بايتاس: مركزية الأسرة المغربية في سياسات الحكومة حقيقة وليست شعار    المغرب يعرب عن استنكاره الشديد لاقتحام باحات المسجد الأقصى    هل يسمح المغرب لطائرة اتحاد العاصمة الجزائري بدخول المملكة؟    مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون يتعلق بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مطار الناظور يحقق رقما قياسيا جديدا خلال الربع الأول من 2024    بايتاس يؤكد على "الإرادة السياسية القوية" للحكومة لمعالجة مختلف الملفات المطروحة مع النقابات    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    المغرب يستنكر اقتحام باحات المسجد الأقصى    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    وزارة الفلاحة تتوّج أجود منتجي زيوت الزيتون البكر    وضع اتحاد كرة القدم الإسباني تحت الوصاية    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي : إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    تشافي لن يرحل عن برشلونة قبل نهاية 2025    3 مقترحات أمام المغرب بخصوص موعد كأس إفريقيا 2025    الجماعات الترابية تحقق 7,9 مليار درهم من الضرائب    عدد زبناء مجموعة (اتصالات المغرب) تجاوز 77 مليون زبون عند متم مارس 2024    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    مدريد جاهزة لفتح المعابر الجمركية بانتظار موافقة المغرب    الرباط.. ندوة علمية تناقش النهوض بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة (صور)    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    رسميا.. الجزائر تنسحب من منافسات بطولة اليد العربية    أبيدجان.. أخرباش تشيد بوجاهة واشتمالية قرار الأمم المتحدة بشأن الذكاء الاصطناعي    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    المالية العمومية: النشرة الشهرية للخزينة العامة للمملكة في خمس نقاط رئيسية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بينَ سُلطةِ الغوايةِ والانبعاثِ الشّعريّ
قراءة في قصيدة (سماويّةُ غوايتي/ للشاعرة آمال عواد رضوان)
نشر في طنجة الأدبية يوم 14 - 07 - 2009

في الحُلمِ نستهلكُ الكثيرَ مِنَ المادّةِ الفنّيّةِ – كما يقول نيتشه - لدرجةٍ أنّنا حينَ نستيقظُ نكتشفُ ذلك.. الإقامةُ في الحُلمِ هي إحدى ملاجئ الخلاص مِن شُحِّ المرئيِّ المكشوفِ، بلا أدلّةٍ على إقامتِنا.. إذن؛ هل يمكنُ اعتبارُ الصّورة الشّعريّة اختزالاً حُلمِيًّا للمكانِ والزّمان؛ يستطيعُ الشّاعرُ مِن خلالها، أن يقترحَ مسرحَ إقامتِهِ وِفقَ سلطةِ الغوايةِ، الّتي لا تعني بالضّرورةِ استهلاكًا حسِّيًّا آنيًّا، واجترارًا نرجسيًّا لا يفقهُ لغةَ الممكنِ الرّوحيِّ، وانبعاثِهِ الاحتماليِّ على صعيدِ الجسدِ كشكلٍ، أو على صعيدِ المعنى كمحتوًى لإقامتِهِ الحسّيّةِ والرّوحيّةِ معًا..

تلكَ هي بعضُ الإشكاليّاتِ الّتي تُثيرُها قراءةُ نصٍّ، لا يبدو في سطوحِهِ الدّاخليّةِ، وكأنّهُ بلا أقنعةٍ تسترُهُ مِن دوافعِهِ ومُبرّراتِهِ الشّديدةِ على تّلمُّسِ القضايا الكبيرةِ، الّتي تصِلُ بالفردِ المتوحّدِ والهائمِ بها، إلى اللّجوء ِإلى أدَقِّ أنواعِ المُخاتلةِ والمواربةِ، ولكن، وِفقَ لغةٍ بريئةٍ وشفيفةٍ من الخارج، عميقةٍ وموحيةٍ وصادمةٍ مِن الدّاخلِ، ذلكَ ما يَخلقُ صورةَ التّلاحمِ والتّضادِ في ذاتِ التّركيبِ اللّغويّ وإيقاعِهِ الصّوتيّ، اللّذيْنِ يُشكّلانِ طابعَ الخصوصيّةِ في الأداءِ والتّعبيرِ، حدَّ الانثيالِ الجَماليِّ والبلاغيِّ، ولكن ضِمنَ التّمركزِ في جوهرِ القضيّةِ المنشودةِ، وإن كانتْ ضربًا مِن التّمركزِ في الحُلم.

هكذا نستهلُّ قصيدةَ (سماويّةُ غوايتي) للشّاعرةِ المبدعةِ آمال عوّاد رضوان، بدءًا مِن العنونةِ – ثريّا النّصّ - ومِن ثمّ العتبات الأولى لها:
في ضَبابِ الأُفُقِ الهارِبِ مِنْكِ
تَتَناغَمُ فُصولُ الحُزْنِ الفَرِحِ؛
بَيْنَ لِقاءِ الغِيابِ.. وَ.. بَيْنَ غِيابِ اللِّقاءِ
يَلُوحُ مَعْبَدُ روحِكِ تُحْفَةً
تَحُفُّهُ هالَةٌ مِنْ سُكونٍ
يَفوحُ في انْسِكابِ نَدًى..
شَوْقٍ .. عَطِرٍ
وَفي مِحْرابِ اللَّحْظَةِ
تَجْثو أَحْلامُ كافِرٍ
تَتَزاحَمُ في غَفْلَةٍ مِنْ غُروبِ إيمان
*
إنّ الشّاعرةَ وهي تتلمّسُ أفقَ وملامحَ الصّورةِ، إلى ما تصبو إليه مِن معتقَدٍ خاصٍّ، تمضي بلغتِها حدَّ استدعاءِ اللّحظةِ بمستويَيْها، التّضاديّ بينَ الحضورِ والغيابِ كثنائيّةٍ لابدَّ منها، لتكريسِ ثنائيّةِ الشّكِّ واليقينِ، وكأنّ لحظةَ اللّقاءِ بغيابِهِ أو لحظةَ الغيابِ في لقائِهِ؛ غفلةً في أحلامِ كافرٍ، تتزاحمُ مِن غروبِ الإيمان!
صورةٌ مذهلةٌ ومتفرّدةٌ، أحالتْ سُلطةَ الغوايةِ مِن مَكمنِ فاعليّتِها الحسّيّةِ، إلى مكمنِ انبعاثِها التّأمّليّ، بكلِّ طراوةٍ وانسيابٍ وتلقائيّة..
تلكَ سمةُ النّصوصِ غير المتكلّفةِ في تأسيسِ علاقةٍ بينَ المُرسلِ والمتلقّي، لأنّ الأقنعةَ الّتي تسترُ النّصَّ، هي ليستْ للتّضليلِ والإيهامِ والإيغالِ في جوفِ المجاهيلِ وغياهبِ الحُجبِ، لكن سُلطة الغوايةِ في النّصِّ مرنة، سلسة، مكتنزة ومموسقة، وِفقَ هرمونيّةِ الامتدادِ الشّعريِّ وتشكيلاتِهِ الطّريّةِ، الّتي تُزاوجُ بينَ المرئيِّ واللاّمرئيِّ بطلاقة...
مَلاذِيَ
- في عِتابِ المَوْتِ وَعِقابِ الحَياةِ -
كَفْكِِفي حورِيَّاتِ المُقَلِِ بِنَدى كَفَّيْكِ،
وَلا تَسْليني؛
حينَ لا يُجْدي سُؤالُ السَّلْوى سَراباً
ساهِريني
عَلى
صَليلِ صَمْتٍ
تُناكِفُهُ غَشاوَةُ غَفْوَةِ اللَّيْلِ
غَافِلي نَوافِذَ هَذَياني التَتَرَاقَصُ بِهَفْهَفَةِ رِقَّتِكِ..
يا مَنْ كُنْتِ جِرارَ أَمْسِيَ الآتي
وَغَدَوْتِ أَنفاسَ غَدِيَ الماضي
أُسْكُبيني
في
كَأْسِكِ الطّافِحِ بِزَبَدِ ضَياعي
وَلا تَسْقِنيها
إنَّ طابعَ النّداءِ في القصيدةِ ذو مدلولٍ شعريٍّ، يُقيمُ بين (المحتمل) و(المعنى)، وبحسب - جوليا كريستيفا – ((فاِنّهُ يتمتّعُ بوضعيّةٍ مزدوجةِ القيمةِ، إنّه ملموسٌ وعامّ معًا وليسَ بتتابع)).. وضِمنَ هذا المفهوم، إذا كانَ المحتمَلُ يدلُّ على المعنى كنتيجةٍ، فإنّ المعنى يكونُ محتمَلاً عبْرَ آليّةِ تكوّنِهِ، فالمُحتمَلُ هو معنى خطابٍ بلاغيٍّ معُيّنٍ، أمّا المعنى فهو محتملُ كلِّ خطاب - بتعبيرِ كريستيفا -..

وفي (سماويّةُ غوايتي) يمكنُ اعتبارُ ازدواجِ القيمةِ - بوصفِهِ انبعاثًا شعريًّا يُستمَدُّ من الغواية- سلطةً للتّنظيمِ الحسّيِّ، أو كمحتوًى يدلُّ على المعنى كنتيجةٍ، مثلما يُستمَدُّ مِن الحلم رابطاتهِ الرّمزيّةَ، أو الصّورَ المعادلةَ للغةِ الشّعر، ليصبحَ بمثابةِ محتملِ الخطابِ الشّعريّ ..
أيا سَماوِيَّةَ هُيامي
اغْزِلي وُشاحَ لَهيبي
طَوِّقيهِ عَلى جيدِ بَرْدِكِ المُتَأجَّجِ دوني
لأَنْسَلَّ إِلْهاماً إلى حيثُ روحِكِ
وَشِّحِيني أَنْغاماً بِسَريرَةِ سِحْرِكِ
اعْتَمِري قُدْسِيَّةَ ابْتِهالاتي
عَمامَةَ اخْتِفاءٍ
وَ س و ح ي
مَلَكًا نورانِيًّا
يَقْدَحُ سَحابِيَ قُزَحًا
أوْ .. عَصًا سِحْرِيَّةً تَزْرَعُني نُجومًا
في بَراحِ أكْواني الكالِحَة
كذلك ثمّةَ موجّهات في النّصّ لا بدّ مِن تقييمِها، مقترنة بمجموعةِ العلاقاتِ الكامنةِ ما بين الذّاتِ والموضوع، وما بينَ الموضوع والمنظور..

قصيدةُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان يمكنُ اعتبارُها شحنةً دافقةً مِن الحسّ المكانيّ الممزوجِ بالفقدان، ذاك المكانُ، كموضوعٍ متماهٍ في المعنى الغاوي لسُلطةِ الحضورِ غيابيًّا، وكمنظورٍ في المحتملِ الحُلميِّ لسُلطةِ الغيابِ حضوريًّا، هكذا بفِعلِ سُلطةِ الغوايةِ الّتي تتأجّجُ في كلّ لحظةِ غيابٍ وحضورٍ، ضِمنَ مَزيجٍ متداخِلِ ومتضادّ، وهوَسٍ مزاجيٍّ مُنظّمٍ ومتماسِكٍ حدَّ الرّوعةِ، وضمنَ الاستسلامِ لقضيّةٍ ما تنفكُّ تحتمي بفضاءاتِها المتخيّلة، لتُحيلَ الصّورةَ المفقودةَ إلى صورةٍ محسوسةٍ بصريًّا، سعيًا لاستحصالِ لذّةِ اكتمالِ المشهدِ النّاقصِ.. المفقود، والمضياع.

الغوايةُ هنا سُلطةٌ تتمركزُ في لذّةِ المكانِ المضياع, والمكانُ هو الانبعاثُ الشّعريُّ والقيميّ للّذةِ، الّتي ترتقي سماواتُها بكلِّ انفلاتِ المرئيِّ نحو اللاّمرئيّ وبالعكس..
يَا طَفْرَةَ النُّعاسِ الأَخْرَس:
لآلِئُ عَيْنَيْكِ غُوايَةُ بَراءَةٍ
تَنْداحُ
سَحابًا ساهِيًا
يَهُزُّ مَهْدَ وَجْدي في فَيافي البُعْدِ
يَرْوي مَناهِلَ عُيونٍ
غاصَتْ في تيهِ المَناديل
وتصِلُ حدّةُ الشّعورِ الحسّيِّ المتوحّدِ في القصيدةِ حدّ التّوسّلِ باللّحظةِ المُرتجاة، أن تقوّضَ لحظتَها المتحجّرةَ في زمنٍ ومكانٍ متوقّفيْنِ ومتنافريْنِ، لفرطِ التّجريدِ القسريّ الّذي يخلعُ عنها قوّةَ المثولِ العيانيِّ للتّفاصيلِ المشتهاة، تلك اللّحظات الّتي تمنحُ الجسدَ طقوسَهُ الخاصّةَ، الّتي تستمدُّ مِن شغفِ الملموسِ طراوةَ التّطهيرِ بعدَ إثمِ اليباب، أو تمنحُ اليأسَ بصيصًا مِن أملٍ، يكادُ يَخورُ مِن التّصلّبِ الزمانيِّ والمكانيِّ.

الشّاعرةُ تصلُ حدودَ تقبُّلِ الآخر، وكأنّهُ ضريحٌ للتّطهّرِ في ظِلِّ إثمِ اليأسِ والوجعِ والحسراتِ، والّتي تصِلُ حدودَ مازوكيّةِ التّعبيرِ والوصفِ، حينَ تضعفُ سُلطةُ الغوايةِ أمامَ الخساراتِ المتلاحقةِ للحرّيّة، وللامتلاك، وللبهجة، وأمامَ سيولةِ الشّغفِ بالتّفاصيلِ اليوميّةِ، حدَّ الوهنِ في احتمالِهِ المُخيّبِ للإشباعِ في الإقامةِ بوطنٍ مرتقبٍ للعودة، وكأنّهُ جسدٌ ضائعٌ، تتمادى في إغوائِهِ كي يعود..

ثنائيّةُ الوطن/ الجسد، ثنائيّةٌ مضمَرةٌ في تداخلاتِها وتأمّلاتِها، وهيَ المَبعَثُ الشّعريُّ الخطيرُ والمُهمُّ في هذا النّصِّ وفي غيرِهِ مِن نصوصِ الشّاعرة، ولكن الأسلوبَ المُخاتلَ كما أسلفنا، يوحي ظاهريًّا بفسْخِ الخاصِّ عن العامّ، بينما إشكاليّة النّصّ المخفيّةِ تتحقّقُ، مِن خلالِ التّلازمِ الخفيِّ، ومن خلال التّماهي في جزئيّاتِهِ وكُليّاتِهِ شكلاً ومحتوًى، بُغيةَ التّصعيدِ الجَماليِّ، وتحقيقًا لغاياتِ الموضوعةِ أو القضيّةِ الأصل، والّتي تستلزمُ الكثيرَ مِن الخيالِ والذّاكرةِ والتّبصّرِ أيضًا، وِفقَ تناغمِ الحِسِّ معَ الصّوتِ، والصّورةِ مع الفكرةِ، والدّاخلِ مع الخارج، مِن دونِ أن يكونَ ثمّة إخلالٍ في المبنى العامّ للنّصّ/ القصيدة، وفي المناخِ القصديِّ المُوجّهِ أو المزاجيِّ، حدَّ الإدهاشِ في إرسالِهِ وانبعاثِهِ الشّعريِّ عمومًا:
رَحْمَةً بي..
رَحْمَةً بِتِمْثالٍ أَعْرَجَ يَتَصَخَّرُ
يَتَعَثَّرُ في فُجورِ فَجْر
تَتَنافَرُ نَبَضاتُهُ في وَهَنِ الاحْتِمال..
لا تُطْفِئي مَشاعِلَ الشِّعْرِ الغَضِّ
في أَرْوِقَةِ يَأْسٍ يزْحَفُ خَوَرًا
بَلِ انْهَمِري حَنانًا
يَنْضَحُني بِطُهْرِكِ
فَأبْرَأُ مِنْ يَبابي
رَحْمَةً بِاليَتَسَرْبَلُ أرْجُوانَ الوَجَعِ؛
تَخيطُهُ إبْرَةُ الشَّغَبِ بِخُيوطِ الشَّغَفِ..
إنّ ممارسةَ سُلطةِ الغوايةِ- كما أسلفنا- هي ممارسةُ ضربٍ مِن الضّبطِ الموضوعيِّ والشّكليِّ في الانفلاتِ والتّمرّدِ على الوحدةِ، بُغيةَ الحضورِ في المستوى الهمّيِّ العامّ والخاصّ معًا، فنزعةُ الإقامةِ في الحُلمِ مدفوعةٌ بإحساسِ فقدانِ الإقامةِ في الملموسِ والعيانيّ، فيكونُ لسُلطتِها (الغاوية) نزعتان تتناغمان في تصعيدِ مقترَحِ الإقامة، إحداهُما أرضيّةٌ وترقّبيّةٌ، متضمّخةٌ بسِلالٍ مفتوحةٍ لقطافِ الآنيّ واللّحظيّ، وتحتَ مؤثّراتِ الاستلابِ النّفعيِّ الشّديدِ لشهوةِ الحضور في تجسيدِهِ الأدنى، والنّزعةُ الأخرى نزعةٌ عُلويّةٌ سماويّةٌ تطهّريّة، وتحتَ تأثيرِ الخضوعِ الطّقسيِّ لسُلطةِ الحضورِ في تجريدِهِ الغيبيِّ، والمترفّعِ عن حدودِهِ الدّنيا، كونٌ خاصٌّ يُمارسُ عمليّةَ الشّهيقِ والزّفيرِ مِن خلالِ ذلك كلِّهِ، كطبيعةٍ متوحّدةٍ بينَ تجسيدٍ معنويٍّ، يجترحُ لذّتَهُ الحسّيّةَ والجنونيّةَ على السّطوحِ الخارجيّةِ للمرئيِّ، وبينَ تجريدٍ تأمّليٍّ يتوسّلُ الرّؤيا، كمتصوّفٍ يُمارسُ كشوفاتِهِ في الحُجبِ، أو راهبٍ يأخذُ دوْرَ المُعترِفِ باحتياجاتِهِ المؤجّلةِ في حضنٍ سماويٍّ، فنسيَ نفسَهُ وهو يَهيمُ تحتَ سُلطةِ غوايةِ الطّبيعةِ والجسدِ، في كنفِ صلواتِهِ ونداءاتِهِ الخاشعةِ، ارتجاعًا لخلاصٍ منشودٍ، وأعراسِ بهجةٍ، وزقزقةِ حنينٍ مفتقَدَةٍ!

في جسدِ العالَمِ الذّابلِ والخاوي مِن مباهجِ حضورِهِ ووجودِهِ، حيثُ يُقيمُ في ضبابِ أفقِهِ الهاربِ من أحلامِنا المنشودة:

لا تُزْغِبي أجْنِحَةَ صَلَواتي
بِأَرْياشِ الحَسَراتِ
أُمْسُسي واحاتِيَ الذَّابِلَةَ
بِخُشوعِ هَمْسَةٍ
وَلا تَعْبَثي بي
بَلِ ابْعَثي أَعْراسَ الزَّقْزَقَةِ
زَغاريدَ فَرَحٍ
في مَناقيرِ فِراخِ الحَنينِ!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.