركة لضمان شرعيته وقبوله، بدلًا من أن يكون قرارًا أحاديًا من أحد الطرفين، وكل هذا الإصرار على التنصيص يأتي لتفادي عواقب غياب إطار متفق عليه للمصالحة والتعويض. يُعمل على تفادي الدخول في الإجراءات القضائية (سواء لمحاكمة ما كان يسمى بالانفصاليين أو التحقيق في انتهاكات الماضي/الحاضر من قبل السلطة المركزية)، لأن ذلك من شأنه أن يقوض ويشوش على الثقة ويخلق جواً من الاستقطاب غير المرغوب فيه في هذه اللحظة التأسيسية. ترتيباً عليه، يكون الحل العملي النسبي هو البدء بتلطيف الأجواء، واعتماد ما يسمى ب"الصفحة البيضاء" عبر عفو شامل، وإحالة قضايا الماضي إلى هيئة حقيقة ومصالحة (مع التعويض) بدلاً من المحاكم الجنائية، بهدف منع تحول الأفراد إلى «شهداء سياسيين» لدى كل معترك على حدة، مما قد يعيق المصالحة. ثم، نقل الالتزام بإجراءات الثقة والمصالحة من مجرد توصيات أو أدبيات للاستئناس أو تزيين المقترح إلى نصوص قانونية سامية (دستور وتشريعات) يتم عبر ما يلي: دسترة الالتزام: كأن ينص الدستور المغربي صراحة على «الإطار القانوني للحكم الذاتي» في الصحراء، متبوعًا بحق سكان المنطقة في المصادقة على هذا الإطار، وأن يتضمن الدستور، على الخصوص، مادة خاصة ب«المصالحة الوطنية الشاملة» في الأقاليم الجنوبية، تجعل أي نكوص عن العفو أو التعويض أو آليات تقرير الحقيقة غير دستوري. القانون العضوي الملزم: يمكن تصور صدور تفاصيل المصالحة والتعويض (بما في ذلك إنشاء صندوق التعويضات والهيئة المشرفة) في شكل قانون عضوي يصوت عليه البرلمان بأغلبية خاصة، حتى يتمتع بقوة تفوق القانون العادي ويصعب التراجع عنه مستقبلاً. وللعلم: يعد التعويض استحقاقًا يحدده إطار مشترك تتولاه هيئة محايدة، ولا يُنظر إليه كمنحة منفردة من أي طرف. يشكل العفو خطوة ضرورية لتهيئة أجواء الارتياح، ويساهم في ترسيخ مبدأ لا غالب ولا مغلوب، ويحمي العائدين من أي ملاحقات أو مضايقات لاحقة. وللمزيد من طمأنة كل الأطراف وخصوصًا الطرف الصحراوي، يلزم تعزيز ضمان عدم وقوع أي ردة، بتحويل الاتفاق إلى التزام دولي يراقب تنفيذه: الإشراف الأممي المباشر على مسار المصالحة يتم عبر دور تتولاه الأممالمتحدة، من خلال مبعوثها الخاص أو بعثة ميدانية، بالتعاون مع جهات دولية موثوقة لها خبرة في هذا الملف، لضمان متابعة شفافة لعمل المجلس الانتقالي أو هيئة المصالحة والتعويض المشتركة. جعل الدعم الخارجي لمقترح الحكم الذاتي مرتبطًا بتنفيذ إجراءات المصالحة والتعويض بشكل كامل، مما يدفع نحو التزام مستمر بتنزيل ما جرى الاتفاق عليه. إجراءات خلق الارتياح ومبدأ «لا غالب ولا مغلوب» للاستفادة من الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبها الطرفان ولتعزيز الوحدة الوطنية في إطار الحكم الذاتي، من المفترض المراهنة على: التحصين المؤسسي المشترك، لضمان مبدأ «لا غالب ولا مغلوب»، من المطلوب أن تكون آليات التنفيذ مشتركة، وقبلها صياغة المبادئ غير الخاضعة لسيطرة طرف واحد، والتي يمكن أن تأخذ شكل: المحافظة على الهوية الثقافية الحسانية، وتفعيل برامج لتعزيز التراث المحلي واللغة الحسانية كجزء من الثقافة الوطنية، مما يضمن أن الحكم الذاتي ليس مجرد ترتيب إداري، بل هو اعتراف كامل بالخصوصية الثقافية للمنطقة كجزء أصيل من النسيج الوطني. "صندوق التعويضات المشترك"، يُنشأ صندوق مستقل لتمويل التعويضات برأسمال متفق عليه، ويُودع تحت إدارة مستقلة مشتركة ذات رقابة مالية خارجية لضمان شفافيته وإنصافه، وعدم تجميد أو تحويل أمواله لأغراض أخرى. الإجراء العملي، التركيز في مقترح الحكم الذاتي على الاحتفاء المشترك بجميع الرموز، والتوافق على ضمانة دستورية لتعزيز اللغة الحسانية وثقافة الصحراء بشكل واضح ودقيق، وليس مجرد أدبيات معلنة في الديباجة، بالتوازي مع الالتزام الراسخ بالعلم الوطني والعملة المغربية (مجال سيادي للدولة المركزية). من شأن هذا الفصل بين الاعتراف الثقافي والالتزام السيادي أن يقلل من الاستقطاب الرمزي. أما إذا أردنا تثبيت آليات عملية للأجرأة هذا المشروع، يقتضي ذلك: تثبيت الذاكرة والهوية الثقافية المشتركة: المحافظة على الهوية الثقافية الحسانية، وتفعيل برامج لتعزيز التراث المحلي واللغة الحسانية كجزء من الثقافة الوطنية، مما يضمن أن الحكم الذاتي ليس مجرد ترتيب إداري، بل هو اعتراف كامل بالخصوصية الثقافية للمنطقة كجزء أصيل من النسيج الوطني. مشاركة المجتمع المدني بدلاً من التعبئة الأحادية الرسمية، من الضروري الرهان على قوة منظمات المجتمع المدني في التعبئة بعيدًا عن الاستقطاب الحاد، بتضافر ما يجمع ويوحد الطرفين. الإجراء العملي، لتبني مبدأ «لا غالب ولا مغلوب» الذي يرفعه الخطاب الرسمي المغربي، يمكن إشراك المجتمع المدني الصحراويالحقيقي بنشاط في صياغة تفاصيل تطبيق الحكم الذاتي، عبر حوارات ومؤتمرات شاملة يديرها المجتمع المدني (بدلاً من الحكومة أو الحركة السياسية). ويمكن صياغة مقترح الحكم الذاتي ليعكس إرادة أغلبية السكان، مما يولد شعوراً بالملكية المشتركة للحل، ويستخدم تعبئة مدنية قوية عبر منظمات المجتمع المدني للتأثير المباشر على العملية السياسية. العملية ليست محصورة بين الأطراف المتصارعة فقط، بل تشمل صوت الشعب بشكل مباشر. تصبح القوة التفاوضية للصحراويين مرتبطة بالشرعية الشعبية المدنية وليس فقط بالتمثيل السياسي، مما يرفع من قيمة مطالبهم. باختصار، هناك العديد من المداخل التي يمكن اعتمادها من لدن طرفي النزاع، إذ لكل طرف القدرة على ابتكار الإجراءات التي يراها مناسبة لإرساء قواعد أو مبادئ الثقة التأسيسية. يبقى من بينها تحصين تحويل الوعود من نوايا سياسية قابلة للتراجع، إلى التزامات دستورية ودولية ومؤسسية مشتركة لا يمكن فكها إلا بإرادة جميع الأطراف.