في سنة 1956، نظم علماء مرموقون في الولاياتالمتحدةالأمريكية مؤتمرا علميا شكّل حدثًا محوريًا مثّل البداية الرسمية للذكاء الاصطناعي كتخصص أكاديمي، وتمت فيه صياغة مصطلح (Artificial Intelligence). ونصت الورقة التقديمية للمؤتمر على أن المنظمين يعتزمون إجراء دراسة على أساس الفرضية القائلة بأن كل جانب من جوانب التعلُّم أو أي سمة أخرى من سمات الذكاء يمكن من حيث المبدأ وصفها بدقة بحيث يمكن صنع آلة لمحاكاتها. وحاليا، يسود اعتقاد في أوساط العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي مفاده أن الحواسيب ستكتسب الوعي (consciousness) يوما ما، مدعين أنه مع وجود حواسيب ذات قدرات فائقة بما فيه الكفاية وذكاء اصطناعي متطور بما فيه الكفاية، فمن المحتم أن تصبح الحواسيب واعية في نهاية المطاف مثلنا نحن البشر. ليس هذا فحسب، بل هناك من هو أكثر جرأة ويدعي أن هذا الأمر لم يعد مجرد حلم سيتحقق في المستقبل البعيد، بل إن عصر الحواسيب الواعية قد حل بالفعل. سيكون من المفيد التذكير بأن أصل الحاسوب ومنشأه هو آلة تورينغ (Turing machine) وهي نموذج رياضي تجريدي افتراضي وأحد أسس نظرية الحَوْسَبَة (theory of computation). فالحاسوب هو تجسيد مادي عملي لآلة تورينغ، مثلما أن شكل الدائرة المرسومة على ورق هو تجسيد مادي لنموذج رياضي تجريدي افتراضي يسمى الدائرة. وهكذا يمكن إنشاء تناظر بين الحالات المادية للحاسوب والحالات التجريدية لآلة تورينغ. تقوم آلة تورينغ بإجراء عمليات حسابية عبر معالجة مجموعة محدودة من الرموز، وتكتسي عملياتها صبغة تركيبية (syntactical) وليس صبغة دلالية (semantical)، ما يعني أنها تعالج مبنى الرموز وليس معنى تلك الرموز، أي دلالاتها. ومقابل الرأي القائل بأن الحواسيب ستكتسب الوعي يوما ما، يوجد رأي يقول بأن الوعي ليس حوسبة، ويمثل هذا الرأي موقفاً مهماً وشائعاً في فلسفة الذهن (philosophy of mind) والفيزياء النظرية. ويجادل أنصار هذا الرأي بأن التجربة الذاتية لا يمكن تفسيرها بالكامل من خلال العمليات الخوارزمية والتي تمثل صلب الحوسبة. ويستند أنصار هذا الرأي إلى حجة مفادها أن نظاما فيزيائيا ما لا يُعتبر حاسوبًا إلا إذا قام ملاحظ خارجي بربط حالاته الفيزيائية بحالات حوسبة مجردة. أما الوعي، فهو مستقل عن الملاحظ، فوجوده لا يعتمد على تأويل خارجي، لذا لا يمكن أن يكون مجرد عملية حوسبة. كما يستند هؤلاء إلى حجة مفادها أن الوعي ظاهرة فيزيائية وليس نقلًا للمعلومات، معتبرين أن الوعي سمة أساسية للمادة البيولوجية في الدماغ. إنه ظاهرة فيزيائية، مثل تدفق النشاط الكهروكيميائي في الشبكات العصبية، وليس شكلًا من أشكال المعلومات التي يمكن تحميلها إلى ركيزة مختلفة غير بيولوجية. ليس هذا فحسب، بل يستندون أيضا إلى مبرهنات عدم الاكتمال (Gödel's incompleteness theorems) التي صاغها عالم الرياضيات كورت غودل (Kurt Gödel) عام 1931، ليجادلوا بأن الفهم والإبداع البشريين ينطويان على رؤى غير خوارزمية لا يمكن لنظام حاسوبي صوري أن يحققها. وهذا يشير إلى أن الذهن البشري يعمل وفق مبادئ تتجاوز الحوسبة. وتنص مبرهنات عدم الاكتمال على أن أي نظام صوري متسق وقوي بما يكفي لوصف العمليات الحسابية الأساسية سيحتوي دائمًا على عبارات صحيحة غير قابلة للإثبات داخل النظام نفسه، ولا يستطيع النظام إثبات اتساقه، مما يكشف عن حدود متأصلة في البراهين الصورية والمعرفة الرياضية. وبهذا تكون مبرهنات عدم الاكتمال قد قوضت الهدف المتمثل في إيجاد مجموعة واحدة وكاملة ومتسقة من البديهيات (الأكسيومات، axioms) لبناء كل الرياضيات، مُظهرةً فجوة بين الحقيقة الرياضية وقابلية الإثبات. إن النقاش الدائر بشأن الذكاء الاصطناعي والوعي يدعو الناظر إلى استحضار طريقتين أساسيتين لفهم الظواهر، من الفيزياء إلى علم النفس البشري، وهما الطريقة الاختزالية (reductionism) والطريقة الشمولية أو الكُلِّيَّة (holism). تُقسّم الطريقة الاختزالية الأنظمة المعقدة إلى أجزاء أصغر لتيسير دراستها، مثل الخلايا العصبية لدراسة السلوك، أو اختزال عمليات البيولوجيا إلى الكيمياء ثم شرح قوانين الكيمياء من خلال الفيزياء. بينما تنظر الطريقة الشمولية إلى الكل على أنه أكبر من أجزائه، وتركز على الترابط، مثل تجربة الإنسان ككل. وغالبًا ما تكون الأنظمة في البيولوجيا أو علم النفس معقدة للغاية لدرجة تصبح معها سلوكياتها، أو تبدو، جديدة أو ناشئة ولا يمكن استنتاجها من سمات العناصر فقط. تُقدّم الطريقة الاختزالية عمقًا علميًا، كاشفةً عن الآليات، لكنها تُخاطر بالتبسيط المُفرط، بينما تُوفّر الطريقة الشمولية سياقًا وثراءً، لكنها قد تفتقر إلى إمكانية الاختبار التجريبي. يُعدُّ الوعي – حالة إدراكنا لما يحيط بنا ولأنفسنا – أحد أعمق ألغاز العلم. وبينما أحرز العلماء تقدماً في تحديد مناطق الدماغ والعمليات العصبية التي تشارك في الوعي، لا يزال هناك جدل حول المناطق والعمليات الضرورية للوعي، وكيف تساهم فيه بالضبط. فعلى الرغم من عقود من البحث، لا يزال هناك اختلاف في الآراء حول كيفية نشوء التجربة الذاتية من العمليات البيولوجية. ويُعدُّ فهم ظاهرة الوعي أحد أعظم التحديات العلمية في القرن الحادي والعشرين، وقد أصبح أكثر إلحاحاً بسبب التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي. ويسعى بعض العلماء إلى فهم ظاهرة الوعي على ضوء نتائج فيزياء الكم (quantum physics)، من ضمنهم عالم الفيزياء روجر بنروز (Roger Penrose) الحائز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 2020، وكذلك عالم الفيزياء فيديريكو فاجين (Federico Faggin) الذي اشتهر بتصميمه أول معالج دقيق (microprocessor). ويرى بنروز أن قوانين الفيزياء المعروفة غير كافية لتفسير ظاهرة الوعي، وأن إيجاد إطار نظري يجمع بين نظرية فيزياء الكم ونظرية النسبية العامة من شأنه أن يساهم في تفسير ظاهرة الوعي. بينما يدعو فاجين إلى اعتبار الوعي وحرية الإرادة (free will) بمثابة مُسَلًّمتين (postulats) وتفسير ظواهر فيزياء الكم على أساس هاتين المسلمتين. يختلف هذان العالمان البارزان في مقاربة ظاهرة الوعي، لكنهما يتفقان على أن الوعي ليس حوسبة.