في السياسة، الفارق الحاسم بين من يدبّر اللحظة ومن يصنع التاريخ هو القدرة على تسمية الأشياء بأسمائها قبل أن تقع، لا الاكتفاء بالسباحة مع التيار فيجرفه. ونحن نقف اليوم على مشارف استحقاقات 2026، المحطة الانتخابية المفصلية في تاريخ المغرب الحديث، يجد حزب الأصالة والمعاصرة نفسه أمام سؤال بسيط في صيغته، عميق في تبعاته: هل نحن حزب ككل الأحزاب، أم مشروع يؤسِّس لمغرب جديد، يستعيد ثقة الأمة المغربية في ذاتها، ويُحيي قيم تامغرابيت؟. قبيل المؤتمر الوطني الأخير لحزبنا، كانت قراءتي التي صرحت بها علانية في منابر إعلامية مخالفة ربما للسائد حينها: إننا بصدد مرحلة انتقالية حتمية، وليست نموذجاً تدبيرياً مستداماً. مرحلة تقتضي لمّ شمل كل أبناء الحزب وحاملي مشروعه، لنكون مستعدين لقيادة ما أطلقتُ عليه آنذاك، ولأول مرة، اسم "حكومة المونديال". لم يكن هذا المصطلح مجرد لفتة إعلامية، بل تشخيصاً لحجم المسؤولية التاريخية المقبلة. فالحكومة القادمة ستكون تتويجاً لمرحلة بناء أسس الدولة الحديثة التي رسم جلالة الملك محمد السادس معالمها طوال أكثر من عقدين. إنها الحكومة التي ستنقل المغرب من المرحلة الانتقالية إلى مغرب المستقبل. جاءت صيغة القيادة الثلاثية بعد المؤتمر تأكيداً لهذه القراءة، ثم أكدتها رسمياً منسقة القيادة الجماعية، السيدة فاطمة الزهراء المنصوري، حين صرحت في أحد المجالس الوطنية بأننا فعلاً في "مرحلة انتقالية". الواقع السياسي، إذن، يؤكد صحة تلك القراءة الاستشرافية. لقد وُلد "البام" من رحم "حركة لكل الديمقراطيين"، ليس ليكون رقماً إضافياً في المعادلة الحزبية، ولا مجرد "ماكينة انتخابية" همّها الوحيد المقاعد والمناصب. جاء هذا المشروع ليجيب على سؤال ظل معلقاً لعقود: كيف نبني حداثة سياسية دون أن ننسلخ عن هويتنا؟ لعقود طويلة، ظلت الساحة السياسية المغربية محكومة بأيديولوجيات مستوردة من المشرق، بعيدة كل البعد عن التربة المغربية وخصوصيتها الحضارية. أحزاب كثيرة لم تر في المغرب إلا نسخة باهتة من تجارب سياسية شرقية أو غربية، فكان الخطاب غريباً والممارسة أغرب. جاء "البام" ليقول شيئاً مختلفاً: نحن لسنا نسخة من أحد. نحن مشروع ينتصر ل" تامغرابيت" كقيمة حضارية وسياسية، يعيد للإنسان المغربي ثقته في مؤسساته وهويته، ويحمل همّ "المغرب العميق" الذي طالما عانى من إقصاء المركز. مشروع يكسر ثنائية المركز والهامش، ويؤسس لحداثة متجذرة في الأصالة. اليوم، ونحن جزء أساسي من التحالف الحكومي، نواجه مفارقة يجب الاعتراف بها بصراحة. لا أحد ينكر أن الحزب راكم حضوراً مؤثراً في مؤسسات الدولة والجماعات الترابية، لكن السؤال اليوم يتجاوز الحصيلة التدبيرية إلى سؤال المشروع والهوية والتنظيم. فهل ما زال "البام" يحمل تلك الشعلة التي انطلق من أجلها؟ أم أننا بدأنا نتحول، شيئاً فشيئاً، إلى حزب "تدبيري" بامتياز؟ أرقام محترمة، حضور مؤسساتي قوي... لكن أين الروح السياسية؟ أين المشروع؟ أين الخطاب الذي يميزنا عن الآخرين؟ السياسة ليست مجرد أرقام. السياسة موقف، ورؤية، وقدرة على إلهام الناس. فهل نملك اليوم ذلك الإلهام؟ لقد أصبحنا اليوم، دون أن ننتبه بما يكفي، نجسِّد داخل بيتنا الحزبي ما حذَّر منه جلالة الملك على مستوى الدولة: منطق "مغرب السرعتين". غير أنّ هاتين السرعتين، في حالتنا، ليستا بين جهتين أو فئتين من المواطنين، بل بين مركز حزبي يمسك بمفاتيح القرار، وهوامش تنظيمية واسعة لا يُسمَع صوتها إلا لماماً، حتى أصبح من المشروع الحديث عن "حزب السرعتين". في المركز، دائرة ضيّقة من النخبة الحزبية الوطنية، تتحكّم في خيوط القرار، وترسم الاختيارات الكبرى، وتحتكر الواجهة التنظيمية والإعلامية. وفي المقابل، تمتد على طول البلاد قواعد حزبية ومناضلون في المغرب العميق، ينتظرون خطاباً سياسياً يشبههم، وفضاءات تنظيمية تُشركهم فعلياً في صناعة القرار، لا أن تُعاملهم ك"قوة انتخابية" تُستدعى عند التزكيات والانتخابات، ثم تُركَن إلى الانتظار. حتى آليات الترشيح تعكس أحياناً هذا التفاوت، حيث تُمنح الفرص للكفاءات في مناطق، فيما تُختزل في مناطق أخرى إلى اختيارات تقليدية، وكأن الطاقات الحقيقية موزعة جغرافياً لا بشرياً. الأخطر من ذلك أن أبناء "المغرب العميق"، الذين يفترض أن يكونوا في صلب هوية مشروعنا، غائبون أو مُقلَّص حضورهم في المكتب السياسي، واللجان المركزية، وباقي الهيئات التقريرية. ومع تعاقب المراحل، صار الحزب يُوصَف تارةً بأنه حزب هذه الجهة أو تلك، أو هذا التيار أو ذاك، وهي تسميات تعكس شعوراً حقيقياً بعدم توازن داخلي في توزيع النفوذ والتمثيلية، وتحوِّل جزءاً واسعاً من المناضلين إلى "خزّان انتخابي" بلا وزن حقيقي في القرار. هذا الانفصال بين المركز والهوامش، بين من يقرر ومن ينفذ، بين من يتحدث ومن يستمع فقط، يُفرغ الحزب من روحه الأولى. نصبح حزباً ينجح في صالونات الرباط، لكنه يفقد شيئاً فشيئاً ثقة القواعد في الجبال والسهول والواحات. إن المرحلة القادمة لا تحتمل القيادات الرمادية ولا أنصاف المواقف. فنحن نقف على أعتاب استحقاق 2026 في سياق تبدو فيه السياسة متثاقلة، والخروج من هذا الجمود لن يتحقق عبر إعادة تدوير التشخيص، بل عبر جرأة في اقتراح المخارج وصياغة البدائل. ومن موقع الفاعل المراقب من داخل هذا البيت، أرى أن تصحيح المسار يمرّ عبر ثلاث رافعات مركزية: أولاً: إنهاء الاستثناء التنظيمي والعودة إلى قيادة موحَّدة وقادرة على الحسم لا يمكن لحزب يستعد لخوض معارك سياسية كبرى أن يستمر برأس متعدد. فالقيادة الجماعية قد تنفع لإدارة الأزمات، لكنها لا تُنتج زعامة سياسية قادرة على مخاطبة المجتمع وتحمل المسؤولية أمامه. إن اللحظة السياسية تتطلب مخاطباً واحداً يمتلك الكاريزما والوضوح، ويُحاسَب عن اختياراته داخل المؤسسات وعند الرأي العام. ولذلك، فإن العودة إلى أمانة عامة بصلاحيات محددة ومسنودة بشرعية ديمقراطية داخلية هي المدخل الأول لاستعادة هيبة الحزب وصورته كقوة سياسية فاعلة. ثانياً: العودة إلى نبع الهوية والتميُّز الإيديولوجي كشرط للوضوح السياسي لقد تماهى الحزب، في بعض لحظات التحالف، مع شركائه إلى درجة كادت تذيب لونه الخاص. بينما الأصل أن الأصالة والمعاصرة ليس حزباً تقنياً أو إدارياً، بل مشروع مجتمعي وُلد من رحم التربة المغربية، منتصراً للحداثة ولتامغرابيت التاريخية والحضارية. إن استعادة هذا التميّز تقتضي إعادة الاعتبار للمثقفين والمفكرين داخل الحزب، وللنقاش البرامجي الجاد، وللثقافة باعتبارها محركاً للفعل السياسي لا مجرد ديكور تنظيمي. الهوية هنا ليست شعاراً، بل بوصلة تُميّزنا عن الماكينات الانتخابية الصرفة وتعيد للحزب رسالته الأولى. ثالثاً: المصالحة المجالية مع المغرب العميق عبر كسر مركزية القرار لم تكن قوة الحزب يوماً في صالونات الرباط، بل في قدرته على حمل صوت الريف والأطلس وسوس والواحات والقرى والأحياء المنسية. وهذا الرأسمال الرمزي لا يمكن استعادته دون إعادة الاعتبار لمناضلي هذه المناطق، لا كأرقام انتخابية، بل كشركاء حقيقيين في صياغة القرار وتوجيه البوصلة السياسية للحزب. ولنا في اللقاءات التشاورية التي نُظمت بتوجيهات سامية عبر كل التراب المغربي، في القرى والمداشر النائية، خير دليل على إمكانية التوجه نحو كسر المركزية السياسية. إذا كانت الدولة قادرة على الإصغاء المباشر لمواطني المناطق البعيدة، فكيف يُعقل أن يظل الحزب الذي يدّعي حمل مشروع "تامغرابيت" حبيس دوائر قرار ضيقة؟ إن كسر مركزية القرار، وتوسيع دوائر المشاركة في الهيئات التقريرية، ليس فقط خياراً تنظيمياً، بل ضرورة لمنع تحول الحزب إلى قوة مركزية تدير هوامش صامتة، ولترجمة العدالة المجالية إلى ممارسة داخلية قبل أن تكون شعاراً سياسياً. إن العودة إلى التأسيس التي ندعو إليها ليست التفاتة حنين إلى الماضي، ولا انقلاباً على ما راكمه الحزب من تجربة، بل هي استرجاع لتلك الشرارة الأولى التي منحت لميلاد الأصالة والمعاصرة معناها: أن يكون إطاراً يؤسِّس ولا يستهلك، يبني ولا يكتفي بالتدبير اليومي، ويفتح أفقاً لمغرب جديد يليق بتحولات العهد الجديد وطموح تامغرابيت كهوية حية ومشروع مستقبلي. العودة إلى التأسيس، بهذا المعنى، هي دعوة إلى إعادة ترتيب سلّم الأولويات: أن يعود الإنسان قبل المقعد، والمبدأ قبل الموقع، والهوية الوطنية الجامعة قبل كل اصطفاف ظرفي. أن نستعيد يقيننا بأن السياسة، كما آمنا بها يوم التأسيس، هي أولاً وأخيراً التزام أخلاقي واختيار حضاري، لا مجرد تقنية للتموقع داخل السلطة أو تحسين شروط المشاركة فيها. نحن في حاجة إلى نَفَس سياسي جديد يحرّر الحزب من منطق تصريف الأعمال الحزبية ويعيده إلى موقع صناعة المعنى والتاريخ. إلى رجّة تنظيمية وفكرية هادئة وعميقة في آن واحد، تُقنع مناضل الريف وسوس والأطلس والواحات، قبل مناضل المدن الكبرى، أنه ينتمي إلى مشروع وطني مفتوح أمامه، لا إلى واجهة انتخابية مغلقة في وجهه. من دون هذا التحول الداخلي، سيظل كل خطاب عن حكومة المونديال ومغرب المستقبل مجرد شعارات معلَّقة في الهواء. سنة 2026 ليست على جدول أعمالنا كموعد لصناديق الاقتراع فقط، بل كاختبار لصدق ما نقوله عن أنفسنا: هل نحن حزب ككل الأحزاب، أم مشروع يريد فعلاً أن يأخذ نصيبه من مسؤولية بناء مغرب جديد؟ إما أن ندخل هذه اللحظة بمنطق استمرارية مريحة تُبقي كل شيء كما هو، وإما أن نختار طريق الانبعاث، بما يعنيه من مراجعة، وتجديد، وإعادة توزيع للأدوار والفرص والوجوه. المعطيات الموضوعية في صالحنا: تجربة، ورصيد، وحضور مجالي واسع، وثقة تأسيسية لا تزال قائمة في الذاكرة الجماعية. ما ينقص هو أن نُحوِّل هذا الرصيد إلى قرار شجاع. من هنا تأتي ضرورة التفكير الجدي في عقد مؤتمر استثنائي في مطلع 2026، يطوي صفحة المرحلة الانتقالية التي استنفدت أغراضها، ويمنح الحزب ما يحتاجه لخوض الاستحقاق المقبل: قيادة موحَّدة قادرة على الحسم، وشرعية تنظيمية قوية، ورؤية واضحة تجعل من طموح قيادة حكومة المونديال مشروعاً قابلاً للتحقق لا مجرد شعار. هذا المؤتمر لا يجب أن يكون مجرد محطة لإعادة توزيع المواقع، بل لحظة تأسيسية ثانية: لحظة مصالحة داخلية حقيقية، ولمّ شمل كل الطاقات والكفاءات، وتوسيع دوائر صناعة القرار لتشمل المغرب العميق لا فقط المركز. مؤتمر يعيد للحزب وضوح الهوية، وقوة الخطاب، وجاذبية المشروع. الخيار في النهاية ليس بين البقاء أو الفناء، بل بين أن نكون في مستوى اللحظة التاريخية التي نعيشها، أو أن نتحول، تدريجياً، إلى هامش في قصة بدأنا نحن أنفسنا جزءاً من فصلها الأول. الحلول ليست غائبة، والبدائل ليست مجهولة؛ ما يُصنع الآن هو ميزان الجرأة داخل هذا البيت. فإذا انتصرت إرادة الإصلاح من الداخل، يمكن للبام أن يدخل 2026 كحزب متجدد يحمل مشروعاً واضحاً. أما إذا انتصر منطق الانتظار والتأجيل، فإن الزمن السياسي لن يُجمِّد ساعته في انتظارنا. بقلم: رشيد بوهدوز رئيس اللجنة الأمازيغية بحزب الأصالة والمعاصرة