أمين أحرشيون عندما يحزم الواحد منا حقائبه للسفر، يظن أنه يهرب من ضيق الحياة إلى سعة الحرية، ويعتقد أن ركوب الطائرة وقطع البحار سيعطيه "حياة جديدة". لكن الحقيقة التي نلمسها في واقع جاليتنا هي أن الأجساد فقط هي التي سافرت، أما العقول فقد بقيت سجينة داخل "أسوار قديمة" حملناها معنا في حقائبنا. إننا نعيش اليوم حالة غريبة، حيث يحمل المهاجر "مجتمعه" في ذاكرته، ويصنع منه في الغربة حصناً منيعاً لممارسة الرقابة على الآخرين، وكأننا سافرنا لنبني سجوناً صغيرة تضيق بكل فكر حر، بدلاً من أن نبني عقولاً تساهم في رقي الإنسانية. وهنا تبرز المفارقة الكبرى؛ فعندما يصر الإنسان على العيش منغلقاً داخل "عقلية القطيع" في الغربة، فإنه يكشف عن خلل في هدف هجرته. هو في الحقيقة لم يهاجر من أجل الانفتاح على واقع الحياة الجديد أو الاستفادة من آفاق الحداثة، بل هاجر وهو يحمل هدفاً فكرياً منغلقاً على ماضيه، وكأنه يحاول استرجاع زمن ولى في مكان جديد. هذا الانغلاق يجعلنا نعيش في بلاد تمنحنا كامل الحقوق في الاختلاف، لكننا نخشى كلام الناس في "المقهى العربي" أكثر مما نحترم القوانين أو نحترم خصوصيتنا. هذا الوضع خلق نوعاً من "التشدد المظهري" الذي نتخذه رداءً لنا، وهو ليس بالضرورة تعبيراً عن إيمان عميق، بل هو "آلية دفاعية" ضد الخوف من فقدان الهوية. المتشدد هنا لا يسعى لإصلاح نفسه بقدر ما يسعى لفرض وصايته على الآخرين لكي يثبت لنفسه وللجماعة أنه ما زال يمسك بتلابيب "الأصالة"، فتتحول القيم من رسالة روحية سامية إلى أداة للتميز الاجتماعي وفرض الهيمنة. إن هذا النفاق الاجتماعي يجبر الفرد على تبني وجود زائف؛ وجه يرضي الجماعة ويحتمي بظلها، وحقيقة تظل مكبوتة خلف الجدران، وهو في جوهره انتحار للهوية الشخصية في سبيل نيل رضا أشخاص يخشون كل ما هو مختلف أو متفرد. إن المخرج من هذا التيه ليس بانتظار تغيير جماعي، بل ب "يقظة الوعي الفردي". إنها تلك اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يكون "هو"، لا صدىً لأصوات الآخرين. فالحرية الحقيقية تبدأ حين يدرك المغترب أن قيمته تُستمد من صدقه مع نفسه ومع خالقه، لا من حجم التصفيق الذي يناله من "قطيع" يقتات على تتبع العثرات. لقد آن الأوان لنتساءل بصدق: هل الغربة هي رحيل عن المكان، أم هي أن تعيش غريباً عن حقيقتك، مرتهناً لعيون الناس، وفاقداً لشجاعة السؤال؟