د/ عبد اللطيف البغيل (*) : طلعت علينا وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية ببيان غريب كغرابة قرارات الإعفاء التي تصدرها في حق رؤساء المجالس العلمية وكذا أعضاء هذه المجالس الذين لم يعودوا يقومون بالمهام التي عينوا من أجل القيام بها، وحتى نبين وجه الغرابة في هذا البيان وفي قرارات الإعفاء الصادرة عنها، والتي تقدمت الوزارة مشكورة ببيان وجهة نظرها في مسالة تعليلها في بيانها المشار إليه نوضح ما يلي: أ- بالنسبة للبيان الصادر عن الوزارة فهو بيان غريب كما قلنا لأنه استعمل أسلوبا لا يليق استعماله من مؤسسة ذات خصوصية، ويفترض فيها أنها تسهر على الشأن الديني وتنفذ سياسته الرشيدة، التي يراها أمير المؤمنين نصره الله وأيده، ثم إنها كذلك تقوم بواجب إدارة أملاك الوقف وتسهر على تنميتها وتوسيع قاعدتها، وتعمل من جهة أخرى أعمالا كثيرة لا داعي لحصرها هنا، فغرضنا مما ذكرناه هو بيان ما لهذه الوزارة من شأن، وما يناط بها من دور مهم ينبغي أن تحرص كل الحرص على أن تصل إلى نتائج مرضية من وراء هذه الأعمال وتلك الأدوار وهذا لكي يتحقق على الوزارة أن تحسن مظهرها وتصون سمعتها بتجنب أمور كثيرة لا هي محمودة في نصوص الدين، ولا هي من مرامي النظم القانونية ولا هي من عوائد المؤسسات التي لها ارتباط وثيق بالنظام الاجتماعي وبأمنه الروحي كهذه الوزارة، ومن ذلك أن تختار هذه الوزارة الأسلوب المناسب لصيانة بياناتها الموجهة إلى الرأي العام، بحيث تتمثل فيه الوزارة بعضا مما تدعو إليه؛ من دفع بالتي هي أحسن وموعظة الحسنة وغير ذلك، وهو ما يغيب مع الأسف في هذا البيان، حيث اختارت الوزارة أسلوبا هجوميا اتهاميا، أقصت به قسما من المجتمع لمجرد أن له وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظرها، أو له مواقف سلبية من تصرفاتها التي هي تصرفات إدارية على كل حال، والشأن في التصرف الإداري أن يكون معرضا لردود أفعال متباينة من قبل المهتمين، بل إن كثيرا من هذه القرارات يطعن فيها أمام الجهات القضائية المختصة فيتم الغاؤها نهائيا، وقد نجد من ينتقد قرار الغاء هذا القرار القضائي أو غيره من القرارات القضائية، ويبين أوجه ذلك الانتقاد وأوجه المخالفة بحسب رأيه، فلا نجد هذه الجهة القضائية أو تلك تصدر بيانات شديدة اللهجة تصادر بها رأي المجتمع في الخلاف أو الانتقاد كما فعلت هذه الوزارة، مع أن هذه الوزارة بما أنها تعمل على تنفيذ السياسة الدينية في المملكة الشريفة عليها أن تكون قدوة لغيرها من مؤسسات الدولة، حيث يفترض فيها أن تكون على اطلاع على ما في الأحكام الشرعية من توجيهات إلى ما به يقوم النظام القائم على مبادئ السياسة الشرعية وأحكامها المرعية، لا أن تظهر وكأنها ضاربة بعرض الحائط بمضمون الخطابات الصادرة عنها كل أسبوع تخاطب بها من خلال خطباء الجمعة جموع المؤمنين والمؤمنات من رواد المساجد. - إعلان - فليس من السياسة ولا من الحكمة أن تتهم الوزارة قسما من المنتقدين بأنهم مغرضون ولا بأنهم موسوسون، فهؤلاء على كل حال أناس مثقفون وعلى قدر من العلم والمعرفة والاطلاع على مستجدات المؤسسات في البلاد، ولهم على العموم تأثير معين في المجتمع، أو على الأقل لهم تأثير واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، وهم يخوضون بآرائهم ويبدون مواقفهم في كثير من القضايا المتفاعلة في المجتمع، وليس من الحكمة ولا من السياسة استعمال الوزارة هذه التصنيفات واستخدام هذه الأوصاف في حق هؤلاء، وكأن الوزارة بذلك قد أقدمت على إقصاء هؤلاء من اهتماماتها وأدخلتهم بنفسها في زمرة المغرضين والموسوسين وغيرهم. مع أنه لا يعرف النوايا ولا ما تنطوي عليه الصدور إلا الله، فعلى الأقل كان على الوزارة أن تحسن الظن بهؤلاء وتترك أمرهم إلى الله، لا أن توجه لهم مثل هذه الأوصاف ثم بعد ذلك تختم بقوله تعالى: (ولله عاقبة الأمور) فماذا تركت الوزارة لله بعد أن حكمت على هؤلاء وفرغت من قضيتهم؟ ولو أن الوزارة تريثت قليلا وفكرت مليا، ولو أنها استعملت أسلوب الاحتياط في صياغة بيانها لأخرجت نفسها من دائرة الحرج ولقطعت الطريق عمن قد يخرج ليقول إن الوزارة حصرت مخالفيها في المغرضين والموسوسين وأغفلت عن قصد أو عن غير قصد طائفة أخرى لم تشر إليها وهي طائفة الذين قد تكون هذه الوزارة أصدرت في حقهم قرارات الإعفاء مع أنهم لم يعرف عنهم تقصير ولا تهاون في أداء ما كلفوا بقرارات التعيين للقيام به، وهؤلاء معذورون أكثر من غيرهم في الكلام بسبب إحساسهم بالظلم الذي نزل بهم استنادا إلى معطيات كاذبة واتهامات ملفقة توصلت بها الوزارة من هنا أو هناك، وبناء على هذا قامت الوزارة بإصدار قرار الإعفاء مباشرة دون الرجوع إلى الشخص المتهم بوشاية كاذبة أو إرسال لجنة له أو استفساره فيما نسب إليه من وقائع واتهامات، وهذه الفئة لا ينبغي تغييبها فهي موجودة حتى ولو غيبتها الوزارة. ب- وأما عن غرابة قرارات الإعفاء التي تصدرها الوزارة فإن الكلام عن ذلك يطول لكننا سنقتصر على أمور ثلاثة: أحدها: ما يعتري شكل هذا القرار من جمود، فهو شكل لا يتغير ولا يتبدل مهما تبدل الشخص المعفى، سواء كان رئيسا أو عضوا، مما يجعلنا نشبهه بالمطرقة التي تهوي على الرؤوس والشأن في المطرقة أنها معروفة الشكل بشعة المنظر قوية الأثر قاطعة للخبر محطمة لرؤوس البشر، فالضرب بالمطرقة مؤلم لمن وقعت على رأسه، قاطعة لخبره ماحية لأثره، ومخيف لمن شاهد الضرب بهذه المطرقة أو حدث بخبرها من غيره. فهذا القرار المطرقة يصدر بالإشارة إلى الظهيرين الشريفين المنظمين لعمل الرؤساء والأعضاء، ثم يقرر بعد ذلك سطرا فريدا يتضمن إعفاء الشخص، مذيلا بتوقيع المسؤول عن الإعفاء بحسب لغة البيان. فهذا هو الشكل الغريب لهذا القرار، فلا يمكن تمييز قرار إعفاء هذا الشخص عن قرار إعفاء غيره، إلا بقراءة الاسم، وأما بالنظر المجرد عن قراءة الإسم فلا يمنك التمييز بينها، وهذه غرابة ما بعدها غرابة، لأنه لا يمكن اتحاد ظروف إعفاء من أعفي في كل الأحوال، ومن المفترض أن تكون ظروف إعفاء هذا مختلفة عن ظروف إعفاء الآخر، وأن أسباب إعفاء هذا ليست هي نفسها أسباب إعفاء الآخر. الأمر الثاني: من مظاهر الغرابة في هذه القرارات إضافة إلى ما سبق، أنها لا تحمل رقما معينا ولا تعليلا ولا تشير إلى أي ملتمس من المجلس العلمي الأعلى بخصوص الإعفاء مع أن المجلس العلمي الأعلى غالبا ما يقال بأنه هو من اتخذ المبادرة بتقرير الإعفاء، وبهذا تضرب هذه القرارات في أهم المبادئ الأساسية الإسلامية والدستورية والحقوقية. فهذه القرارات تشوبها عيوب وثغرات، وكأن المسؤول الذي قرر الإعفاء بهذا يريد أن يقول لكل من ينتمي إلى الشأن الديني بأن إرادته وحدها تكفي وتظهر على كل القوانين والنظم، بل هي قانون من دون القوانين والنظم، فما الذي يمنع مقرر الإعفاء هذا مثلا من تعليل قراره وعدم تركه للتأويلات والاحتمالات؟ وأقل ذلك أن يحمل الأمر على إهانة العالم المعفى والتقليل من احترامه، أو يحمل على أن مقرر الإعفاء لا يملك تعليلا مقنعا يبرر الإعفاء، مما يجعله يخشى من ردود أفعال أو غير ذلك، وكل هذا يعد بخسا لحق الشخص المعفى وظلما كبيرا في حقه، وحرمانا له من حقه في المعلومة التي تخصه، وهي حق مقرر لجميع الناس بمقتضى الدستور المغربي، لكن المسؤول الذي اتخذ قرار الإعفاء قرر حرمان الشخص المعفى من هذا الحق دون مسوغ قانوني. الأمر الثالث: أن الغرابة الكبرى في هذا البيان إضافة إلى ما أشرنا إليه من مظاهر الغرابة تكمن في العبارة التي بررت بها الوزارة عدم تعليلها لقراراتها بإعفاء المسؤولين في المجالس العلمية أعضاء ورؤساء، حيث قالت في بيانها ما يلي:( … الإعفاء من التكليفات غير النظامية ويتحمل مسؤوليته من تحمل مسؤولية التعيين، وتبرير التعيين غير مذكور، ولكنه ضمني وهو أن المعين سيقوم بكل ما تتطلبه مهمته، ومبرر الإعفاء وإن لم يذكر فهو ضمني أي أن الشخص لم يعد يقوم بما يتعين عليه.) فهذا التبرير لعدم التعليل يعد من الغرابة بمكان، حيث إن الوزارة هنا قد قاست عدم تعليل الإعفاء على حالة عدم تعليل التعيين وهذا قياس فاسد، لأن الوزارة جعلت البابين بابا واحدا مع ما بين البابين من فرق كبير، ذلك أن التعيين يتم بالاستناد إلى ظهير شريف وفيه نجد أن تعيين الشخص يتم لمكانته العلمية ولوطنيته ولاطلاعه على تاريخ المملكة المغربية الشريفة ولغير ذلك من الصفات حسبما أذكر، ومن ثم فإن قرارات التعيين وإن لم تعلل فلا ينشأ عن ذلك أي ضرر للشخص المعين، كما أن غيره لن ينظر إلى هذا التعيين بما يحوجه إلى معرفة حيثيات التعيين، ويكتفي بأن يعلم أن فلانا المعين، شيخ أو أستاذ أو دكتور أو عالم وهذا يكفي، وبهذا يتلقى الشخص المعين التهنئة ويبارك لك هذا التعيين، مع ما يصاحب ذلك من أجواء الفرح بهذا التكريم. وليس كذلك الإعفاء، فإنه لا يمكن الاكتفاء في قراره بالتعليل الضمني وكيف يكون التعليل ضمنا في قرار الإعفاء وهو يخلو من أي قرينة تدل على هذا التعليل، بل إن الإعفاء غير المبرر أو غير المعلل يترك الباب مفتوحا للتأويلات والاحتمالات، فقد يفهم من هذا القرار مثلا أن هذا الشخص أعفي لعدم كفاءته العلمية، أو لتقصيره في القيام بما كلف به، أو لارتكابه خطأ جسيما، أو لسقوط مروءته بارتكابه ما يخل بالآداب والأخلاق الحميدة، أو لغير ذلك من الاحتمالات التي قد تجول في خاطر الشخص المعفى قبل غيره من المحيطين به من أهله ومعارفه ومجاوريه وأقرانه وهلم جرا، فكيف يستدل من خلال مثل هذه القرارات الخالية من التعليل على المبرر الحقيقي للإعفاء؟ وهذا أمر لا مبرر له إطلاقا، لما فيه من مساس بكرامة الأشخاص الصادرة في حقهم قرارات الإعفاء، وإضرار بسمعتهم، بالإضافة إلى الأضرار النفسية الأخرى التي ما كانت لتحدث لو احتكمت فيه الوزارة إلى ما يجري به العمل في كل الإدارات المغربية. والسلام.