سأبدأ مقالي بالحكمة الصينية التي تقول "لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطاد"، و السياق العام الذي دفعني إلى إستحضار هذه الحكمة تجدد الحديث في بلدي المغرب عن الدعم العمومي لبعض المنتجات الأساسية، و خاصة غاز البوتان والسكر والدقيق، بهدف تخفيف تأثيرات التضخم وحماية القدرة الشرائية للمواطنين، ومع اقتراب مشروع قانون المالية لسنة 2026 تطفو على السطح مجددا التساؤلات حول ما إذا كان ينبغي الحفاظ على هذه الإعانات أو تقليصها، إذ يرى البعض ضرورة إعادة توجيه الموارد العامة إلى قطاعات أكثر إنتاجية، بينما يحذر آخرون من أن إلغاء الدعم قد يؤدي إلى عواقب اقتصادية واجتماعية وخيمة. إشكاليات الدعم العمومي وجاء في المذكرة التقديمية لمشروع قانون المالية لسنة 2026 أن هذه الجهود تهدف إلى تمكين المواطنين من الولوج العادل إلى مختلف البرامج الاجتماعية، وبحسب المعطيات المتوفرة، بلغت نسبة الأسر القروية المستفيدة إلى غاية منتصف شتنبر 2025، 55 في المئة مقابل 45 في المئة من الوسط الحضري، مما يعكس تركيز المنظومة على الفئات الهشة في العالم القروي، كما باشرت الحكومة عملية مراجعة شاملة لمنظومة الاستهداف استنادا إلى نتائج الإحصاء العام للسكان لسنة 2024 ودراسات مستوى معيشة الأسر، بهدف ضمان إدماج أدق للفئات المستحقة ووضع نظام مرن قادر على التكيف مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية. وسأعود بكم للمثل والمثال الصيني لتوضيح أن إعطاء سمكة واحدة لا يكفي، فإذا أعطيتني سمكة فستكفيني لوجبة واحدة أو على أفضل الظروف قد تكفي ليوم واحد. لكن بالمقابل إذا علمتني كيف أصطاد، فسوف أستطيع العيش من أكل السمك مدى الحياة، وتعلم صيد السمك يتطلب أيضا منحي وسائل الإنتاج على حد تعبير إخوتنا الماركسيين ، بمعنى لابد من تعليمي و منحي سنارة وطعم للسنارة.. معضلات بنيوية وفي بلداننا العربية التي تعاني من معضلات بنيوية أهم مظاهرها الاتكالية و الكسل و سيادة الفساد و انصحكم بالعودة إلى حلقات برنامج إقتصاد في سياسة لفهم سيكولوجية الشعوب ، يصبح الأمر أكثر تعقيدا ، فينبغي ان تعطيه السمكة و السنارة و تضيف إلى ذلك أخذه إلى البحر و أن يكون بالماء السمك الوفير ، فقد أصبح السمك يهرب من مياهنا بسبب الصيد الجائر و بفعل الجفاف كما تقول حكومتنا الموقرة في تفسيرها لغلاء أسعار السمك.. بمعنى أن المثل الصيني إذا تمت مغربته سيصبح لا تعطني سمكة، أعطني سنارة وطعم، ثم خذني إلى بحر سمكه وفير، ثم علمني كيف أصطاد، و أضف إلى ذلك أعطني طنجرة وفرن وعلمني كيف أطبخ السمك بالبصل و الزبيب ، بل و أعطيني البصل أو علمني كيف أزرعه" أقول هذا الكلام من باب الدعابة ، و لكن نحن أمام إشكالية من يسبق البيضة أو الدجاجة .. النموذج الصيني وحتى نخرج من هذا المأزق سنعتمد في تحليلنا الصين كنموذج ، فقد نجحت الصين فيي إخراج الملايين من مواطنيها من قبضة الفقر و العوز إلى بحبوحة العيش الكريم في ظرف قياسي وبشكل إستثنائي فكيف ذلك ؟ فالصين نجحت منذ إطلاق عملية الإصلاح والانفتاح عام 1978، في تخليص ما يقرب من 800 مليون شخص من الفقر- أي أكثر من إجمالي سكان أمريكا اللاتينية أو الاتحاد الأوروبي معاً. لذلك من الجيد تحليل إستراتيجية الصين في تقليص عدد الفقراء... انتصار كامل فقد أعلن الرئيس الصيني "شي جين بينغ" يوم 25 فبراير 2021 أن الصين حققت "انتصارا كاملا" في معركتها ضد الفقر.وجاء هذا الإعلان خلال كلمة ألقاها الرئيس الصيني أمام تجمع كبير عقد في بكين للاحتفال بإنجازات البلاد في القضاء على الفقر المدقع وتكريم نماذجها المثالية في مكافحة الفقر..و يحدد "خط الفقر" بأنه دخل يقل عن 2.3 دولار يوميا للفرد، أي أعلى بقليل من الحد الأدنى المحدد من قبل البنك الدولي (1.90 دولار). لكن هذا التحديد لا يستند فقط إلى الدخل. ففي معظم أنحاء الصين، قام مسؤولون حكوميون بزيارة المنازل لتقييم الوضع الاجتماعي للسكان بحسب معايير مختلفة: الوضع الصحي، أو وضع المسكن، والتغطية الصحية وتعليم الأطفال وغيرها...وتم شطب عائلات تملك سيارة أو جرارا من لائحة الأسر الفقيرة. تغيير المؤشر وتبعا لهذه الجهود انخفضت نسبة سكان الصين الذين يعيشون في فقر مدقع من 97.5 في المئة في عام 1978 إلى 1.7 في المئة فقط في عام 2019، في حين زاد دخل الفرد 20 ضعفاً خلال نفس الفترة. و الصين عمليا، الدولة الوحيدة التي ارتفعت من الفئة الأدنى إلى الفئة الأعلى على مؤشر التنمية البشرية التابع لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي. استراتيجية الصين والملاحظ أن إستراتيجية الصين للحد من الفقر منذ 1978 ، عرفت سلسلة من التطورات يمكن تحديدها كما يلي : أولا- الإصلاح الهيكلي وتخفيف حدة الفقر (1978-1985) كان عدد السكان الذين يعيشون في الفقر في عام 1978حوالي 250 مليون، أي 30،7 ٪ من مجموع سكان الريف، وفقا لمعيار الفقر الذي حددته الحكومة الصينية. أسباب كثيرة أدت إلى هذا العدد الكبير من الفقراء، وأحد الأسباب الرئيسية كان نظام التشغيل في مجال الزراعة الذي لا يتناسب مع احتياجات تطوير القوى المنتجة، ذلك أن الفلاحين افتقروا إلى الحماس للإنتاج، لذلك، شكل إصلاح النظام الزراعي الطريقة الأمثل لتخفيف وطأة الفقر. فالإصلاحات التي بدأت في عام 1978 هي- أولا وقبل كل شيء- إصلاح نظام إدارة الاراضى، أي استبدال نظام الإدارة المحلية الجماعية/ الشعبية، بنظام المسؤولية التعاقدية للأسر المعيشية. فتغيير نظام إدارة الأرض منح الفلاحين الحماس الحقيقي للعمل، وهو ما مكن من تحرير القوى المنتجة وتحسين الإنتاج. وفي غضون ذلك ، كثير من الإصلاحات الأخرى، مثل التخفيف التدريجي من السيطرة على أسعار المنتجات الزراعية، وبدل جهود كبيرة لتطوير مشاريع البلدات، وكلها إصلاحات ساهمت في تقليص حدة مشكلة الفقر في المناطق الريفية . فهذه الإصلاحات سرعت من تنمية الاقتصاد الوطني. أفادت الفقراء من ثلاث نواحي : رفع أسعار المنتجات الزراعية ، وتحويل هيكل الإنتاج الزراعي نحو القيمة المضافة الأعلى، وتوظيف العمال في المناطق الريفية في القطاعات غير الزراعية ، ومن ثم تمكين الفقراء من التخلص من الفقر. وكانت النتيجة تخفيض حدة الفقر في المناطق الريفية. ووفقا للإحصاءات الرسمية، في الفترة من 1978 إلى 1985 نصيب الفرد من الناتج من الحبوب شهد زيادة بنسبة 14 ٪ في الريف، من جانب القطن 73،9 ٪ المحاصيل الزيتية 176،4 ٪، واللحوم بنحو 87،8 ٪ والدخل الصافي لكل فلاح تضاعف بحوالي 3،6 مرات ؛ عدد الفقراء غير قادرين على إطعام وكساء أنفسهم قد انخفض من 250 مليون إلى 125 مليون، تقلص إلى 14،8 في المائة من مجموع السكان في المناطق الريفية .وعدد الفقراء انكمش بمعدل بلغ في المتوسط 17،86 مليون سنويا. ثانيا- توسع برامج التنمية الموجهة نحو التخفيف من وطأة الفقر (1986-1993) في منتصف الثمانينات، سياسة الإصلاح والانفتاح أعطت دفعة قوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، غير أن عدد من المناطق ظلت متخلفة عن الركب بفعل عوامل اقتصادية، اجتماعية، وتاريخية أو طبيعية.. فأصبحت التنمية الغير متكافئة في الأرياف واضحة، فبرز عدد لابأس به من ذوي الدخل المنخفض، الذين يعجزون عن تلبية احتياجاتهم المعيشية الأساسية. وبين عامي 1986 و1993، ولتخفيف حدة الفقر اعتمدت الحكومة الصينية سلسلة من التدابير الهامة منها: منح مساعدة خاصة للفقراء في وحدات العمل، ووضع مصلحة خاصة لتقديم المساعدات المادية والعينية وإصلاح نهج الإغاثة التقليدي. كما تم الشروع في وضع سياسات الموجهة نحو الحد من الفقر. وبفضل الجهود التي بذلت على مدى 8 سنوات ، صافي الإيرادات لكل الفلاحين في المقاطعات الفقيرة التي أولتها الحكومة أهمية خاصة زادت من 206 يوان في عام 1986 إلى 483،7 يوان في عام 1993؛ عدد من الفقراء في المناطق الريفية انخفض من 125 مليونا إلى 80 مليون، بمتوسط انخفاض سنوي بلغ 6،4 مليون شخص، وبمعدل انخفاضا سنوي بلغ في المتوسط 6،2٪، ونسبة الفقراء من مجموع سكان الريف انخفض من 14،8 ٪ إلى 8،7 ٪. ثالثا- معالجة المشاكل الرئيسية لتخفيف حدة الفقر بعد 1994: على اثر الجهود التي بذلت للحد من الفقر حدثت تغيرات كبيرة في ملامح الفقر في الصين ؛ فتوزيع السكان الفقراء أصبحت له خصائص جغرافية واضحة، ذلك أن معظم الفقراء يعيشون في وسط وغرب الصين، والجبال الصخرية القاحلة في منطقة الجنوب الغربي لجمهورية الصين، والمناطق القاحلة في الشمال الغرب، أي أن الفقراء يتمركزون في المناطق الجبلية، فالعوامل الرئيسية الكامنة وراء الفقر تعود بالأساس إلى قساوة الظروف الطبيعية الصعبة، وضعف البنى الأساسية ، وتخلف التنمية الاجتماعية. وبفضل الجهود الفعالة والشاقة التي بذلت على مدى ثلاث عقود، نجحت الصين في تحقيق تقدم هائل في برنامج التخفيف من حدة الفقر، فتم التغلب على : تحسن ظروف العيش مشكلة الغذاء والكساء لأكثر من 200 مليون من الفقراء في المناطق الريفية قد تم حلها: عدد الفقراء في المناطق الريفية الذين يجدون صعوبة في الحصول على ما يكفى من الغذاء والكساء قد انخفض من 250 مليون في عام 1978 إلى 20 مليون في عام 2010؛ معدل الفقر انخفض هناك من 30،7 ٪ إلى حوالي 3 ٪. تحسن الإنتاج والظروف المعيشية بشكل ملحوظ: ففي نهاية عام 2010 ، 98 ٪ من القرى التي توجد بالتراب الإداري للمناطق التي تعاني من الفقر تم تزويدها بشبكة الكهرباء، و 89 % بالمسالك الطرقية، و 87 ٪ بخدمات البريد، و 87،7 ٪ بخدمات الهاتف. تسريع التنمية الاقتصادية فأثناء تنفيذ برنامج سبع السنوات للتخفيف من حدة الفقر، القيمة المضافة الزراعية للمقاطعات الفقيرة -التي أعطتها الحكومة الأولوية في مجال تخفيف حدة الفقر – ارتفعت بنحو54 ٪، وبلغ متوسط معدل النمو السنوي 7،5 ٪ ؛ والقيمة المضافة الصناعية نمت بنسبة 99،3 ٪ ، وبلغ متوسط معدل النمو 12،2 ٪ والإيرادات المالية المحلية تضاعفت تقريبا، وصافي دخل الفلاحين ارتفع من 648 يوان إلى 1337 يوان، بلغ متوسط معدل النمو السنوي 12،8 ٪. تجويد الخدمات العمومية إن أهم النتائج المحققة ضبط النمو السكاني في المناطق المنكوبة بالفقر ، كما تم الرفع من جودة وشروط تشغيل المدارس ، وهو ما أدى إلى تحسين نوعية العاملين. كما تم تجديد مستشفيات المدينة ومراكز الرعاية الصحية بالبلدات في معظم المناطق الفقيرة. ونتيجة لذلك، تم خفض نسبة العجز في الأطباء والأدوية. وعلى العموم، فإن نجاح الصين في مكافحة الفقر يعود إلى حسن تخصيص الموارد المالية والبشرية لخدمة برامج التخفيف من حدة الفقر، وكذلك الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية لربط المناطق النائية والفقيرة بباقي البلاد، مما أتاح للناس الوصول بشكل أفضل إلى الخدمات والأسواق … و لعل ذلك تجسيد عملي للحكمة الصينية التي تقول : "إذا أردت أن تصبح ثريا فابدأ ببناء طريق أولا" .. إقتصاد في سياسة للمزيد من التفاصيل تابعوا الحلقات السابقة واللاحقة من برنامجكم "إقتصاد في سياسة" ، قريبا سنعمل على إستئناف الموسم الثاني ، و سنحرص كما العادة على بث الحلقات كل إثنين وخميس على الساعة 20.00 مساءا بتوقيت المغرب والساعة 19.00 بتوقيت غرينتش و 22.00 مساءا بتوقيت القدس الشريف ، على منصة اليوتيوب ، و من الجيد متابعة منصاتنا على وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة @TarikLissaoui بغرض تعميق النقاش ، و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون … كاتب وأكاديمي مغربي