سيارة مسرعة تدهس شابًا وامرأة بعد خروجهما من حفل زفاف بمنطقة العوامة بطنجة    توقيف 6 أشخاص في شجار عنيف بشاطئ طنجة وإصابة قاصر    مغاربة يعتصمون ليلا أمام البرلمان ضدّ الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة    السكتيوي: الروح القتالية وعزيمة اللاعبين كلمة السر في الفوز على تنزانيا    بلاغ: المجلس الوطني لحقوق الإنسان يعبر عن ارتياحه لدخول قانون العقوبات البديلة حيز التنفيذ    الإعدام للرئيس السابق للكونغو الديمقراطية مطلب النيابة العامة    أول إعلان أممي من نوعه: غزة تعيش المجاعة.. و"حماس" تطالب بوقف الابادة    ترامب يحدد موعد قرعة مونديال 2026    عجز قياسي جديد يثير المخاوف بشأن متانة التوازنات المالية بالمغرب    المنتخب المغربي يهزم تنزانيا ويتأهل إلى نصف نهائي الشان    "بوكو حرام" تنفي مقتل زعيمها باكورا    مدغشقر تتأهل إلى نصف نهائي "الشان"    تشكيلة المنتخب المحلي أمام تنزانيا    دليل استرشادي من رئاسة النيابة العامة إلى قضاة النيابة العامة حول تنفيذ العقوبات البديلة    شبهة تضارب المصالح تضع منتخبين أمام مسطرة العزل بجهة الدار البيضاء    استفحال ظاهرة اغتصاب الأطفال!    فلوس الغرامة.. فلوس المهرجان    للمرة الثالثة: عودة الفنانة شيرين عبد الوهاب لطليقها حسام حبيب يشعل أزمة جديدة    طنجة : باشا يتعرض لاعتداء خطير وسرقة وسط المدينة    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    احتفاء خاص بالباحث اليزيد الدريوش في حفل ثقافي بالناظور    بعد تعليق حملة المراقبة.. ما مآل الدرجات النارية المحجوزة؟    بوريطة يجري اتصالا هاتفيا مع نظيره المصري    الإجهاد الحراري يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية ويهدد صحة العمال    مهرجان الشواطئ يحتفي بعيد الشباب وثورة الملك والشعب بمشاركة نجوم مغاربة وعرب    حماس تطالب بوقف الحرب وفتح المعابر بعد إعلان الأمم المتحدة المجاعة في غزة    بولتون بين أيدي الFBI.. سقوط ورقة ضغط طالما راهن عليها نظام الجزائر والبوليساريو    مداهمة منزل جون بولتون المستشار السابق لترامب الذي يشتغل مع الجزائر من طرف الFBI    لاعب بفريق المغرب التطواني يتسلل سباحة إلى سبتة المحتلة        بطولة إنجلترا .. مانشستر سيتي يجدد عقد مدافعه روبن دياز حتى صيف 2029    "تيكاد-9" يفضح محاولات انفصاليي "البوليساريو" ويؤكد دعم اليابان للحكم الذاتي المغربي    رسميا .. دخول العقوبات البديلة حيز التنفيذ لتخفيف الاكتظاظ السجني        السعودية تعزز خدمات العمرة: منصة إلكترونية متكاملة للمعتمرين دون الحاجة لوكالات أو وسطاء    فلاحو سهل صبرة بزايو يرفعون نداء استعجالي لإنقاذ محاصيلهم المهددة بالجفاف            بمناسبة عيد الشباب.. فرقة "المسيرة الخضراء" تبهر الجمهور بعرض جوي مذهل فوق سماء المضيق ومرتيل    إجراءات ضريبية محفزة لمغاربة العالم لا يعرفها الكثيرون    ضبط زورق محمل بطنين من الشيرا وتوقيف سبعة أشخاص    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    بعد التدخل المفاجئ لأخنوش: من يحمي حياة المواطنين وسط تغوّل الحسابات السياسية والمالية؟    الاصابة تبعد الهولندي فريمبونغ عن ليفربول ثلاثة أسابيع    المغرب يتصدر مستوردي الغاز الإسباني    تركيا تستعد لإطلاق شبكة الجيل الخامس ابتداء من سنة 2026    إعادة برمجة خلايا الدم إلى خلايا جذعية مستحثة متعددة القدرات يفتح آفاقا واسعة في مجال العلاج الشخصي والبحث العلمي (صابر بوطيب)    دراسة: عدم شرب كمية كافية من الماء يسبب استجابة أكبر للإجهاد        وفاة القاضي الرحيم عن 88 عاما.. صوت العدالة الذي أنصف المهاجرين    انطلاق فعاليات مهرجان الرمى والطلبة والخيالة بمركز صخور الرحامنة مبادرات راائدة في التضامن الترابي (صور)    ابتكار جهاز من الماس يرصد انتشار السرطان دون مواد مشعة        "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آمال عوّاد رضوان.... الكتابةُ بشرطِ الاستعادةِ

لا يمكنُ لأيّة قراءةٍ نقديّةٍ إلّا أن تكونَ محاولةً في استعادةِ النّصّ، النّصّ بوصْفِهِ بُنْيَةً مفتوحةً للمعنى/ الرسالة، أو بوصْفِهِ بُنيةً بَصَريّةً مُصَمَّمةً لاستحضارِ فكرة الجَمالي/الصّوري في الجملةِ الشعريّة.
هذهِ القراءةُ تسعى بالمقابلِ إلى الاستغراقِ في بُنيةِ النّصّ الاستعاريّةِ، مِن خِلال تفكيكِ التّماسُكِ الظاهريّ لهذا النصّ، والبحثِ عن الأبنيةِ الخفيّة والعميقةِ فيهِ، تلكَ الّتي تتجسّدُ عبرَ المزيدِ مِن التّلويناتِ البَصريّةِ، حتّى يبدو وكأنّ النصَّ يَفقدُ خاصّيّتَهُ المُعلَنةَ والمُباشرة، ليتحوّلَ إلى مجموعةِ سيْروراتٍ باثّةٍ لطاقةٍ داخليّةٍ، ورؤيا تُعبّرُ عن كشوفاتِ هذهِ الطاقةِ، وتَمثُّلها كخطابٍ شِعريٍّ/ لسانَيْن؛ يُمثّلُ الحاضنَ لكلِّ الشّفراتِ الدلاليّةِ في النصّ، ولكلّ الاشتغالاتِ الأسلوبيّةِ في التّعبيرِ عن تركيبِ الجُملةِ، وبناءِ الصّورةِ، وما يَستدعيهِ ذلكَ مِن إجراءاتٍ في كشْفِ المعنى الّذي تُلاحقُهُ الكتابةُ دائمًا، عبرَ استعادةِ الذّاتِ أو الطبيعةِ أو المحبوب ..
هذهِ العَتبةُ القِرائيّةُ تَضعُ نُصوصَ الشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان، أمامَ اشتغالاتِ الكشفِ الداخليِّ والخارجيّ للبُنيةِ البَصريّةِ، وللبُنيةِ الاستعاريّةِ، إذ تَشتبكُ هاتانِ البُنيتانِ في مجموعتِها الشّعريّةِ (بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجٌ)، باتّجاهِ الكشْفِ عن الشّعريّ، بوصْفِهِ تَماهٍ معَ فكرةِ الاستعادةِ، ومعَ رؤيا البحثِ عن التّجلّياتِ الحسّيّةِ، إذ هي تتلمّسُ كشوفاتِ الجُملةِ الشّعريّةِ، مِن مُنطلقِ إحالتِها إلى جُملةٍ ثقافيّةٍ مشحونةٍ بطاقةٍ تعبيريّةٍ، وهو ما يُعطي لنصوصِ المجموعةِ سِياقًا حُرًّا، تَسعى مِن خلالِهِ الشّاعرةُ إلى توسيعِ فكرةِ الاستعادةِ تلك، مِن خلالِ استمالةِ الحسّيّ، والجسدانيّ، والوصفِ الشّعوريّ المُتورّطِ بالكشفِ عن تفاصيلِ التجربةِ وترميزِها، ومنْحِها إيقاعًا داخليًّا مُصمَّمًا، وكأنّه تعويذةٌ للارتواءِ، وبيانُ الإنشادِ العاطفيِّ الّذي يتماهى معَ نداءِ الآخَرِ الحاضِرِ، عبرَ صوَرٍ ومَناخاتٍ حِسّيّةٍ وآيروسيّةٍ مُتعدّدةٍ...
إنّ ما تُفصِحُ عنهُ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان هو إفصاحٌ وصْفِيٌّ أوّلًا، وهو إفصاحٌ بَصَريٌّ في جوْهرِهِ، إذ يَتوالَدُ عبرَ صورةٍ استعماليّةٍ، مَسكونةٍ بالاستعارةِ، رغم أنّ لغةَ الشاعرةِ بسيطةٌ، إلّا أنّها مَشوبةٌ بهَوَسٍ حِسّيٍّ للتعبيرِ عن شِفرةِ الرغبةِ، رغبةِ البحثِ، رغبةِ الاكتشافِ، رغبةِ الاستحضارِ، رغبةِ اللذّةِ، إذ تكونُ اللغةُ في هذا السّياقِ الاستعاريِّ أشبَهُ بمجموعةٍ مِنَ الإشارات، الّتي تُوظّفُها الشّاعرةُ باتّجاهِ أن تَستفزَّ الذاكرةَ، وأن تستفزَّ الجسدَ، وبما يُسبغُ على لعبةِ الاستعادةِ المَجازيّةِ سِماتٍ تُعبّرُ عن نفسِها، مِن خلالِ الانشدادِ إلى انزياحِ الاستعارةِ، الّذي يَبدو مكشوفًا امامَ ازدحامِ التفاصيلِ الشّعوريّةِ، ومَناخاتِ الإحساسِ المُفرِطِ في نزوعِهِ الاستعاديّ ..
أَحِنُّ إِلى حَفيفِ صَوْتِكَ
ينسابُ
نَسِيمًا رَطِبًا في مَعابِرِ رُوحِي
تَجمَعُني قُزَحاتهُ إضمَاماتٍ فوَّاحَةً
تَزدانُ بِها مَنابرُ مَسامِعي
أَشتاقُكَ ..
أيُّها المَجنونُ
إِلى ما لا نِهايةٍ مِن جُنونِك
أَشتاقُك ..
إنّ تكرارَ الإشارة الصّوتيّة (صوتك) هي إشارة تعويضيّة ونفسيّة، تقابلُ غيابَ الحضور والتّشخصن، وهذا ما يدفعُ الشّاعرةُ لاصطناعِ نصِّها البَصريِّ بوصْفِهِ نصًّا لغويًّا استعاريًّا، يَفترضُ إبرازَ السّياقِ الاستعاديّ، ليكونَ بمثابةِ البُنيةِ المُهيمِنةِ الّتي تُحرِّكُ المحتوى الإشاريّ، وبما تمنحُ بُنيةَ الصّوتِ بوصْفِهِ نداءً، مجالًا تعويضيًّا يَجذبُ إليه الكثير مِن البُنياتِ الثّانويّة..
ولاشكّ أنّ هذا النّزوعَ البنائيّ يفترض له أيضًا تراتبًا وتركيبًا في البناء الأسلوبيّ، يجعل من المجموعة وكأنّها قصيدةً واحدة، كُتبتْ تحت إغواء الاستعادة، مِثلما خزينٌ استعاريٌّ لتحديدِ استعادةِ الآخَر/ المحبوب، لطاقةِ الإغواء الحسّيّ، أو المزاج الذي يَطبعُ إحساسَ الشّاعرة، وهي تستغرقُ في البُنيةِ الاستعاريّةِ بوصْفِها ترميزًا ودلالةً، أو بوصْفِها احتواءً نفسيًّا، كثيرًا ما يَتحوّلُ إلى طاقةٍ شعوريّةٍ وتعبيريّةٍ، الّتي تتسلّلُ إلى الذّات المهووسةِ بالآخر، إذ تستحضرُهُ في توليفات صوتيّةٍ مُكرّرة، كونُهُ نداءً أو رغبةً، مناخات تختزن طيّاتِها توهّجًا خفيًّا، هو توهّجُ الشّاعرة ذاتها، وهي تستسلمُ إلى ما تكتشفُهُ مِن صورٍ واستمالاتٍ لصورةِ الآخَرِ، تتجوهرُ فيها لهفةُ الرّوحِ والجسدِ المسكونيْنِ بهاجسِ الاستدعاء وفرش التفاصيل، توْقًا إلى ارتواءاتٍ تعويضيّة..
آثارُ قلبِكَ دَعني أرَمِّمْها ..
أُجَدِّدْ مَاءَ حَدائِقِها ..
أَجعلها وُرودًا
نَتراقصُ بَينَها شَغفًا
وتَسبَحُ قَنادِيلي في جَداولِهِا الشّهيَّة
تُكرّرُ الشّاعرة هذه الخاصّيّةَ- خاصيّةَ الاستحضار- حدّ الحلول فيها، لأنّها تمنحُها إحساسًا حادًّا بالامتلاء، واستيعاب ما تفورُ به الرّغبةُ مِن تهويماتٍ تُخفي في جوهرِها قلقًا وجوديًّا، هو قلق الفقدان، لذا هي تحاول أن تخفي هذا القلق عبْرَ استحضارِ الإشاراتِ الإيروتيكيّة وإشارات الخصب، كدلالةٍ مقابلةٍ لفكرةِ الحلول عند الصّوفيّة، لأنّ هذا الشّعورَ التّعويضيّ هو المضادّ لبنيةِ الفقدان المضمرةِ في حدوسٍ غير معلنة، نجدُ مقابل (آثار قلبك) وهي صور استذكاريّة؛ إذ هي تُشيِّءُ بثنائيّةٍ مفترَضةٍ للحضور والغياب عبْر صور (آثار) وصورة (أرمّمها)، صورًا أخرى (هو صدرُك بيدري)، وهذا التّقابل الصّوريّ يكشفُ عن شبقٍ حسّيٍّ ولغويٍّ، مثلما تتوالدُ عنه رغبةٌ في التّوحّدِ والتّبادلِ تُجسِّدُها البنيةُ التّساؤليّة..
أتكونَ دفينَ انصِهَاري
حَبيسَ أنْوِيَتي ؟!
أتَقْبَلُ بِكيْنونَةٍ جَديدةٍ
لا تُحَرِّرُها إلاّ بَراكيني ؟!
تتمثّلُ أغلبُ القصائدِ/ النّصوصِ في المجموعةِ إلى إحساسٍ عميقٍ بالأسى، وتَوهُّجٍ داخليٍّ، تَستفزُّ مِن خِلالِهِ الذّاكرةَ المُعاديةَ للصّمت، فهي ترسمُ صورةً لقلقِها وانتظارِها وندائِها مِن خلالِ الآخر (مصدر الأسى واللّذّة)، إذ هيَ تستلُّهُ، بَدْءًا مِن بنيةِ الاستهلال (إليكَ، حيثُ أنتَ، فيّ أبدًا)، وانتهاءً بإعادةِ استحضارِهِ عبْرَ سيولةٍ مِن التّفاصيل، تلكَ المَسكونةُ بالكثيرِ مِنَ الصُّورِ المُشتبِكةِ بالاستعارةِ، والّذي يبدو أحيانًا، وكأنّهُ يُخِلُّ بالكثافةِ الشعريّةِ، إذ تنحاز الشّاعرةُ هنا إلى هذيانِها المصمّم، هذيان الرّغبة، هذيان التّدفّق والتّوليد اللّغويّ المُدجّج بالاستعارات، وكأنّها عبْرَ هذه الشّراهةِ تؤكّدُ الحضورَ الرّمزيّ، وتؤكّدُ نزعةَ سيكولوجيا الامتلاك، مثلما تؤكّدُ أيضًا طاقةَ الوجودِ الّتي تؤنسنُها، عبْرَ تحقّقِ العديدِ مِن التّرميزاتِ الموحيةِ بقوّةِ التّملّكِ، والباثّةِ لطاقاتٍ تعبيريّةٍ أكثرَ عُمقًا، وأكثرَ تَوجُّسًا واستغراقًا بالحسّيّ ..
في قصيدة "في مهبِّ رصيفِ عزلة"، تحاولُ الشّاعرةُ أن تكشفَ عن رمزيّةِ فقدانِها، إذ هي الأنثى الموغلة في آهاب رغباتِها، وتيقّنِها بأنّها لن تستعيدَ إلاّ صورتَها في المرآة؛، صورةَ المرأة الأنثى وليست المرأة الوجود، إذ هي الّتي تندفعُ إلى الاستعادة، لأنّها محكومةٌ بالحُبّ والتّوحّدِ واللّذّة والتّبادل، والمرأةُ الأخرى محكومةٌ بقانون الطبيعة.. تنحاز الشّاعرةُ إلى أنموذجها المُتعالي والأنويّ والمهووس والمشخصن في عقدةِ المرآة، وتجد عبْرَ خساراتِه وفقدانِهِ إحساسًا متعاليًا وباطنيًا، يجعلُ مِن مشاعرِها المضطربة والقهريّة استبطانًا لاجتراح لذّةٍ داخليّة/ استمنائيّةٍ وعداويّة، هي سرُّ ما يمنحُها التّدفّقَ والتّوحّشَ واستعادةَ الحياةِ والحُبِّ ولو رمزيّا…
آهٍ …
ما أَشقاهَا المرأةَ
حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ
إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة ..
كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ
في سَحيقِ هَاوياتِها
يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ
يَترُكَها أَجِنَّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها
قَد أَكونُ أَرهقتُكَ ؛
بِضَجيجِ فِكري
بِضَوضاءِ قَلبِي
أَشعرُ بالذَّنْبِ
حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي
وما مِن ذَنْبٍ أَقترِفهُ
سِوَى أن تتكَبَّدَ جَرِيمَةَ حُكْمِي
أُحِسُّ برَاحةٍ غَريبةٍ
حِينَما أُوقِعُ بِكَ قِصَاصِي
بِلُؤمٍ أَبْلَه
تكتبُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان تحتَ إيقاع هذه المشاعر اللّجوجة، تغرقُ لغتُها بغليان مِن الصّورِ المحتدِمةِ وحدوس الرّوح المتوجِّسة، (البنيةُ الصّوتيّة) تمثّلُ فضاءَها الذي تستغرقُهُ كبنيةٍ استحضاريّةٍ متدفّقة، إذ يكون الصّوتُ هو النّاقلُ لوجعِها الدّاخليّ ونفورها ومزاجها القهريّ، مثلما هو مجسُّها الذي تتلمّس به الخارج، بكلّ ما يمورُ به مِن أحلام ورؤى وتوهّجات وفقدانات، والتي عادةً ما تترك فراغًا مُريعًا!
الصّوت هنا هو لجوؤُها الفارق والمُدهِش والباطنيّ، تُغلّفُ إيقاعَها بنبر خفيٍّ يتجاوز أحيانًا بنيتَهُ النّثريّة، ليكشف عن إيقاع اللّغةِ ذاتها؛ إيقاع التّوتّر، تصادم الرّؤى وتعاكس الأحاسيس، حتى تبدو اللّغةُ هنا أشبه بالمصدّ الذي يحتكّ بالتباساتِ الخارج المرثيّ!
إذ تصنع له الشّاعرة كتابةً في الرّثاء، وتجعل مِن ذاتِها المرآويّةِ فضاءً لحيواتٍ ضاجّة، تكسرُ إيهام الزّمن واغترابه، حيث ينطلق هذا الزّمن مِن الماضي، ليستحضر حاضرًا لا هويّة له، سوى أنّه حاضرُ الجسد المكتنِز بالنّداءِ واستجلاب المحبوب الغائب والغائم، كنوع من الإيهام برغبةِ التّعويض أو التّرميم، وأحيانًا تكون الكتابة استغراقًا في رثاء الجسد..
ومن هنا تضع الشّاعرةُ قصيدتها أمام لعبة إغواءٍ متواصل؛ لعبةٍ في استغراق الحياة، لعبةٍ في الانفلات من المرارة، كتابتُها نصُّ الاستعادة هو محاولة للهروب إلى الأمام، دفْعًا لاستعادةِ قوّتِهِ في الشّهوة والإشباع، واستئثارًا بكتابةٍ هي الأقرب إلى كتابةِ المزاج، إذ تكون الشّاعرةُ أمامَ شراهة أنويتها وحيدةً تنحاز إلى آخر يشبهُها، لا خصوصيّةَ له سوى أن يتدفّق، يُطلق عصافيرَ إشباعه ونشيدِهِ المُباح.. ولاشكّ أن هذه القصيدة / النّصّ تفترضُ لغةً صاخبةً لا تتسلّلُ باطمئنان إلى الخارج، لغةً غيرَ مشبعة، انشطاريّة، لا زحمةَ في نظامِها الدّلاليّ، مفتوحةً على شفرات الجسد وانشغالاتِهِ وحدوسِه، حيث يكون الجسدُ هنا هو الحاضن الإشكاليّ الذي يُفلسفُ أزمة الكائن في وجوده، وفي عشقه وفي استمالته وارتوائه..
الشّاعرةُ تطلقُ العنان هنا لهذه اللّغةِ المتدفّقةِ دون مُوارَبةٍ، لأنّها على يقين أنّها تكتب لغتها، وتنزاح إلى استعاراتها الحسّيّة التي لا تفلسفُ علاقتها مع الآخر.. لذا هي لغةٌ محتويةٌ لأنويةِ الشّاعرة، حاضنةٌ لقلقِها وندائِها وبوحِها وتوحُّدِها واعترافِها!
يا خِشْيَتي مِنْكَ وَعَليْكَ
إنْ تَلتحَمْ أكوانُ كَلَفِكَ
بِضُلوعِ جِنَاني
أأقولُ :
لا تَدْنُ مِن مُروجي
فَما اخضِرارُ بَتْلاتي سِوى سَرابٍ
يَخلِبُ لِحَاظَ القِلوبَ
ويَفتنُ مَجسَّاتِ العُقول ؟
إنّ قصيدةَ "أنفض الغبار عن متحف فمك"، تمثّلُ قصيدةَ اعترافٍ موجِع، تمارسُ فيها الشّاعرة أقصى رغباتِها في التّصريح عن مكنونها، وانهماكِها باستعادة الآخر اللّذّويّ والإشباعيّ إزاء توهّماتِ حرمانِها وفقدانِها، وهذا التّقابلُ الحادُّ يُضفي على شفراتها اللّغويّةِ نوعًا من التّعبيريّة الحادّة، التي تتكثّفُ أصواتُها في صوت واحد، هو صوت الأنثى التي تمارسُ إغواءَها القديم بمواجهة ذاتها/ جسدها/ حريّتها أوّلاً، قبلَ الآخر الذي وضعتْ الشّاعرة/ الأنثى فمَهُ في المتحف، وهنا تتوهّمُ استعادتَهُ دائمًا عبْرَ اصطناع لعبةِ حضوريّةٍ إفراغيّة، تفترض فيها إشارة (نفض الغبار) كنصّ مضادّ للمتحف الذي يؤطّرُهُ السّكون، مثلما تتوهّمُ المروجَ كعلامة مضادّة للسّراب، وتتوهّم ثنائيّاتٍ أخرى تتزاوج فيها رغباتُ الشّاعرة المحتدِمة..
إنّ شعريّة آمال عوّاد رضوان هي شعريّةُ كفاية الحلم كما يسمّيها ابن عربي! إذ هي تستدعي وتستحضرُ سيرةَ فقدانِها، حتى تبدو وكأنّها مرويّةَ حُلم، له نشوةُ الابتهاج وله قسوة المكاشفة، هذا الانجرار الحسّيُّ يجعلها أثر إيغالاً في تلذّذِ الكشف، وتحويل جسد الآخر إلى سطح لتدوين هذا الكشف، الذي تتكثّف مشهديّتُه في نصّ فسيح/ توصيفيٍّ لا قاموسَ له سوى الرّغبة، ولا امتداد له سوى اللّحظة المكثّفةِ المتوهّجة، التي تمنحها الشّاعرة استعادةً مُكرّرة..
هو ذا القَلبُ خاشعٌ
راكعٌ في مِحرَابِ الاعترافِ
يتمتمُ في صمتِهِ الصَّاخبِ
يا مَنْ تَرْجِمُني بِوابِلٍ مِن قُبُلات
لأجْمَلِ اقْتِراف
إن نصوصَ الشّاعرة لا تحتمل التأويل ولا تهرب بعيدًا عن المعنى! لأنّها محمولة على كتابةٍ موجعة وحلمية ومباشرة أحيانًا، تفرش قماشتها اللّغوية بنوع من التّوثب الذي يُلامس روح أنوثتها النافرة والقلقة..هي تكتب نصًّا في استدعاء الغياب بكلّ ما يختزنُه هذا الغياب من ترميزاتٍ واستعارات، والذي يحمل شفرة الآخر بكلّ توهّجه وخوفٍه وخذلانِه..
وجدت نفسي أتسلّلُ مع قصائدِها، وكأنّي أبحث عن نهايةِ هذا الأسى وهذا الصّحو في هذه اللّعبة الماهرة داخل كيمياء الجسدِ واللّذّة، والتي تختمها الشّاعرة باستعارة نداء (أيها)، وهي إشارة للحضور الملتبس الذي يكشف عن أدوار، تبادلُها إيّاهُ الشّاعرةُ الحرمانَ والنّشوةَ والجنونَ وحتّى الهذيان!
أيُّها القادمُ من رَحمِ الحرمانِ مَدفوعًا برياحِ النَّشوة والهيام،
تَخشى افتقادَ اللَّحظة،
تُحلّق في روائع الجنون
خشْيَةَ أن تصحُو من عَبقِ الهذَيان.
شاعر وناقد عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.