الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    عائلة سيون أسيدون تقرر جنازة عائلية وتدعو إلى احترام خصوصية التشييع    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    طنجة.. وفاة شاب صدمته سيارة على محج محمد السادس والسائق يلوذ بالفرار    "جيل زد" توجه نداء لجمع الأدلة حول "أحداث القليعة" لكشف الحقيقة    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    خلاف بين وزارة الإدماج ومكتب التكوين المهني حول مسؤولية تأخر منح المتدربين    طنجة.. الدرك البيئي يحجز نحو طن من أحشاء الأبقار غير الصالحة للاستهلاك    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    لقاء تشاوري بعمالة المضيق-الفنيدق حول إعداد الجيل الجديد من برنامج التنمية الترابية المندمجة    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    بعد السرقة المثيرة.. متحف اللوفر يعلن تشديد الإجراءات الأمنية    تتويج مغربي في اختتام المسابقة الدولية للصيد السياحي والرياضي بالداخلة    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    تدشين المعهد المتخصص في فنون الصناعة التقليدية بالداخلة تعزيزاً للموارد البشرية وتنمية القطاع الحرفي    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    فضيحة كروية في تركيا.. إيقاف 17 حكما متهما بالمراهنة    السلطة تتهم المئات ب"جريمة الخيانة" في تنزانيا    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الربيع العربي و درس المفكر محمد عابد الجابري
نشر في لكم يوم 14 - 09 - 2011


الكتلة التاريخية لمواجهة مخاطر الداخل و الخارج
1- مخاطر محدقة بالربيع العربي
يمر العالم العربي؛ اليوم بفترات حساسة جدا في تاريخه الحديث؛ على إيقاع المد الثوري الذي يضرب من المحيط إلى الخليج. و تصل التحديات المفروضة اليوم؛ إلى مستوى التحديات التي عاشها العرب خلال مراحل التحرر الوطني .
إن الوحدة الثورية التي يعيشها العالم العربي اليوم؛ تفتتح لعهد جديد؛ يسعى العرب خلاله إلى القطع مع بنية الاستبداد التي ترسخت نتيجة عوامل تاريخية و ثقافية؛ تعتبر من ترسبات الماضي؛ كما تعتبر من آثار المرحلة الاستعمارية .
و في هذا الصدد لا بد أن نثير الانتباه؛ إلى مخاطر الطريق التي تواجه الربيع العربي؛ و التي يمكنها أن تحوله في أي وقت إلى جثة مشوهة؛ إذا لم يحسن ربابنة هذا الربيع؛ توجيهه الوجهة الصحيحة. إن الأمر يتعلق بامتلاك الوعي الكافي؛ لتجنب المخاطر المحدقة من كل صوب و حدب.
على الأقل؛ يمكن تصنيف هذه المخاطر إلى صنفين أساسيين:
مخاطر الداخل؛ قد نستغرب أن الربيع العربي يواجه مخاطر داخلية؛ رغم أنه يسعى إلى إعادة صياغة النسق السياسي العربي؛ لخدمة جميع التيارات و الإيديولوجيات؛ من منظور ديمقراطي ! لكن هذا الاستغراب سرعان ما يتراجع؛ عندما ندرك أن الأنظمة السياسية العربية –في معظمها- تعتبر امتدادا للمصالح الإستراتيجية الغربية؛ و استمرارها لعقود في امتلاك سلطة القرار –ضد أي مسوغ ديمقراطي- يجد تفسيره في الدعم الذي كانت تتلقاه هذه الأنظمة؛ كمقابل للخدمات التي كانت تقدمها للقوى الدولية العظمى . و من هذا المنظور؛ فإن هذه الأنظمة لن تستسلم للوضع الجديد بسهولة؛ بل ستقاوم بكل ما تمتلك من وسائل؛ و في مقاومتها لطموحات شعوبها؛ فهي مستعدة لارتكاب جرائم حرب بشعة قبل استسلامها؛ و مستعدة كذلك للتآمر مع جميع القوى الامبريالية لعرقلة المسار الثوري؛ في حالة سقوطها الاضطراري على وقع الضربات التي توجهها الإرادة الشعبية .
مخاطر الخارج؛ و على هذا المستوى لابد أن نتوقف قليلا لدحض نظرية المؤامرة التي يستلذها البعض؛ في اتهامه للربيع العربي بخدمة مصالح خارجية؛ ترتبط بالصهيونية و الماسونية ...! و هي اتهامات تافهة؛ تحتقر النضال الشعبي الذي يقود هذه الثورات الجرارة؛ كما أن أصحابها يفتقدون أي حس استراتيجي. و لذلك لا بد أن نثير انتباه هؤلاء؛ إلى أن الربيع العربي؛ يشكل أكبر تهديد لمصالح القوى الامبريالية؛ و ذلك لأن الأنظمة العربية القادمة؛ لن تكون قادرة على مواجهة الإرادة الشعبية؛ لفرض قرارات تخدم القوى الخارجية؛ و إلا فإنها ستحكم على نفسها بالإعدام قبل ولادتها. و لكل هذا فإن تحديات الخارج التي تواجه الربيع العربي؛ هي اكبر مما يمكن أن نتصور؛ فالتحالف الأمريكي-الصهيوني-الأوربي يتابع بشكل دقيق التحولات التي تحملها الثورات العربية؛ و هو مستعد للكشف عن أنيابه؛ كلما أحس أن مصالحه الإستراتيجية في المنطقة؛ تواجه تهديدا ما .
لكل هذه الاعتبارات إذن؛ لابد للشعوب العربية أن تلتزم اليقظة أكثر؛ و لا بد كذلك أن تمتلك حسا استراتيجيا؛ لأننا في بداية المعركة؛ و إسقاط نظام ما لا يعني نهاية المطاف بل بدايته. إن معركة البناء أكبر و أخطر من معركة الهدم؛ و لذلك لابد للمد الثوري أن يستمر؛ و مع استمرار يته لا بد أن ندشن لوعي جديد؛ نابع من حرصنا على استمرارية المعركة ضد خصوم الداخل و الخارج؛ حتى تحقيق الرهان الديمقراطي المنشود .
2- الكتلة التاريخية كدرع حام للربيع العربي
في حديثي عن المخاطر التي تواجه الربيع العربي؛ أريد أن أستحضر روحا قومية رائدة؛ فكر و ناضل لعقود في سبيل نهضة الأمة العربية و استقلالها التاريخي؛ و كم كنا نطمح أن يرافقنا خلال هذه اللحظات الحاسمة في تاريخنا العربي الحديث؛ بتوجيهاته و انتقاداته؛ لكن –يا لخسارتنا- في الليلة الظلماء يفتقد البدر !
و من منظور يموت العظماء و يخلدهم تراثهم الفكري و النضالي؛ وجدتني أستحضر بقوة روح فقيد العروبة الأستاذ و المفكر محمد عابد الجابري؛ كمنارة شامخة؛ تنير طريقنا الوعر في دجى مؤامرات الداخل و الخارج .
فقد انشغل الأستاذ محمد عابد الجابري طوال حياته الفكرية ولنضالية بقضايا وطنه و أمته. و قد قاده هذا الانشغال إلى الانفتاح على مجالات معرفية ثرية و متنوعة؛ كما قاده إلى توزيع انشغالاته بين السياسي و الفكري.
و إذا كان الأستاذ الجابري قد عرف على المستوى العالمي بمشروعه الفكري الرائد (نقد العقل العربي) الذي وضعه في مصاف المفكرين الكبار على المستوى الكوني؛ إلى جانب كانط في كتابيه (نقد العقل الخالص – نقد العقل العملي) و إلى جانب ريجيس دوبريه في كتابه (نقد العقل السياسي) . فإن للأستاذ الجابري انشغالاته الوطنية و القومية التي تضاف إلى هذا المجهود الفكري العميق.
2-1- الكتلة التاريخية من منظور تبيئة المفاهيم
أود في هذا المقام أن أتوقف عند مفهوم جوهري حضر عند الأستاذ الجابري؛ و هو مفهوم (الكتلة التاريخية). و رغم أن هذا المفهوم لم يثر الكثير من النقاش و التحليل فإنه شكل جانبا أساسيا من انشغالات الأستاذ .
تناول الأستاذ الجابري مفهوم الكتلة التاريخية أول مرة في حوار نشر له بمجلة المستقبل العربي (عدد نوفمبر 1982)، و ذلك في إطار جوابه على سؤال حول الطبقات في المجتمع العربي؛ وأيها يمكن أن تقود النضال من أجل التغيير.
و في إطار جوابه عن هذا السؤال أورد ما يلي :
"إن ما يحتاج إليه النضال العربي في المرحلة الراهنة هو في نظري شيء أقرب إلى ما سماه غرامشي ب"الكتلة التاريخية". كان هذا المفكر الإيطالي والمناضل السياسي اليساري (1891-1937) يفكر في طريق للتغيير الاجتماعي و السياسي والاقتصادي؛ يناسب معطيات المجتمع الإيطالي في زمنه. وكان المشكل الذي يعترض الإصلاح آنذاك في هذا البلد، هو ذلك التفاوت الكبير بين شمال إيطاليا، الذي كان قد بلغ درجة متقدمة على مستوى التصنيع والتحديث، وبين جنوبها الذي كان يحمل سمات المجتمع المتخلف الخاضع لسلطة الكنيسة. ومن أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإيطالية والقيام بنهضة شاملة اقترح فكرة الكتلة التاريخية، وهي تضم إلى جانب قوى التغيير والإصلاح في الشمال، من ماركسيين وشيوعيين وليبراليين، القوى المهيمنة في الجنوب بما فيها الكنيسة (1)
هكذا طرح الأستاذ الجابري مفهوم (الكتلة التاريخية)؛ كما طرحه (غرا مشي) في إيطاليا؛ و من خلال هذا المفهوم حاول الأستاذ مقاربة الواقع المغربي خاصة و العربي عامة؛ و الذي يشبه الواقع الإيطالي خلال مرحلة (غرا مشي)؛ الشيء الذي دفع الأستاذ الجابري إلى الاستفادة من التجربة الإيطالية؛ من منظور تبيئة المفاهيم؛ كما مارسها في مشروعه الفكري.
و بناء على هذا التصور طرح الأستاذ الجابري مفهوم الكتلة التاريخية باعتبارها " كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج. وبما أن مشكلة التنمية مرتبطة في الوطن العربي بقضية الوحدة، فإن هذه الكتلة التاريخية يجب أن تأخذ بعدا قوميا في جميع تنظيراتها و برامجها و نضالاتها". (2)
2-2- الكتلة التاريخية : الوحدة الوطنية و القومية لتحقيق استقلال تاريخي شامل
إن مفهوم الكتلة التاريخية كما طرحه الأستاذ الجابري يركز على محورين أساسيين؛ يصبان معا في هدف واحد هو تحقيق الوحدة العربية المنشودة :
- المحور الأول: يرتبط بالنضال في سبيل تحقيق استقلال شامل؛ يتجاوز طرد المستعمر من الوطن العربي؛ إلى محاربة جميع الخطط السياسية و الاقتصادية و الثقافية... التي تهدف إلى تأبيد الاستعمار بأشكال (غير عسكرية) و لكنها أخطر من سابقتها؛ لأنها تركز على إنهاك الأمة العربية؛ عبر ضغوطات عسكرية؛ و استغلال اقتصادي؛ و استلاب ثقافي ... إنها دعوة لاستقلال تاريخي شامل يتجاوز المواجهة العسكرية للمستعمر إلى مواجهة سياسية و اقتصادية و ثقافية؛ و ذلك بهدف تحقيق استقلال كامل؛ هو من غير جنس الاستقلال الشكلي الذي حصلت عليه مجموعة من دول العالم العربي؛ مشرقا و مغربا .
- المحور الثاني: يرتبط بالنضال الداخلي؛ من أجل ترسيخ قيم الديمقراطية و التنمية و التوزيع العادل للثروة؛ و هذا هو الجهاد الأكبر. و في هذا الإطار فإن الأستاذ الجابري يدعو إلى كتلة تاريخية ذات بعد قومي في تنظيرها و برامجها و نضالها؛ و ذلك من منطلق أن مشكلة التنمية مرتبطة في العالم العربي بقضية الوحدة . و هذا يعني أن مسألة الديمقراطية و التنمية في الوطن العربي؛ تتجاوز البعد القطري الضيق؛ لأن أي نضال قطري منغلق لن يحقق الأهداف المرجوة؛ و بالمقابل فإنها يجب أن تتخذ بعدا قوميا شاملا؛ عبر توحيد نضالات الشعوب العربية؛ مشرقا و مغربا؛ و بأهداف مشتركة؛ تتجاوز النعرات القبلية و الطائفية .
و إذا كان الأستاذ الجابري يدعو إلى كتلة تاريخية ذات بعد قومي؛ يتجاوز النعرات القبلية و الطائفية؛ فإنه في نفس الآن يدعو إلى كتلة تاريخية؛ تتجاوز حدود الإيديولوجيا؛ لأن انشغالها الأساسي؛ هو تحقيق الاستقلالي التاريخي الشامل للأمة العربية؛ و تحقيق الديمقراطية و التنمية. و هذه أهداف ترتبط بالمصلحة العليا لأمتنا العربية؛ و تستحق منا التخلي عن أقنعتنا الإيديولوجية؛ أو على الأقل تأجيل الصراع الإيديولوجي إلى مراحل لاحقة. "... إن في الواقع العربي الراهن بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية "حديثة" تجد تعبيرها الإيديولوجي في فكر "النخبة العصرية" وطموحاتها، وإن في الواقع العربي الراهن كذلك بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية "تقليدية" تجد هي الأخرى تعبيرها الإيديولوجي في فكر "النخبة التقليدية" و مخايلها. ومن هنا النتيجة الحتمية التالية: إن أي حركة تغيير في المجتمع العربي الراهن لا يمكن أن تضمن لنفسها أسباب النجاح، أسبابه الذاتية الداخلية وهي الأساس، إلا إذا انطلقت من الواقع العربي كما هو وأخذت بعين الاعتبار الكامل جميع مكوناته، "العصرية" منها و"التقليدية"، النخب منه وعموم الناس، الأقليات منها و الأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد... صفوف المصلين. (3)
إن منظور الأستاذ الجابري –إذن- للكتلة التاريخية كرهان استراتيجي؛ يمكنه أن يقود أمتنا العربية إلى تحقيق استقلال تاريخي شامل؛ و ديمقراطية و تنمية مستديمة؛ إن منظور الأستاذ الجابري يتجاوز الإطار السياسي /الإيديولوجي الضيق؛ كما يتجاوز الإطار القطري.
و هذا الانفتاح القطري و الإيديولوجي؛ الذي يدعو إليه الأستاذ الجابري هو القادر على إخراج الأمة العربية من العتمة إلى النور؛ و ذلك في سبيل المصلحة العليا لأمتنا العربية؛ التي تستحق منا - نخبا سياسية و ثقافية – التنازل عن نزوعاتنا الذاتية؛ لأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا؛ فهناك تاريخ مشترك و دين مشترك و لغة مشتركة ... و كذلك مصير مشترك .
لكن الأستاذ الجابري؛ و من منطلق خبرته السياسية تنظيرا و ممارسة؛ يعتبر أن جميع هذه المقومات الحضارية التي تجمعنا ليست وحدها القادرة على تحقيق حلم الكتلة التاريخية؛ لأن هناك عوائق مادية؛ يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
لذلك فهو يؤكد أن الانطلاق من هذا الواقع كما وصفناه، والأخذ بكل ما فيه من تعدد وتنوع، ومن ائتلاف واختلاف، سيكون مصطنعا وهشا إذا هو اعتمد التوفيق والتلفيق والتحالفات السياسية الظرفية ذات الطابع الانتهازي... إن المطلوب هو قيام كتلة تاريخية تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرك، في العمق ومن العمق، جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردد بين صفوف الشعب: المصلحة الموضوعية التي تعبر عنها شعارات الحرية والأصالة والديمقراطية والشورى والعدل وحقوق أهل الحل والعقد، وحقوق المستضعفين وحقوق الأقليات وحقوق الأغلبيات الخ. ذلك لأن الحق المهضوم في الواقع العربي الراهن هو حقوق كل من يقع خارج جماعة المحظوظين المستفيدين من غياب أصحاب الحق عن مراكز القرار والتنفيذ. إنه بدون قيام كتلة تاريخية من هذا النوع لا يمكن تدشين مرحلة تاريخية جديدة يضمن لها النمو والاستمرار والاستقرار".(4)
2-3- الكتلة التاريخية: نموذج وطني بأبعاد قومية
في سعي الأستاذ الجابري لجعل مفهوم الكتلة التاريخية أقرب إلى التلقي؛ فإنه ينطلق من الحالة المغربية؛ التي يمكن تعميمها –طبعا- على بقية مكونات الأمة العربية؛ و ذلك من منظور رفضه للطابع القطري الضيق للكتلة التاريخية .
يؤكد الأستاذ الجابري منذ البداية أن هذه الكتلة – التي يدعو إليها - هي تاريخية؛ ليس فقط لكون الأهداف المذكورة أهداف تاريخية، بل لأنها تجسيم لوفاق وطني في مرحلة تاريخية معينة. إنها ليست مجرد جبهة بين أحزاب بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف، إلا ذلك الذي يضع نفسه خارجها وضدها. وهكذا يمكن القول، إن القوى المرشحة لهذه الكتلة في بلد مثل المغرب هي:
- أولا: الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية والتنظيمات والمجموعات المرتبطة بها من نقابات عمالية وحرفية وتجارية وفلا حية وجمعيات ثقافية ومهنية ونسوية...
- ثانيا: التنظيمات والتيارات التي تعرف اليوم باسم الجماعات الإسلامية التي يجب أن يفتح أمامها باب العمل السياسي المشروع كغيرها من التنظيمات ذات الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الواضحة التي لا تمس لا وحدة الوطن ولا وحدة الشعب ولا الوحدة الروحية للأمة ولا الانتماء العربي الإسلامي للبلد.
- ثالثا: القوى الاقتصادية الوطنية التي تشارك بنشاطها الصناعي والتجاري والزراعي والسياحي والمالي في خدمة اقتصاد البلاد ككل وتطويره وتنمية قدراته.
- رابعا: جميع العناصر الأخرى التي لها فاعلية في المجتمع بما في ذلك تلك التي تعمل داخل الهيئة الحاكمة، والمقتنعة بضرورة التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف التاريخية المذكورة. الكتلة التاريخية ليست جبهة معارضة لنوع من الحكم قائم، ولا ضد أشخاص معينين، بل هي من أجل الأهداف الوطنية المذكورة. وهي لا تستثني من صفوفها إلا من يضع نفسه خارجها. هي لا تلغي الأحزاب ولا تقوم مقامها، ذلك لأن ما يجعل منها كتلة تاريخية ليس قيامها في شكل تنظيم واحد، بل انتظام الأطراف المكونة لها انتظاما فكريا حول الأهداف المذكورة والعمل الموحد من أجلها. (5)
و من منظور تجربته السياسية و نضاله في صفوف الحركة الوطنية إبان الاستعمار؛ و في صفوف حزب تقدمي بعد الاستقلال. من هذا المنظور يبدو أن الأستاذ الجابري كان مهووسا طوال مسيرته الفكرية و النضالية؛ بتحقيق حلم الوحدة العربية؛ من خلال تحقيق حلم الوحدة القطرية. و قد قاده هذا الحلم إلى التخلي عن (البطانة الإيديولوجية)؛ كما قاده كذلك إلى تكسير نموذج الدولة القطرية المنعزلة عن السياق العربي الموحد.
هذا الحلم –بالضبط- هو الذي سعى إلى تحقيقه على أرض الواقع؛ من خلال استعارته لمفهوم الكتلة التاريخية؛ الذي اعتمده (غرا مشي) في التجربة الإيطالية؛ الشبيهة إلى حد ما بالتجربة العربية .
إن الأستاذ الجابري؛ و هو يطرح التجربة المغربية؛ يسعى إلى تعميمها على العالم العربي؛ حيث يمكن تحقيق الكتلة التاريخية على نفس الشاكلة؛ لان هناك تقارب كبير بين مجموع التجارب العربية؛ سواء على مستوى الأحزاب أو النقابات أو الفاعلين الاقتصاديين؛ أو النخب الثقافية و الدينية. و هي نفس المكونات التي يمكنها أن تحمل عبء الكتلة التاريخية؛ قطريا في مرحلة أولى؛ و قوميا في مرحلة لاحقة.
3- الكتلة التاريخية: خارطة طريق لترشيد مسار الربيع العربي
إن مشروع الكتلة التاريخية – كما طرحه الأستاذ الجابري- يعتبر خارطة طريق أولية؛ ترسم نهجا لتحقيق الوحدة العربية؛ كخيار استراتيجي؛ لا يمكن للعالم العربي أن يحقق استقلاله التاريخي؛ كما لا يمكنه تحقيق رهان الديمقراطية و التنمية؛ من دون النجاح في التأسيس لهذا الخيار.
و يجد هذا المشروع مسوغه في الربيع العربي اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى؛ و ذلك لأن الاكتساح الثوري يخلف بالضرورة صراعات إيديولوجية و مذهبية و عرقية؛ حيث يسعى كل طرف إلى بلورة المرحلة الجديدة؛ من منظوره الخاص الذي يستجيب لمصالحه؛ و هذا ما يفتح المجال أمام أعداء الثورة خارجيا و داخليا؛ للانقضاض عليها و تشتيت مشروعها؛ بادعاء حماية البلد من الحروب و الفوضى .
و للخروج من هذه المسارات المتناقضة؛ فإن الواجب الوطني و القومي يفرض على جميع القوى؛ بجميع نزوعاتها الإيديولوجية و المذهبية و العرقية؛ أن تدمج مصالحها الخاصة ضمن السياق الوطني و القومي؛ من دون أنانية مفرطة تسعى إلى الاستيلاء على كل شيء .
و الكتلة التاريخية التي طرحها الأستاذ الجابري؛ يمكنها أن تكون أرضية صالحة لأي تحالف منتظر بين جميع القوى الوطنية و القومية؛ المساهمة في إطلاق الحراك الثوري؛ أولا حماية للثورة؛ و ثانيا لبلورة المشروع الوطني و القومي لمرحلة ما-بعد الثورة .
و في هذا الإطار فإن الواجب يفرض على القوى الوطنية و القومية؛ بجميع اتجاهاتها الإيديولوجية و المذهبية و العرقية؛ إن الواجب يفرض عليها أن تكون في مستوى تحديات المرحلة؛ و أن توظف اختلافها و تعددها لبناء المشروع الوطني و القومي المنشود؛ و ألا تدخل في صراعات إيديولوجية و مذهبية و عرقية لا طائل منها .
إن جميع التيارات الإسلامية و القومية و اليسارية و الليبرالية... مدعوة اليوم إلى التأسيس لكتل تاريخية؛ تكون الأسبقية فيها للمصلحة الو طنية و القومية و ليس للمنطلقات الإيديولوجية . فقد أدينا ضرائب باهظة الثمن من أمننا و تنميتنا؛ طوال عقود من الصراع الإيديولوجي و المذهبي و العرقي؛ و جاءت اللحظة الحاسمة اليوم؛ للتخلي عن هذا الماضي البئيس؛ و نشرئب برؤوسنا إلى مستقبل مشرق؛ نبنيه بإرادتنا و وحدتنا و طموحنا الجامح للعيش في أوضاع مغايرة .
الهوامش:
1- محمد عابد الجابري- حوار أجرته معه مجلة المستقبل العربي- أنظر: عدد نونبر 1982
2- نفسه
3- محمد عابد الجابري- مجلة اليوم السابع الفلسطينية الصادرة في باريس- ع: 26 أكتوبر 1987
4- نفسه
5- مداخلة الأستاذ الجابري في ندوة حول موضوع ( مستقبل اليسار بالمغرب)- نشرت في جريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 30 يناير 1993
كاتب و باحث أكاديمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.