قبل أربع سنوات كتبت جريدة «الفاينشال تايم» من أن الحرب العالمية الثانية انتهت، أما الحرب العالمية الأولى فلا. كانت الجريدة تحيل بالأساس إلى مخلفات الحرب العالمية الأولى على منطقة الشرق الأوسط. والواقع أن هذا الحكم يعود إلى ونستون تشرشل في قول له مأثور، من أن مخلفات الحرب العالمية الأولى سوف تجثم على العالم لأكثر من مئة عام. دخل العربُ الحربَ سنة 1916، بآمال عراض، أو وُظفوا على الأصح، من أجل إضعاف الجبهة العثمانية، بعد هزيمة بريطانيا في كالبولي سنة 1915. أغرى البريطانيون العرب من أجل الانسلاخ عن الطوق العثماني، وإرساء قوميتهم الخاصة بهم، في إطار مملكة عربية متحدة، مثلما وعدت بريطانيا بذلك، وما تشهد عليه مراسلات الحسين شريف مكة والمندوب البريطاني السير هنري ماكماهون. في الوقت ذاته تعهدت بريطانيا سنة 1917 بوطن قومي لليهود بمقتضى وعد بلفور، واتفقت قبلها مع فرنسا وروسيا على تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ، مما تضمنته اتفاقات سايكس بيكو. ليست فلسفة سايكس بيكو، سوى تحيين لسابقة تقسيم المغرب، بإبرام اتفاق ما بين بريطانياوفرنسا سنة 1904، بمقتضاه تتنازل فرنسا عن مصر لصالح بريطانيا، وتتنازل بريطانيا عن المغرب لصالح فرنسا، وتُجري فرنسا تقسيما للمغرب مع إسبانيا. كانت هذه الاتفاقات السرية، من الأسباب الداعية إلى نبذها بمقتضى نقاط ويلسون الأربع عشرة. انتهت الحرب بما سمي بالزمن البريطاني The british moment، أو خطاطة العالم كما رسمتها بريطانيا، التي ما تزال تلقي بظلالها إلى الآن، مع تحول الفاعل الرئيسي من بريطانيا إلى الولاياتالمتحدة. كانت معالم العالم الجديد مخيبة للعرب، بل مريعة. استفاقوا على واقع التجزيء، ثم معطى الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ذلك أن الإمبراطورية العثمانية رغم كل الإغراءات والضغوطات، رفضت قبول هجرة اليهود إلى فلسطين. أما بعد الحرب الكبرى وسقوط الإمبراطورية العثمانية، فلقد تدفقت أنابيب الهجرة، أو العالية، كما كانت تسمى، نحو فلسطين، مفضية إلى اختلال ديمغرافي، وتحرشات بالأهالي وتوترات، مع قوة في التنظيم لصالح العناصر اليهودية، ووسائل مادية كبيرة، وتكوين مليشيات مسلحة.. ولم يكن أول مندوب بريطاني هربرت صموئيل إلا واحدا من عرّابي وعد بلفور، ومَن سيُنزّل على الأرض سياسة الهجرة اليهودية إلى فلسطين. يحيل كتاب «اليقظة العربية» لجورج أنتونيوس، وهو من الكتب المرجعية، إلى معاناة الأمير فيصل بن حسين، وتقاذفه ما بين البريطانيين من جهة، وما بين البريطانيين والفرنسيين، في خضم التهيئة لمعاهدة فرساي. لم يكن يهم البريطانيون سوى استصدار تعهد منه لوطن لليهود، وبعد ضغوطات نفسية عديدة، اضطر للإضافة بقلمه بأن تعهده رهين بالتزام بريطانيا بالوفاء بالمستلزمات الأخرى، أي قيام كيان يوحد العرب ويضمن استقلاليتهم. أسفرت بريطانيا عن قناعها في مؤتمر سان ريمو، في مايو/أيار 1919، حين شجبت إعلان قيام المملكة العربية المتحدةبدمشق في مارس/آذار، وكرّست مبدأ الانتداب، وأعطت التفويض لفرنسا من أجل استعمال القوة. انتهت كل أحلام الوحدة (وحدة بلاد الشام) والاستقلال (رفض مبدأ الانتداب) بمعركة ميسلون في دمشق، حين قضت قوات الجنرال الفرنسي كورو على الجيوش العربية أو نكبة ميسلون، كما سميت في الأدبيات العربية، التي استشهد فيها وزير الدفاع يوسف العظمة. أما وفد مصر الذي ارتحل إلى فرساي، برئاسة سعد زغلول، فلم يؤذن له بالحضور، وتشكل في أعقاب ذلك حزب باسم الوفد، وقامت المظاهرات ضد بريطانيا، جراء ذلك، فيما يعرف بالثورة المصرية. انبنت فترة ما بعد الحرب الكبرى على حساب العرب، أو من دونهم على الأصح، مما تعبر عنه جملة مشهورة للويد جورج: لقد كان العرب حلفاء أثناء الحرب، وأصبحوا عبئا بعدها. قام الزمن البريطاني أو البراديغم الجديد، على المراهنة أولا على ما أسماه ونستون تشرشل بأرضية Platform من شأنها ضمان مصالح بريطانيا، في المنطقة (مما سيصبح إسرائيل) وحارسا لقناة السويس المعبر الأساسي للهند. وثانيا المراهنة على مصطفى كمال، باعتباره حاملا لما تنهض بريطانيا ضده، في مقولة مشهورة للويد جورج، من أن مصطفى كمال أضحى يمثل ما تتوخاه بريطانيا. وثالثا دعم المشيخات في كل من نجد والحجاز والخليج، ما سيضع حدا لأحلام الأمير فيصل بن حسين في الوحدة، وبث الشقاق في صفوف العرب. ورابعا السيطرة على مصادر البترول، ولذلك تم ضم إقليم الموصل إلى العراق (الذي اصبح تحت الانتداب البريطاني) الذي اكتُشف فيه البترول وكان الإقليم قبلها تابعا لما كان يسمى بسنجق حلب، بمقتضى اتفاق ما بين بريطانياوفرنسا سنة 1919، قبيل انعقاد معاهدة فرساي. ومن السهل جدا أن نلاحظ علاقة قرابة بين ما كان يسمى بالزمن البريطاني، وعقيدة ترومان التي أطلقها سنة 1949، والتي تقوم على ضمان أمن إسرائيل، وتدفق البترول، وحماية دول الخليج، بمقتضى حلف كونسي، والتصدي لكل مشروع وحدوي، بل يمكن أن نذهب أبعد، في ما يسمى بعقيدة كلنتون، مع تحيين بسيط، مع إضافة ما كان يسمى بالاحتواء المزدوج، لكل من العراق (حينها) وإيران. «الزمن البريطاني»، أو البراديغم الذي ارتسم غداة الحرب الكبرى، هو الخطيئة الأصلية التي سوف تتناسل عنها النكبات تلو النكبات، والتوترات، وسوء الفهم العميق. كل هذه الأشياء لا يحب الغربيون الوقوف عندها، ولكن كما في علم النفس، ينبغي العودة إلى لحظة الانكسار أو الجرح الوجودي من أجل تجاوزها. لقد أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمته بمناسبة الذكرى المئوية، إلى ما سماه بالندوب الماثلة، في تعبير فضفاض، وأنحى باللائمة على شرور القوميات والفاشيات وتوظيف الدين... مثلما أحال إلى «خيانة المثقفين» في إشارة إلى كتاب جوليان بندا الشهير. الرئيس الفرنسي محق في رصده للأخطار المتنامية، وتفاقم الانكماش الهوياتي المفضي إلى التطرف، بل إلى الفاشية، وكذا أخطار الاختلال البيئي وارتفاع الحرارة. ولكن ألا يجوز أن نذهب أبعد من ذلك، ونتساءل عن أسباب انكماش الهويات وبروز القوميات والتطرف وتوظيف الدين؟ أليس الغرب مسؤولا، من خلال مخلفات مرحلة، ومن خلال سياساته وعدم الوفاء بالتزاماته؟ لم تتم الإشارة إلى المغاربيين في حفل التخليد لمئوية الحرب العالمية الأولى، الذين كانوا يشكلون ثلثي جنود المستعمرات، ولو بجملة واحدة، بالعربية والأمازيغية، في الوقت الذي تحدثت العروض بالإنكليزية والألمانية والروسية. مَن نشجب، في نهاية المطاف، خيانة المثقفين أم خيانة السياسيين؟ أم روح ميونيخ، كما سميت في تلك الفترة، حينما رضخ السياسيون للبراغماتية على حساب المبادئ، ولم يعصمهم ذلك من إعصار حرب كبرى في نسخة ثانية، أكثر دمارا. * المصدر: عن موقع "القدس العربي"