كثيرة هي المأثورات الساخرة والحكيمة التي تركها الشاعر الصحافي الكبير سعيد الصديقي الشهير ب "عزيزي". لقد كانت له رحمه الله قدرة لا تضاهى في تطويع التعابير والكلمات واللعب بها. فعندما التقى شقيقه المخرج المسرحي الطيب الصديقي، بعد عودة هذا الأخير من زيارة إلى إسرائيل رفقة عدد من المثقفين المغاربة، قال له عزيزي وهو يزم شفتيه: le temps Mossad (الجو موساد) يقصد جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الشهير. وفي ذلك تلاعب بالتعبير الفرنسي المتداول: le temps maussade تعني حرفيًا "الجو الغائم"، وهي استعارة للتعبير عن كآبة الجو وانقباض المزاج. وعندما كان رئيسا لتحرير جريدة "الطليعة"، لسان حال الاتحاد المغربي للشغل، يحكى أن الزعيم النقابي المحجوب بن الصديق سلمه مقالا بالفرنسية طالبا منه ترجمته إلى العربية ونشره بالجريدة. اطلع عزيزي على المقال فوجده كما لو كان مكتوبا بلغة غير الفرنسية، من فرط وفداحة أخطائه، فعذل عن نشره. بعد أيام اتصل به المحجوب يسأله عن سبب التأخر في نشر المقال فأجابه عزيزي: "أ السي المحجوب المقال خصني نترجمو للفرنسوية بعدا عاد نترجمو للعربية وننشرو". وفي مرة أخرى، استدعته قيادة الاتحاد المغربي للشغل لمناقشة أمور تتعلق بالجريدة. وعندما طال الاجتماع وأمعن قياديو النقابة- وكان أغلبهم عمال بسيطو التكوين- في الخوض في تفاصيل تافهة، قام عزيزي، على حين غرة، وصعد فوق طاولة الاجتماع، فخاطبه بن الصديق: "آش كدّير أ سعيد.. آش كدّير"، فأجابه عزيزي: "طلعت فوق الطابلة باش نهز النيفو ديال النقاش شوية أ السي المحجوب". يعلم الله ما الذي كان سيقوله عزيزي لو طال به العمر حتى زمن الجرائد أو الجرائم الإلكترونية التي ازدهرت بعديمي "النيفو" والموهبة والاستقلالية. وما يقال عن الصحافة، يسري على الأدب والموسيقى والمسرح والسينما.. مجالات ينطبق عليها قول الشاعر: (لقد هَزلَتْ حتى بَدَا مِنْ هُزَالِهَا... كِلاَهَا و حتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ). لذلك فكلما مر أمامي حديث عن واقع الأدب المغربي.. إلا وأتذكر عزيزي الذي عندما طلب منه أحد أصدقائه أن يهنئ مخرجا مسرحيا، لم يكن عزيزي يستلطفه، على إخراجه عملا جديدا، أجابه: "ما كاين مشكل نهنيه.. ولكن حتى هو خصو يهنينا". كيف.. سأله الصديق؟ فأجاب عزيزي: "يهنينا من ذاك التخربيق لي كيدير". وفي المسرح دائما، يحكى أن ممثلا ثقيل الدم أزعج عزيزي فتجاهله لمرات، لكن عندما تمادى صاحبنا في "حموضته" صوّب عزيزي مدفعية سخريته باتجاهه وسأله: "قل لي.. ماذا تشتغل أنت؟" فأجاب: "ممثل"، ليلقمه عزيزي: " حاشا ولا يتْمَثّل باش تكون انت ممثل". مثل هذه القذيفة السريعة سيسددها عزيزي إلى مغني رديء ومتطاوس سأله: "أعزيزي منين كنبدا نغني ما كنعرفش شنو ندير بيدي"، فحدجه عزيزي بنظرة ساخرة، وبلسان لاذع قال له: سد بيها فمك، وهنينا من صداعك". أما سيل "الخبراء" وأصحاب مراكز الأبحاث الذين يطلون علينا يوميا من شاشات التلفزيون ليتحدثوا بأوداج منتفخة وعقول فارغة عن الصواريخ والمداويخ واليابان وإيران... فأجزم بأنه لو كان عزيزي بيننا اليوم لأخرسهم بطلقة واحدة من طلقاته الساخرة. يحكى أن أحد هؤلاء التقى عزيزي يوما فسأله عن عمله، فأجاب بكثير من التبجح: "Je suis consultant"، فرماه عزيزي بنظرة هازئة وقال: من المؤكد أنك "Con"، ولكن "Sultan" لا أعتقد. لقد تسلح عزيزي رحمه الله بحس ساخر بواسطته كان يفتت اليقينيات البليدة والتصنع البلاغي الزائد والزائف في الإبداع والحياة، جعله يسخر من نفسه ومحيطه قبل غيره. يحكى أنه لما كان مديرا لديوان المعطي بوعبيد، وزير التشغيل في حكومة عبد الله إبراهيم، جاءه قريب له يشتغل معلما في إحدى المدن البعيدة، وطلب منه التوسط له للانتقال إلى الدارالبيضاء، فوعده عزيزي خيرا ونسيه، فكان القريب الملحاح يعاود في كل مرة زيارته وتذكيره بالموضوع. وفي إحدى المرات نظر إليه عزيز ي وقال: "اصبر أصحابي شوية.. صبر"، ثم التفت إلى صورة الحسن الثاني خلفه وقال: "هذا راه من تافيلالت.. جاتو الخدمة فالرباط.. وها هو صابر".